فنون بصرية د. عباس آل مسافر - اللون بوصفه علامة ثقافيّة

تزخر الحياة بكل تقلباتها بأطياف متنوعة ومختلفة من الألوان؛ ولكل حالة من الحالات التي يعيشها الإنسان بأفراحها وأحزانها لون معين يكون انعكاساً للمزاج الذي يمرُّ به؛ إذ يُثبت تأريخ الحضارات بأنَّ الإنسانَ قد عرَف منذ أكثر من 200 ألف سنة ، فأكتشف الآثار التي تتركها الألوان على بعض الكائنات وتابع بشكل فطريّ التغيرات الناتجة عن ذلك، ويرتبط عدد من الألوان ببعض الطقوس والعادات التي ترسختْ فيما بعد وأصبحت عقائد متجذّرة لا يمكن الابتعاد عنها أو غض الطرف عن أهميتها، أو مجافاة الاهتمام بها؛ لأنّها من أغنى الرموز اللغويّة التي توسع مدى الرؤيا؛ إذ إنّه لكلِّ لون خصائص انفعاليّة يستجيب لها البصر ويغذّيها الخيال، وتستثير المتلقّين على اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم، فتتباين عاداتهم وتقاليدهم، وهناك علاقة وثيقة بين المثير والاستجابة الناتجة عن اللّون، غالباً ما تكون مرتبطة بالمرجعيّات الثقافيّة أو البيئة التي نشأت فيها تلك الألوان، وهذا يعني افتراض وجود علاقة بين )المعجم اللّونيّ) وبين (مجالات التعبير) الحقيقيّة أو المجازيّة للخطاب الثقافيّ.

ويأتي ارتباط السيميائيّات بالمجال اللوني بوصفها ـ السيمياء ـ علماً يتناول كل العلامات التي نراها يومياً، وفي كلِّ الموجودات جامدة أو حيّة. فإنّ الألوان واحدة من أهم الإيقونات التي اهتمت بها (السيميائيّات) من جهتين، الأولى بوصفها ـ أي الألوان ـ تشكيلاً بصريّاً يحملُ عدداً من المستويات الدلاليّة، والثانيّة بوصفها اقتصاداً لُغوياً يُستثمر سماتٍ لسانيّة لتكوين قنوات تواصليّة جامعة بين المتلقي والباث للرسالة. ويثبت المتخصصون ذلك بدراسة نظرية الألوان وتأثيراتها على الإنسان بالتجربة العمليّة، فسيمياء الألوان تتدافع مع العواطف النفسيّة لدى الإنسان؛ إذ إنّها تثير فيه مختلف المشاعر والاحاسيس من إحباط وتفاؤل ورغبة وغيرهما، فلكلُّ لون مزاياه المثيرة والمحفّزة، وبخلاف الناحية الجماليّة فإنَّ دراسة تأثير اللّون على سيكولوجيّة وفزيولوجيّة الجسم البشريّ قد أعطت نتائج يمكن الاستفادة منها في توضيح مدى العلاقة.

وترتبط سيمياء الألوان وشفراتها بالنّصوص الأدبيّة من خلال توظيفها أو توضيح الكيفيّة التي يتم استعمالها في النّص شعراً ونثراً، فضلاً عن ذلك ما توحيه من رموز وعلامات ثقافيّة ذات مرجعيات ومقولات متنوعة تساعد في تفسير العمل الأدبيّ وتشريحه والوقوف على اُسس الجمال فيه أو مواطن الضعف والخلل لنقدها وتقويمها.

وقد تكون هناك علاقة رابطة بين الألوان وبين أسمائها، المستوحاة من التأثيرات التي تسببها بعض الحركات التي يقوم بها الكائن الحي وما ينتج عنّها من ردود فعل، ومن خلال هذا الترابط التفاعليّ فاللغة العربية مملوءة بتعبيرات ملوّنة ربما تتعلق برد فعل فيسيولوجي أو نفسي لدى الإنسان، فاذا ما ضحك ضحكة صفراء، فربما كانت الصفراء هي (العصارة المرارية) التي تلعب دوراً في هذا النوع من الغضب المكبوت، وإذا قيل إنّ هذا الشخص يتطاير الشرر الأحمر من عينيه، هذا لأنَّ الدم الذي يزدحم في الرأس يتأثر به النظر، هذا اللون الأحمر يعني الإثارة والفعل القوي، أمّا إذا خفف وخفض تأثيره فإنّه يصبح وردياً، دلالة على الحياة السعيدة النشطة اللطيفة، فيقال حياة وردية وهذا يعني السعادة والاتزان في العيش، والأسود فإنّه يعني انعدام اللون والضوء، إنّه الحزن والموت الذي يرمز له وقد قيل إن للون جوانبه السيكولوجيّة، فمن يختار لونا ما، فإنّما يحكمه موقف ما، ومن هنا ذهب البعض إلى القول بأنَّ في كلَّ لغة من لغات العالم مجموعة من الألوان التي تفرض دلالالتها على نفسيّات المجتمع، فنجد هناكَ من يحب اللون الأخضر، لارتباطه بفصل الربيع، ومنهم من يحب اللون الأزرق لارتباطه بزرقة السماء أو البحر، والبعض الآخر يعشق لوناً معيناً لاقترانه بيوم طيب وسعيد، فيبقى يذكّره بهذا اليوم، وهكذا مع أنَّ هذه الدلالات تتغير بتغير الظروف والأزمنة والمؤثرات النفسية والمقاييس الذوقية لكلِّ فرد. بينما يختلف استعمال بعض الألوان المتضادة باختلاف البيئة، فمثلاً يستعمل اللون الأبيض في بعض البلدان للإشارة إلى الحِداد على الموتى، بينما في بلدان أخرى يكون اللون الأسود هو لون الحزن والحِداد، ويعود هذا التباين في الاستعمال إلى الفلسفة تجاه بعض الألوان والنظرة التي يؤمن بها كل شعب من الشعوب.

وقد وقف الدارسون كثيراً على دلالات الألوان والكيفيّات التي وظّفها (القرآن الكريم) في بعض آياته، إذ حلّلوا استعمال ألفاظ الألوان على ضوء المناهج النقديّة الحديثة فوجدوا على سبيل المثال، إنَّ اللون ينقلب دلالياً داخل بعضها ليأخذ لوناً آخر غير لونه الأصليّ، فيكوّن إزدواجية اللون الأصلي شكلاً، واللون الطارئ عمقاً، فعندما نقرأ مثلاً قوله تعالى (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) يوسف:84 ، فالحزن الذي هو جدلية البكاء ومع الألم الروحيّ ولد العمى الذي هو في عمقه سواد غير ظاهر لكنَّ إبيضاض العين هنا هو الذي كان (سيمياء العمى) وليس السواد، حيث تحول اللون الأبيض الى أسود بالمعنى، فكوّن إيقاعاً بين هذا التضاد العجيب في شخص يعقوب النّبيّ (عليه السلام) فتحول هذا البياض السلبيّ إلى بياض إيجابيّ مستقبلاً حينما اُلقي قميص نّبيّ الله يوسف على وجه أبيه، فرجع بصره الذي هو في إحدى دلالاته البياض الشكليّ والجوهريّ أيضاً، وقد يكون الإيقاع النفسيّ للون تقليديّاً لكن خصوصية الحدث داخل النص هو الذي يجعل من هذا اللون تأسيسيّاً، فنرى ذلك مثلاً في قوله تعالى (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) البقرة: 69.

فاللون الأصفر لون تقليديّ ينعكس عند العرب بلون الصحراء، وألوان بعض الحيوانات التي يمتلكونها، بيد أنَّ اللون هنا مع فقاعته يولد شيئاً مزدوجاً وواحداً في آن معاً، لإظهار شخصيِّة هذه البقرة، فيكون هذا اللون وإيقاعه سيمياء المعجزة الإلهيّة في إحدى جوانبه ؛ ولأن اللغة تتميز من بين الأنظمة السيمائية الأخرى بميزة أساسية، كونها تعمل بطريقتين للتدليل: الطريقة السيميائية والطريقة الدلالية semantigue بمعنى أنها تخلق المعنى، مرة عن طريق العلامات الدالة وهذه هي الطريقة السيمائية، ومرة عن طريق المجموع الكلي للنظام اللغوي بعلاقاته المتبادلة مع ما يشير إليه وهذه هي الطريقة الدلالية فهناك ما يُسمى بإيقاع اللون الذي يُعطي البعد الدلاليّ والرمزيّ لكل لون من الألوان المعروفة، كما أنّ تكرار اللون الواحد يعطي في كل مرة دلالة مختلفة عن الأخرى وبحسب مكان الاستعمال، فلو تأملنا الظُلم لوجدنا أنَّ هذه الكلمة التي وردت عشرات المرات في القرآن مشتقة من كلمة (الظلام) الذي هو عمق السواد، وربَّ علاقة بين الظلم والظلام؛ إذ الظلم أداة لنشر السواد معنويّاً بين الناس، من خلال إحياء صفة إفساديّة بعكس النور الذي أوردناه سابقاً.

فاختيار (ألوان معينة) له دلالاته الثقافيّة وتكمن خلفها بنية عميقة، تحكي لنا المسكوت عنه في الحياة، معرّية الواقع المأساويّ الذي عاشته شريحة واسعة من المجتمع، واضعاً يده على مكامن الخلل التي أدت إلى تدهور الوضع وانحدار الأخلاق في عوالم السياسة، موضحاً الشرخ المجتمعيّ الكبير.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى