فنون بصرية سوزان سونتاج - عن الفوتوغرافيا.. تقديم وترجمة: محمد سمير عبد السلام

أولا : مقدمة الترجمة :
أحدث فن الفوتوغرافيا طفرة واضحة في العلاقة المعقدة بين المجازي و الحقيقي . تلك العلاقة التي مرت بأطوار كثيرة منذ تضخم الأثر في النقوش الجدارية ، حتى بلاغة اليومي ، و الجاهز في فنون ما بعد الحداثة .
و رغم ارتباط الفوتوغرافيا بالنزعة التسجيلية ، فإنها تفجر عددا كبيرا من الأسئلة المعرفية ، و الوجودية ، و تلك الخاصة بتطور الفن ، و حركاته الطليعية انطلاقا من الذوبان الكامل للحدود بين الفني ، و الحقيقي ؛ فقد بدأت الموضوعات التي ترتكز على أحادية الذات المتعالية ، أو الحقيقة اليقينية في الأفول منذ انتشار الممارسات الفنية الملتبسة المعاصرة .
و دراسة سوزان سونتاج – التي نقدم جزءا منها بالعربية – هي الأهم في الفكر الغربي المعاصر حول هذا الفن ، فضلا عما قدمه جان بودريار من مقالات ، و ممارسات في المجال نفسه .
لقد وسعت سوزان سونتاج من دائرة الامتلاك الفني ، و الوجودي للعالم عن طريق الكاميرا ، و كشفت عن التناقضات الخفية لهذا الفن ، و ثرائه بالدلالات .
و قد كان لهذه الدراسة تأثير معروف في الممارسات الفنية المعاصرة ، المتجاوزة لما بعد الحداثية ، و التي اعتمدت على الغموض الكامن في نقاء الصورة الطبيعي . و كذلك تأثر بها النقاد الجدد المهتمون برصد حركات التطور في الفنون الجميلة .
محمد سمير عبد السلام – مصر


ثانيا : عن الفوتوغرافيا
بقلم : سوزان سونتاج
ترجمة : محمد سمير عبد السلام
مازال البشر يمكثون – دون تجدد – في كهف أفلاطون ، و يجدون متعة في تلك العادة القديمة التي تجرد الصور من الحقيقة ، و لكن ما تعلمنا إياه الصور الفوتوغرافية يختلف تماما عما تعلمناه من الصور الفنية الأسبق ؛ و ذلك لوجود الكثير من الصور العظيمة التي تستحق أن ننتبه إليها في كل مكان في العالم .
و قد بدأت الفوتوغرافيا في التراكم منذ عام 1839 ، و منذ ذلك الوقت صار بإمكان أي شيء أن يتحول إلى صورة فوتوغرافية ، هكذا يبدو الأمر ؛ فقد غيرت العين الفوتوغرافية التي لا يمكن أن تشبع ، الإمكانيات التعبيرية التي كانت حبيسة في كهف أفلاطون ، و كذلك غيرت عالمنا كله ؛ فقد علمتنا رمزا بصريا جديدا ، و غيرت تصوراتنا ، و وسعتها حول ما هو جدير بالنظر إليه ، و كيف نملك حق الملاحظة .
إنها تؤسس لقواعد ، و الأكثر أهمية لأخلاقيات الرؤية البصرية ، و أخيرا فإن النتيجة العظمى لمشروع التصوير الفوتوغرافي تكمن في أنه يمنحنا إحساسا بأنه من الممكن أن نتصور العالم بأكمله كقطوف تخيلية أدبية .
إن تراكم الصور يعني تراكم العالم ، فالأفلام السينمائية ، و برامج التليفزيون التي تنير الحوائط ، تومض ثم تذهب ، و لكن الصور الفوتوغرافية تتمتع بالثبات ، و من ثم تظل أخيلتها موضوعا مدركا بالحواس ، هذا الموضوع رخيص التكلفة ، و يسهل الحصول عليه ، و يمكن مراكمته و تخزينه .
في فيلم جودار السينمائي لي كارابينيرز 1963 تم إغراء اثنين من الفلاحين الفقراء ؛ مايكلانجلو و أوليس ، بالانضمام لجيش الملك ، و نص العهد على أنه بإمكانهما السلب ، و النهب ، و الاغتصاب ، و القتل ، و أي شيء آخر يريدونه في العدو ، ثم يصبحان من الأثرياء ، و لكن حقيبة النصر التي ربحها كل منهما ، و قد عادت لزوجاتهما ، كانت مليئة بالبطاقات البريدية التي حوت المئات منها صورهما ، و كذلك مجموعة من الآثار ، و الأنصاب التذكارية ، و حكايات الحرب ، و الحيوانات ، و عجائب الطبيعة ، و وسائل النقل ، و أعمالا فنية ، و بعض كنوز المصنفات المنتخبة من أنحاء الأرض .
إن جودار يحاكي بسخرية السحر الملتبس في الصورة الفوتوغرافية عن طريق الحبكة ، و الحيلة الفنية ، و ربما تكون الصور الفوتوغرافية هي أكثر الموضوعات غموضا في صناعتها ، و تعديلها المركب ، و محيطها المتجدد .
إن الصور الفوتوغرافية تأسر التجربة حقا . أما الكاميرا ، فهي السلاح النموذجي للوعي حين يعبر عن مزاجه المولع بعملية الاكتساب .
حينما نشرع في عملية التصوير الفوتوغرافي ، فإننا نأسر الشيء الذي نقوم بتصويره . يعني هذا أن المرء يضع نفسه في علاقة يقينية مع العالم الذي يبدو شبيها بالمعرفة ، و من ثم بالقوة .
لقد تولد الإخفاق المعاصر من العزلة ، و الانسلاخ ، و ترويض الناس على تجريد العالم في الكلمات المطبوعة ، و قد أحدث هذا فائضا من الطاقة الفاوستية ، و ضررا نفسيا ، و حاجة لبناء مجتمعات حديثة معقدة . و تبدو الطباعة في هذا السياق شكلا أقل خيانة - من جهة تحويل العالم إلى موضوعات عقلية – مما يحدث في الصور الفوتوغرافية ؛ تلك التي تزود الكثير من الراغبين في المعرفة بالنظر إلى الماضي ، و فهم الحاضر ، و ما إذا كان المكتوب عن الشخص ، أو الحدث يمثل تفسيرا حقيقيا ، كما يحدث أيضا في البيانات البصرية للوحات و الرسوم . و لكن الصور الفوتوغرافية لا تبدو روايات عن العالم . إنها قطعة منه ، فبإمكان أي شخص أن ينتج نسخا كثيرة من الحقيقة ، و يقتنيها .
إن الصور الفوتوغرافية التي تعبث بالمقياس العالمي ، هي نفسها ينالها التهذيب ، و التضخيم ، و تصبح ذات قيمة ، و تدخل حركة البيع ، و الشراء ، و يعاد إنتاجها باستمرار ، و مثلما تجمع الصور العالم في مجموعات مرتبة ، أو صناديق مغلفة ، فإنها توضع أيضا في ألبومات ، و تلصق على الطاولات ، و الحوائط ، و تستخدم كشفافيات متحركة . كما تبرزها الصحف ، و المجلات ، و ترتبها أبجديا ، و تعرضها المتاحف ، و يضعها الناشرون في مصنفات .
و قد كان الكتاب – لعقود عديدة – هو الوسيلة الأفضل لجمع الصور و تبويبها ، في حجم صغير ، و بذلك يكون أكثر ضمانا لمدة الحفظ ، إن لم تصل إلى درجة الخلود ؛ لأن الصور الفوتوغرافية هشة ، و يسهل تمزقها ، أو ضياعها ، كما أنها أكثر رواجا .
و لكن عندما تحفظ الصورة في الكتاب ، تكون صورة عن صورة ، أي ذات وضوح أقل ، و حينما تمت طباعتها مستقلة في تكوين أملس ، استعادت جودتها ، التي فقدتها في الكتاب ، و التي كانت أسوأ حالا من طباعة اللوحات الزيتية بالطريقة نفسها .
إن متوالية الصور في الكتاب تشاهد من خلال اقتراح تسلسل محدد للصفحات دون مبرر مقبول ، أو دليل للوقت الذي تستغرقه كل صورة على حدة .
في فيلمه " لو كان لدي أربعة جمال " 1966 يقترح كريس ماركر عرض الصور من خلال الفيديو ، و هي طريقة تسمح بتأليف تأملي متألق لكل أنواع الصور الفوتوغرافية ، و موضوعاتها ، و هي طريقة أكثر دقة من حيث الحفظ مع الاتساع ، و كذلك من حيث الوقت المفترض للعرض ، و الوضوح الزائد . و لكن الصور المنسوخة في الفيلم – و كذلك الكتاب - ليست قابلة للتراكم .
إن الصور الفوتوغرافية تزودنا بالدليل الواضح ، و قد يشكك البعض في مصداقيتها ، و لكن لا ينبغي أن يتأكد الشك إلا عندما نحصل على صورة مقابلة تتطابق معه .
و قد ارتبطت الفائدة الأولى للفوتوغرافيا ، باستخدام الكاميرا كأداة لتسجيل الجريمة ، و استخدمتها شرطة باريس – في سياق القتل الشامل للكميونة في يونيو 1871 ، ثم أصبحت ذات فائدة في عمليات المراقبة ، و التحكم في المجتمعات الحديثة ، و بخاصة مع تزايد السكان .
و من زاوية أخرى تسجل الكاميرا براءة الموجودات ، إذ إنها تكشف البرهان الذي لا يقبل الجدل بأن الشيء الذي اكتسبناه قد حدث ، حتى لو افترضنا أن الصورة محرفة ، فسيظل هناك حدس قوي بأن شيئا ما قد دخل دائرة الوجود ، أو اللاوجود .
و مهما تكن عوامل التحريف ، أو البراعة الذاتية للمصور ، فإن الصورة الفوتوغرافية تمتلك قدرا كبيرا من براءة التسجيل ، و الاقتراب من الحقيقة البصرية أكثر من الأعمال التمثيلية ، فالصور الاستثنائية التي أنتجها كل الرواد مثل ألفريد ستيجلز ، و بول ستاند ظلت محفورة في الذاكرة لعقود طويلة . و كانت عملية ملاحظة الشيء خارج المكان ؛ لأجل من تلتقط له الصورة هي البداية ، ثم بدت اللقطات الفوتوغرافية كتذكارات للحياة اليومية كما هو الحال في معارض شاتيرباج .
و بينما يفتقد الرسم التأويل الانتقائي الدقيق ، فإن الصورة الفوتوغرافية يمكن التعامل معها بشيء من الدقة . و لكن رغم صدق افتراض الثقة ، و المرجعية في الصورة ، فإن العمل الذي يقوم به الفوتوغرافيون لا يتسم بالشمولية ، باستثناء ذلك الغموض المتبادل المعتاد بين الفن ، و الحقيقة ، و لو حرصوا على النزعة التسجيلية ؛ فمازالت تحركهم من الداخل دوافع الذوق ، و الضمير .
و قد أخذ رواد الفوتوغرافيا في الثلاثينيات – مثل والكر إيفانز ، و دوروثيا لانج ، و ين شان ، و روس لي – مجموعات كبيرة من الصور التي عبرت بدقة عما يرضيهم من الأفكار ، مثل دعم التعبير عن الفقر ، و النور ، و الكرامة ، و البنية الجماعية ، و الاستغلال ، و الهندسة .
دائما ما وجد الانحياز لاتجاه في أعمالهم بالرغم من الإحساس بأن الكاميرا تأسر الحقيقة ، و ليست مطالبة بتفسيرها .
إن الصور الفوتوغرافية – مثل الرسم – تقدم تأويلا للعالم ، فالصورة حينما تلتقط تتسم بغموض نسبي ، و من ثم فهي تحمل بداخلها قدرا من المحو الذاتي ، و لا يقلل هذا الأمر من تعليمية المشروع . و لكن سمة المحو هي أيضا كلية الوجود ؛ فالتسجيل الفوتوغرافي هو رسالة الفوتوغرافيا ، و كذلك سلوكها العدواني .
إن الصور النموذجية مثل ، لقطات الأزياء الشائعة ، و الحيوانات ليست أقل عدوانية من الإعمال ذات الانحياز الواضح مثل ؛ لقطات الطبقة الاجتماعية ، و الأنماط الانعزالية ، و الوجوه ؛ فثمة عدوان ضمني في كل استخدام للكاميرا . و يذكرنا هذا بمجد الفوتوغرافيين في أربعينيات ، و خمسينيات القرن التاسع عشر ، حينما حققت التكنولوجيا فرصة الانتشار الكبير لهذا العقل الذي يرى العالم كمدونة ، أو مجموعة من الصور الحبيسة .
إن الرواد الأوائل الذين استخدموا الكاميرا للحصول على صور فنية مثل ديفيد أوكتافيوس هيل ، و جوليا مارجريت كاميرون ، تضمنت أعمالهم في البداية الرغبة في أسر الموضوعات الممكنة بدرجة كبيرة .
و لم تكن الصورة الفنية تقع في سياق إمبريالي ، و لكن التصنيع قد اتجه نحو دمقرطة كل الخبرات عن طريق تحويلها لصور . و قد انتقلت مرحلة التكلفة العالية التي تستلزم البطء ، و الإجهاد ، و ارتفاع ثمن الأدوات ، و لزوم الرشاقة ، و الثراء ، إلى شيوع كاميرات الجيب الخفيفة التي تغوي أي شخص بالتقاط الصور .
و قد صنعت الكاميرات الأولى في فرنسا ، و انجلترا في الفترة المبكرة من أربعينيات القرن التاسع عشر ، و لم يكن هناك فنانون محترفون ، و كذلك لم يكن هناك هواة ؛ فقد كان التصوير فعلا مجانيا ، مع وجود دافع خفي لكي يصير فنا .
إن صناعة الكاميرا حملت بداخلها الدلالة الفنية ، ثم زيادة الاستخدامات الاجتماعية الوظيفية ، و قد كان رد الفعل المضاد لهذه الاستخدامات هو تعزيز الوعي الذاتي بالفوتوغرافيا كفن .
* هامش :
سوزان سونتاج ( 1933 – 2004 ) مفكرة ، و ناقدة ، و روائية ، و كاتبة سياسية من أمريكا ، من أعمالها الروائية " محب البركان " 1992 و " في أمريكا " 1999 و من دراساتها " الإيدز كاستعارة " 1988 و " آلام الآخرين " 2003 .
و الجزء المترجم من كتابها " عن الفوتوغرافيا " منشور على موقعها على الأنترنت ، على :

http://www.susansontag.com/onphotographyexcrpt.htm


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى