فنون بصرية د. محمد سمير عبد السلام - التصوير الفوتوغرافي بين الاتساع الإنساني وتجدد إدراك الظواهر والأشياء في مجلة ناشيونال جرافيك العربية

تقع الصورة الفوتوغرافيا دائما بين التوثيق، و الرؤى الجمالية، و الفلسفية النسبية للمصور؛ و من هذه المسافة التداخلية ينبع تأثيرها العميق، و المباشر في المتلقي؛ فهي تعكس الحقائق، و الثقافات، و الوقائع الصغيرة بصورة متجددة تتجاوز صمت الأشياء، و التغيرات اللاحقة في بنيتها الزمانية، و المكانية؛ و من ثم يشعر متلقي المجلات المصورة بامتلاك لحظة فريدة في الماضي تبدو كشاهد على واقعة، أو حياة لا يمكن محو أثرها من الوجود.
و قد خصصت مجلة (ناشيونال جرافيك العربية)، عدد أكتوبر سنة 2013 ملفا حول تأثير الصورة الفوتوغرافية، و قيمتها الفنية، و ارتباطها بالكون، و الضمير البشري، و حياة الإنسان اليومية، و ثقافته، و أزماته، و الجماليات المميزة للقطة الفوتوغرافية نفسها؛ إذ تجسد لقاء الوعي بالواقع من خلال المنظور، و قدرته على الاكتشاف، و التعديل، و امتلاك اللحظات الفريدة ممزوجة بالرؤية الذاتية في تشكيل فني مختلف، و مؤثر، و تناول العدد مميزات التصوير لدى فريق المجلة عبر تاريخها، و ما قدموه من تضحيات؛ لأجل كشف علمي، أو توثيق لحظة تؤثر في مدى تحقق حدث ما، أو تدفع لتطور مسار السلام في العالم، أو تجسد مشاهد استثنائية في الطبيعة، و غيرها.
و بصدد الحوار الفلسفي، و الجمالي مع الصورة الفوتوغرافية، و طبيعتها يتساءل (رولان بارت) حول السبب الذي يدعو لتمييزموضوع ما في لحظة بعينها، دون غيره من الموضوعات، و يناقش مدى التوافق، و المطابقة بين الصورة، و المرجع، و يؤكد فكرة الاختفاء التي تصاحب الصورة؛ لما يحيطها من مؤثرات، و انفعالات، و خيال.
(Read / Barthes /Camera Lucida / Translated to English by Richard Howard /Hill and Wang /New York 1982 /p.6).
يرتكز بارت – إذا – على نشوء اللقطة من مرجع واقعي قابل للتحول، و إعادة الإنتاج الكامنة في عملية الاختيار، و ما يحيطه من مؤثرات تعيد تشكيل لحظة الحضور الأولى، دون أن تنفصل عنها في الوقت نفسه؛ و هو ما يؤكد خصوصية اللقطة في علاقتها الإنتاجية بالواقع، و تحليل طرق تلقيها انطلاقا من فهم طبيعتها الاستثنائية؛ و هو ما يعزز تفضيل القراء للمجلات المصورة، و شعورهم بالتواصل الصامت مع الصور، و إيماءاتها في مجالي الجمال، و الكشف.
* تجربة ذاتية جمالية حول الصورة:
تفتتح الكاتبة السعد المنهالي العدد بتأكيدها أن الصورة الكاشفة، و الحامية هي سر تميز ناشيونال جرافيك، و ترسم بقلمها صورة فوتوغرافية ذاتية، و موحية حول تفاعلها بمشهد مدير أرشيف الصور بالمجلة؛ و هو بيل وليم بونر، و تطلق على لقطتها المكتوبة اسم (الجوهرة الأثيرة)، و تصف الرجل بالحكيم الذي يقدر قيمة الصور، و يمسكها بحذر شديد، و في يده عدسة مكبرة؛ و كأنه صانع جواهر، و يحكي عنها بدقة بالغة.
و يجسد المشهد المصور في كلمات الكاتبة اللقاء بين الذات، و الموضوع في فن الفوتوغرافيا؛ فثمة إضافات تأويلية متجددة تنبثق في الوعي حين يعاين عالما استثنائيا، أو شخصا مختلفا مؤثرا في لحظة زمنية لا يمكن تكرارها؛ فقد استحال ظهور مدير الأرشيف، و معاينته للقيمة الجمالية للصورة إلى تأويله كحكيم، أو صانع جواهر، بينما تجلت الصورة كجوهرة، أو تجربة مؤثرة تقع بين لحظتين ثمينتين في الماضي، و المستقبل؛ و كأنها تتجاوز التوثيق إلى إعادة القراءة المتكررة في المستقبل الذي يصل المشاهد بالماضي الاستثنائي، و بجماليات اللقطة، و إمكانية قراءة التجارب الاستثنائية بطريقة التصوير الفوتوغرافي في التسجيل المختلط بإضافات الوعي مثلما فعلت الكاتبة.
* قيمة الكشف:
يسرد المصور المكسيكي (كوري ياسكولسكي) تجربة تصوير بقايا بشرية تعود إلى أكثر من تسعة آلاف عام داخل بئر (هويو نيغرو) المليء بالمياه الجوفية، و مدى الاستعانة بجهاز إضاءة قوي، ثم صعوبة برمجته للتزامن مع لحظة التقاط الصورة فقط.
و تدل تلك التجربة على قيمة الكشف في حياة المصور، و مغامرته للحصول على لحظة إضاءة واحدة تنير طريقا للعلم، و التفكير، و الجمال؛ فالمصور يستعين بالتقنية؛ ليحارب العتمة، و استتار الماضي، ثم يبتهج بالظهور، و طيران الشيء المصور في المجلات، و الصحف؛ و من ثم إعادة اكتشافه فنيا، أو علميا من قبل العلماء، و النقاد، و المحللين؛ فالتصوير تقدير لقيمة الكشف، و مضاعفة له في آن.
* اتساع الفوتوغرافيا، و لغة التوثيق الإيحائية:
و يستشرف (جيمس إسترين) شكولا أخرى من التوسع في التصوير الفوتوغرافي في مقاله (العالم قرية مرئية)، و يرصد ظاهرة اتساع التوثيق بالكاميرا، أو الهوس بالتوثيق في اللحظة الراهنة؛ فقد نلتقط صورة لوجبة إفطارنا، أو لقط أنيس، أو لوجبة إفطار القط نفسه.
و أرى أن توثيق الأشياء الهامشية في الحياة اليومية يدل على أمرين:
الأول: اتساع رقعة تخييل الواقع، و تجزئته إلى لحظات فريدة ممزوجة بحضوره الأول في الذاكرة؛ و من ثم يختلط العادي، بالاستثنائي، و تكتسب الأشياء الصغيرة قيمة بوصفها وثيقة تتجاوز النمطية، و التكرار؛ لأن التجزئة التي تقوم بها الكاميرا للمشهد، و زاوية النظر النسبية للفنان تمنحها قيمة الاختلاف، و التفرد.
الثاني: التواطؤ الجمالي من قبل المصور نفسه مع لحظات الواقع العادية؛ إذ يضيف مؤثرات خاصة بالإضاءة، أو يشير إلى رؤية ضمنية تشملها بؤرة التصوير؛ و قد أضافت المجلة مجموعة من الصور للمقال توحي بذلك التوسع الجمالي؛ مثل إضاءة حمراء على وجه امرأة أفريقية، و إخفاء وجوه مجموعة من الرجال، و إظهار وشم على قدم امرأة، و وضع شفاه امرأة أفريقية في بؤرة التصوير، و الارتكاز على الروج الأحمر، و تصوير فراشة من زاوية قريبة، و إبراز المفارقة بين دكنتها، و ألوان السماء الفاتحة الصافية.
و يشير المؤلف إلى شكول متجددة من التصوير الفوتوغرافي سمحت التقنيات الإلكترونية بتطويرها؛ مثل خاصية (Google Street View)؛ فيمكن للمتلقي أن ينتقي ما يشاء من مشاهد، ثم يدعي ملكيتها، ثم يستشرف شكولا أخرى في المستقبل؛ إذ يمكن أن يستخدم البعض الصورة ليبدع بها شعرا، أو يستخدمها آخرون لتدوين المشتريات.
إننا هنا أمام تشكل لغة فوتوغرافية واسعة تؤكد ثقافة الجمال، و كذلك التعبير البسيط المباشر عن الرؤى الفكرية، و الثقافية المعقدة، و تنمية اللغة الإيحائية بين البشر، و الحوار التعبيري الصامت، و المصاحب للمناقشات الإيجابية في عملية التواصل اليومي.
* تأكيد القيم الإنسانية، و الجمالية:
يشير (روبرت درايبر) إلى ارتباط الصورة في ناشيونال جرافيك بالضمير الإنساني، و إمكانية التأثير في كوارث الواقع، و الطبيعة، أو الانحياز إلى قيم الجمال، و يمثل لذلك بتصوير حرب مناجم الذهب بجمهورية الكونغو الديمقراطية؛ فالمصور يتمنى أن تصل تلك المشاهد إلى تجار الذهب في سويسرا؛ كي يعيدوا النظر في مسألة التهافت على شراء المعدن الأصفر، و التكسب من فواجع الآخرين.
ثمة بعد إنساني – إذا – يكمن فيما وراء الصورة حول عبث الصراعات البشرية، أو مآسي الواقع يدفع لتغيير المستقبل إلى الأفضل انطلاقا من عبور القبح إلى مساحة جمالية أرحب؛ و كأن الصورة مرآة تعكس الواقع، و تسهم في تعديله، و تنقيحه في الوقت نفسه.
* تفاعل الثقافات، و تجسيد الصورة لمسألة الأعراق المختلطة:
و نلاحظ امتداد الصورة إلى نطاق الأعراق المختلطة؛ و من ثم تداخل الأفكار، و الثقافات، و الأعمال الفنية في وعي الأشخاص الجدد، و ذلك في بحث (ليزي فاندربرغ) المعنون ب (وجه أمريكا المتغير)، و تصاحبه مجموعة من الصور بواسطة المصورة (مارتن شولر)، و تضرب المؤلفة مثالا لحالة الطفل (يوئيل)، و عمره سبع سنوات؛ و هو مولود لأم أمريكية من أصل أفريقي، و لأب مكسيكي، و يطلق عليه لقب (بلاكسيكان)؛ أي (أسود – مكسيكي)، و في منزله تتجاور صورتا مارتن لوثر كينج بجانب صورة الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو.
و تجسد هذه الرؤية الإنسانية عن الأعراق، و الثقافات دلالتين:
الأولى: تجسيد الأشكال التفاعلية من الهوية من خلال لقاء الصفات الأصيلة بالصفات الإنسانية الكامنة في الآخر؛ و من ثم تزداد حدة اللقاء، و التفاعل بين الفنون، و العادات، و الأفكار في فضاء واقعي يشبه الفضاء العالمي المعرفي للإنترنت، و يحدث التمازج بين الواقع العرقي، و فضاء المعلومات عبر وسيط الصورة الكاشفة لوجوه هؤلاء الأطفال الجدد.
الثانية: تجسد الصورة لحظة من التداخل المعقد في لون البشرة، و ما يوحي به كل من الأنف، و الفم، و نمش الوجه من لغة إنسانية مشتركة، و منفتحة على الآخر من جهة، و تحمل في ذاتها أصالة جمالية خفية من جهة أخرى.
و تؤكد تلك المجالات الثقافية، و الفكرية، و الجمالية التي رصدتها المجلة قدرة الصورة على الإنتاجية التي تنبع من تاريخها، و طبيعتها التوثيقية، و ما يمكن أن يضيفه الإنسان إليها من استخدامات مبتكرة، و جمالية واسعة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى