حوار الشاعرة وداد سلوم مع الدكتور شربل داغر

أنهيت الكتاب "أنا هو الآخر بصحبة ويتمان بودلير رامبو ونيتشه" (دار مومنت للنشر، لندن): كتاب غزير وثري بعد الشكر لدي ما يمكن قوله في البداية وانا اقرأ الكتاب تساءلت عن جذور الفكرة في انجازه واعادني الجزء الأول (في صحبة ويتمان) إلى جدارية درويش واثار ذلك الكثير من الأسئلة والرغبة في البحث مثلا لماذا ويتمان؟ لكنك اجبت عنها في المقدمة المتأخرة وهذا ما اعتبره انجازاً جميلاً وأقصد ايراد المقدمة في نهاية الكتاب لن ذلك يجعل القارئ متحفزاً طوال الوقت لاستنباط الأفكار وربطها بشكل ذاتي.

- تنوه في الكتاب أوجه التقارب والتأثر بينك وبين الشعراء المذكورين كما سرد مفارقتك لهم في اشياء، هل كنت تريد من الكتاب أن يكون جزءاً من سيرتك الذاتية بمعنى سرد سرد ما تاثر به شربل داغر وما فارقه بعد استيعابه؟
= لهذا الكتاب حكاية طريفة وغريبة في الوقت عينه.
عقدتُ العزم، قبل مطلع عطلتي الصيفية في قريتي، أن أكتب كتابًا ابتداء من كتاب نيتشه: "هكذا تكلم زرادشت"، بعد أن اشتريتُ ترجمة جديدة له ابتداء من الألمانية، بخلاف الترجمة السابقة المترجمة ابتداء من الفرنسية. كان دافعٌ غامض، بل دافعان غامضان يكمنان وراء رغبتي، بل مشروعي هذا. عادة أصعد إلى القرية وفي حقائبي كتب عديدة، قديمة وخصوصًا جديدة مما لم أقو على قراءته خلال العام... أخذت معي إلى بيتي الجبلي كتابًا وحيدًا، كتاب نيتشه المذكور، وهو ما هو مذكور في صفحتي في الفيسبوك، في أول أيام عطلتي المقصودة. انطلقت من هذا الكتاب من دون أن أقرأه منذ أيام المراهقة حينما اكتفيت بقراءة مقاطع منه، من دون أن أكمله أو أن أعود إليه.
أما الدافع الآخر الذي لا يقل غموضًا عن السابق، فهو ما لم أفعله في حياتي: أن أكتب ابتداء من كتاب آخر، مثل "الكلام على الكلام" عند التوحيدي. هذا ما يعني نوعًا من الإلزام والتحدي الذي ألقيتُه على نفسي من دون دعوة من أحد.
لي عادة في القرية، عند الغروب، هي الانتقال إلى ضفة النهر في الوادي القريب من بيتي، للتمشي ما يقرب من الساعة، بصحبة هاتفي النقال بالطبع. هذا ما بدأتُ به مع نيتشه غداة وصولي إلى القرية. قررتُ أن يكون الكتاب بصحبتي، أو أن أكون بصحبته. كنت أقرأ وأقتطف منه جملًا أو مقاطع، وأوضبها في ملف خاص. صاحبتُ نيتشه طوال كتابه، فيما كانت تتقافز أمامي هيئات وأشباح،. منها ما يعود إلى نيتشه – وأنا أعرف جوانب منها، خاصة مع لو-أندرياس سالومي -، ومنها ما يعود إلى حياتي نفسها. فكنت أجدني أجلس برفقة من يتوجه إليهم زرادشت بتعاليمه، أو كنتُ – في حالات قليلة – ممن يتوجهون إليه بالسؤال، أو يناقشونه في بعض ما يقوله. كان يربكني التشابه العميق القائم بين السيد المسيح وبينه، بين تعاليم الاثنَين، على الرغم من أنهما يتنابذان في غالب الأحيان. إلا أنني، في أحوال أخرى، كنت أجدني أنطلق من جملة، أو من عبارة، فأشرع في كتابة نص، بل أكثر من نص، تباعًا.
هذه الصحبة جعلتني أنتبه إلى أن نيتشه يلتقي في فعلته هذه مع ثلاثة آخرين قلما اجتمعوا مع بعض، وهم الشعراء الثلاثة الآخرون: وولت ويتمان، وشارل بودلير، وأرتور رامبو. وهو لم يكن باللقاء الغريب، ما دام أنهم عاشوا في العقود عينها، مع أسبقية زمنية لويتمان على الثلاثة الآخرين، عدا أنه كان لرامبو مع بودلير علاقة أشد وأقوى...
هذا ما قادني، في الصحبة، إلى دعوة ثلاثة آخرين، إذًا، وإلى الكتابه معهم، ما جعل الكتاب يتوزع في أربعة كتب داخلية، يختص كل واحد منها بواحد من هؤلاء الشعراء. وهذا يعني، في مجموعه، أنني لم أطلب كتابة سيرة ذاتية، لا لي ولا لهم، ولا لي معهم. أما أن ترد في الكتاب نبذات، أو إحالات تشير إلى سيرتي، ولا سيما في تقاطع مع سيرة رامبو، فهذا مما استدعتْه الكتابة في نسيجها التاليفي، ولم يكن غرضًا تاليفيًّا مقصودًا أو مطلوبًا.

- تصف الكتاب بانه كتاب شعري رغم انه يتضمن دراسة ومقارنات لأدب وحياة الشعراء المذكورين وما لهم من تأثير في تاريخ الشعر ومفاصل مهمة في تطور القصيدة ثم تعريف الشعر. هل ترى أن ذلك من امكانيات القصيدة بالنثر أن تحتوي كل هذا؟
= هذا الكتاب ملتبس في طبيعته، في تكوينه، في أسلوبه، بل في أساليبه، إذا جاز القول. فقد اجتمع فيه غرضُه من دون قصد مسبق، أي اشتماله على أربعة شعراء. كما تعددت وتنوعت طرقُ الكتابة فيه بين ما هو شعري خالص (وهو غالب الكتاب)، وبين ما هو قريب من السرد، أو من النقد، أو من التفلسف... عدا أن بعض المقطوعات فيه تتداخل وتتلابس، إذا جاز القول.
تركتُ لملكتي الكتابية أن تتصرف "على رُسلها"، كما تُحسن العربية القول. تركتُها من دون مقاصد بنائية معلنة أو مختارة. تركتُ جملتي تتقدم مثلما أتقدم في مشيتي في الدروب الوعرة أو السهلة، من دون مخطط أو دليل. تركتُ لكتابتي أن تتمدد، أن تنتشر، بتلقائية وتركيز غير بعيدَين عما يحدث في محادثة بين صديقَين، أو بين شخصين لهما أن يمضيا وقت الرحلة مع بعضَيهما في الطائرة نفسها: جنبًا إلى جنب.
كما تركتُ كذلك لملكاتي الأخرى، من مخيلة وذهن وتذكر واستبطان وغيرها، أن تتشكل بدروها في هذه الرحلة التي تتمدد في أرض، في دروب، فيما تتعالى صورُها وأخبارها في حراكي، في منغصات عيشي، أو في تأملاتي.
لذلك كتابي هو أميل إلى الكتاب الشعري، إلى ما يجتمع فيه – مثل القصيدة بالنثر عمومًا -، أي الشعر وغيره، في الوقت عينه. وهو ميلٌ، بل قصدٌ طلبتُه في كتابتي الشعرية منذ بداياتي، عندما تحدثتُ وطلبتُ في مجموعتي الشعرية الأولى: "فتات البياض"، "الكتابة المتعددة". كما تحدثتُ حينها وطلبتُ الخروج من "أسلوبية قصيدة النثر"، أي طلبتُ عدم التقيد بنمط كان قد أصبح متبعًا، حتى لا أقول مكرسًا عندما شرعتُ في كتابة هذه القصيدة في مطالع السبعينيات من القرن المنصرم.
ما بدا مثل ميلٍ غريزي، في بداياتي، تأكدَ بقوة أشد بعد سنوات وسنوات، عندما انصرفت إلى قراءة "القصيدة بالنثر" (كما عملتُ على ترجمتها)، وإلى درسها والتعرف المزيد إلى تشكلاتها البنائية عند روادها، ولا سيما عند بودلير ورامبو. وقد استوقفني عندهما أنهما ينوعان أساليب كتابة القصيدة، ولا سيما بودلير منهما، إذ جعل الحوار شكلًا بنائيًّا معتمدًا لهذه القصيدة، كما اتكل على السرد كذلك مقومًا بنائيًا، وعلى توسعة الخيال في تشكيلها، ما بلغ عنده – وقبل السورياليين - ذلك التشكل الذي جعل القصيدة تفترق بقصد واعٍ وجمالي عن "إصابة مقادير المعاني"، كما تقول البلاغة العربية القديمة.

- تعيب على ويتمان عدم سعيه فقد كتب عن بلدان كثيرة دون زيارتها مستعيراً من قراءاته على عكس رينان مثلاً ! هل أثر ذلك على انحيازه الأخلاقي برأيك؟ وثم أليس الشعر هو الحلم؟ هل تعتبر عدم السعي عيباً؟ تكتب: "أبتعد لا أصفق ولا أنشد، فأنا لست منشداً ولا جامع أخبار"...
= لم أستسغ كفاية كلمة: "تعيب" في سؤالك، أو حكمك بالأحرى. أنا لا أعيب عليه أي شيء في سلوكه، أو كتابته. أنا تحاورت معه، مع شعره، مع سيرته، بما يناسبني أو لا يناسبني. ففي شعرِه غنائية عالية، لا أستسيغها في الشعر: هذا مزاجي، ومَيْلي. أما عن كتابته "عن بُعد"، إذا جاز القول، فهذا ما كان قائمًا في أيامه، بخلاف ما كانت عليه نزعة التغرب، أو الاستشراق عند كتاب أوروبيين، مثل رينان أو رامبو وغيرهما. ولقد وجدتُ في طلبه الاطلاع ومتابعة ما يجري من أخبار في "العالم القديم"، أي أوروبا وبقية العالم، سعةَ أفقٍ إنساني، كما لاحظتُها وشددتً عليها.
بقي ويتمان، بين الأربعة، الأكثر بُعدًا مني، بطبيعة الحال، لأنه الأقدم بينهم من ناحية الزمن، عدا أنه ينتمي إلى إرث كتابي لستُ أليفًا معه، بخلاف ما هي عليه حالي مع الشعراء الثلاثة الآخرين.

– ويتمان اعتنى باللقطة المفارقة قبل ظهور السينما. برأيك هل يفقد الشعر هذه الميزة بعد اختراع السينما أم عليه ان يتجاوزها؟
= هذا أشدُ ما استوقفني في تجربة ويتمان الكتابية. وجدتُه رائد الكتابة الصورية، بل الصورية المتحركة في الواقع، كما هي عليه السينما في لاحق السنوات. فعينُه الشعرية عين مبصرة: في بعيد الآفاق (وفق ما توفره الجرائد والكتب والأخبار المتواترة)، كما في أقرب ما يقع عليه نظرُه، في مِشية أحدهم في حي في "مانهاتن"، أو في خيمة أحد الجنود الجرحى، أو في ارتعاشة الضوء فوق العشب... عينٌ لا تسجل وحسب، وإنما تحتفي بما تراه، وتغتبط به. هو في هذا المعنى شاعر انطباعي، مثلما ستكون عليه المدرسة الانطباعية في التصوير الزيتي بعد عقود قليلة.
هذه العين الوايتمانية تبقى صالحة، نشطة، في قصيدة اليوم: بين ما تراه، وبين ما تتخيله. ولقد تنبهتُ، في درسي قصائد لبدر شاكر السياب ومحمد الماغوط، كم كانت عيناهما مثقفة بثقافة سينمائية، وأكيدة ومعلنة في شعرِيهما.

– كان بودلير متماشيًا مع الانطباعية في التشكيل. حالياً برأيك ما هي المدرسة او الاتجاه الفني الذي يمكنه محاكاة القصيدة بالنثر؟
= العلاقة بين شارل بودلير وإدوار مانيه، رائد الانطاعية، أكيدة، ومثبتة عند عدد من المؤرخين وناقدي الشعر أو اللوحة، مثل بيار بورديو على سبيل المثال. ومن يَعُدْ إلى مقالات بودلير العديدة، سواء قي "صالونات" الفن أو في الموسيقى والأوبرا وغيرها، سيتحقق من أنه كان أقوى المنظرين الجماليين في زمنه. ولا تزال تعريفاته في "الحداثة" هي السند الأول في أي قراءة نظرية وجمالية وتاريخية للحداثة.
أما الحديث، اليوم، عن التعالق بين التشكيل والقصيدة بالنثر، فهو نقاش مفتوح، والاقتراحات مفتوحة، هي الأخرى. ذلك أن مقترحات كتابة هذه القصيدة، ومقترحات أشكال الفن، باتت عديدة، فلا يتغلب شكل على آخر، مثل التعايش الخلاق السابق الذي حصل بين الانطباعية والقصيدة بالنثر.
الواقع، اليوم، مختلف، حيث إن اتجاهات الفن مختلطة ومتداخلة، عدا أن كتابة هذه القصيدة باتت مختلطة ومتداخلة عند بعض شعرائها كذلك. مع ذلك أقول إن عددًا بالغًا من الشعر بالنثر يُكتب في العربية وفق عقلية عروضية، كما أقول منذ سنوات. بل تتراجع كتابة هذه القصيدة صوب أسلوب "الخاطرة" أو التعبير الوجداني الخفيف والمرسل... بات عدد من شعرائها يهرب من "استعصائها" القديم، من "تحدي" اللغة والوجود فيها... عدا أن النرجسية، المستفِحلة في الشعر العمودي كما التفعيلي، نلقاها أيضًا تستبد أحيانا بنصوص هذه القصيدة، وإن كان شاعرُها يتحدث عنه أنه... هامشي، ومتمرد، في الموقف والسلوك.
وقد يكون لوسائل التواصل الاجتماعي تأثيراتها الأكيدة في تحولات هذه القصيدة، في بعض أشكالها وتجلياتها. منها ما يَظهر في ميل أكيد صوبب "الشفوية" من جديد، بدل الكتابية المتشددة السابقة. وهو ميلٌ تعززُه "التراسلية" الشديدة التي يتيحها الفيسبوك وغيره. كما أن ظهور القصيدة في أداة تواصل آنية، وواسعة الانتشار، بأقوى مما كان عليه نشر القصيدة في جريدة أو كتاب، أباح مثلما أتاح لشاعرتها أو لشاعرها "ظهورًا" أشد، لكنه أشبه بالوقوف أمام مرآة... وفي هذه الحال تكون المرآة الكتابية نرجسية في غالب الأحيان. أي أن القصيدة تصبح تسويقًا لصاحبها، لعلامته، لاسمه، لمكانته، أكثر من كونها علامة على قصيدته.

- رغم ابتعادك عن رامبو في شكل القصيدة ومفارقته في الكلام والحياة فقد نعته برفيقك، كيف؟
= طبعًا رامبو رفيقي منذ ما قبل هذا الكتاب، منذ سنوات بعيدة انصرفتُ فيها إلى شعره، إلى رسائله المتبادلة، فضلًا عن أنني أعددتُ كتابًا عنه، ومعه، عبر رسائله، وهو من أوائل كتبي. هو رفيقي، كما تحققتُ من ذلك عند كتابتي للكتاب، عند عودتي لقراءة شعره أثناء كتابة الكتاب: لا يزال شعره الأدهشَ في نظري في من قرأت لشعراء. لا أزال أقف أمام شعره وقوف المراهق المنبهر بما لجملته من قوة لا تزال تبعث في نفسي حيوية هائلة. كما لا أزال أقف أمام شعره منبهرًا بذلك التشكل الذي يمضي "في جميع الاتجاهات"، حسب كلامه. لا أزال أقف وقفة الحائر أمام قصائده: أصلُ إليها، أخطو خطواتي الأولى إثر عتبتها، وإذ بها تقودني في غير مسلك فيها، كما لو أنني لا أتقدم فيها، بل أنتشر... ولو طلبتُ العودة إلى حيث كنتُ، إلى حيث انطلقتُ، فلن أجد السبيل. لهذا يصلح في شعره تمثيله بالغابة، لا بالحديقة المنسقة، أو بالبيت المتراصف البناء.
مع هذا، لا أتشبه به. وهو إذا كان رفيقي، فلأنني اخترتُه، لا لشبهٍ بيننا، بل لاختلافات قربى ومباينة بالتالي.
ما أحبُّه في رامبو، هو أنه يعيد إليَّ رغبتي في الشعر، أي وهمي الجميل فيه، وهو ما أفتقدُه أكثر فأكثر في ما أقرأ من شعر. ففي شعره أعايش دهشة متجددة، لا تتوانى عن إسعادي. دومًا مفاجئ مثل هدية موضبة ومشعة في علبتها المقفلة. قراءة شعر رامبو تجدد ثقتي في الشعر على أي حال. وهي ما أمدَّني بكثير من القوة لكي يبلغ كتابي المذكور مداه الكتابي الذي انتهى إليه.

- تقول ما وجدته في رامبو أنه يتعدى القصيدة أو الخيال إذ يصيب الموقف والنظرة ونشوة المعرفة الممتزجة بصحوة العين والقلب. هل على قصيدة النثر أن تحتوي هذا المزج بين الشعر والفلسفة والمعرفة بأشكالها؟
= أنقادُ دومًا، في قراءة شعر رامبو، إلى ما هو أبعد من القصيدة... أنقاد إلى الشعر، إلى ما يمكن أن يكون عليه في تجليه الأبهر والأجد. شعرُ رامبو إمكانٌ مذهل لما يمكن أن تكون عليه القصيدة. شعرُ رامبو هو أن تكون "حديثًا قطعًا"، وفق عبارته. هو، بهذا المعنى، يعيدني إلى منابع هذه القصيدة، مشيحًا بنظري عما بلغته هذه القصيدة من تشكيلات في لاحق تجاربها، هنا أو هناك. فما أعايشه في قصائده يُظهر لي إمكاناتها التي لم تستثمر كفاية بعد رامبو... كما يُظهر لي التحولات التي أجرتْها قصائده في الجملة، في المخيلة، في الموقف، في استشعار الانفجار الوشيك...
لذلك لا أكتب متشبهًا بشعر رامبو، إلا أنني تعلمتُ الكثير منه، من حريته المكتسَبة في بناء القصيدة. هذا ما يحرضني على أي حال في كتابة شعري، وإلا لكنتُ توقفتُ عنها من دون أي إرباك أو اعتذار أو خيبة. فالشعر، ولا سيما مع النوع الشعري الذي أكتبه مع غيري، هو عهد "الخروج من الطاعة"، كما وجدتُه متحققًا عند هؤلاء "المعلمين الأربعة"، معلمي العصيان الجمالي والمدني.
هذا ما أكتبه. هذا ما انتهيت إليه في هذا الكتاب. وقد لا أتبعه في كتبي الشعرية الأخرى...
هذا مقترحي. الشعر ليس تعبير وجدان فقط، وإنما هو تعبير ثقافي بأعلى ما يمكن أن تكون عليه الثقافة، والعيش في الوجود.

- يقول رامبو: "أقرأ وأمشي"، وتكتب أنك ترتب الألفاظ على وقع خطواتك، في الرصيف، في ذهابك للمشي، كأنك ذاهب إلى القصيدة. أهو طلب العزلة في الجموع أم البحث عن ايقاع الذات حيث يندمج الحركي بالذهني؟
= كلام جميل للغاية عن علاقة الحركي بالذهني، عبر المشي، سواء في سطور القصيدة، أو في تشعبات الدروب. كتابي الذي نتحاور عنه انبنى في جانب منه على المشي: المشي على ضفة النهر، والمشي في سطور القصيدة. كنت أصطحب الشعراء الأربعة معي: واحدًا واحدًا، أم مجتمعين، حسب ما تستدعيه لحظة الكتابة بوصفها لحظة التمشي.
ومن يَعُد – مثلما عدتُ – إلى سِيَر هولاء الشعراء سيجد بأنهم كانوا من هواة المشي، بل أكثر من ذلك: ويتمان لم تهدأ قدمه عن التجوال، بل أن شعرُه خريطة ترحاله، بأسمائها ومواقعها وأحوالها. أما بودلير فهو المتنزه المديني، ولا سيما بين جموعها. فيما لا يتوانى رامبو عن التنقل، عن الهرب، عن السفر... وكان نيتشه يصعد من المدينة إلى الجبل، ثم يعاود النزول من جديد في نوع من الحراك المتجدد والحيوي.
إلا أن ما ربطني بهولاء، واستقيتُه من حيواتهم كما من شعرهم، هو فكرة خروج القصيدة إلى الهواء الطلق، إلى الشارع، إلى الهواء والأشجار، ما يُعد خروجًا لها عن سابق إقاماتها: في البلاط، أو بين الشعراء.
باتت القصيدة تنبني في علاقة نشطة، ومفتوحة، ومرجوة، مع ما يستثيره الخارج في الشاعر.
هذا العيش الخارجي خبرتُه في طفولتي، في كوني كنت أُتأتئ كلامًا غير مفهوم، كلامًا مشوَّشًا، كان يصدر عني ما أن كنتُ أخرج من بيتنا في اتجاه المشي، في اتجاه اللعب في سنوات الطفولة. هذا لم ينقطع عني حتى اليوم. فأنا أكتبُ كثيرًا من قصائدي عندما أمشي، وبرفقة هاتفي الجوال. لطالما توقفتُ في مشيي لكي أدون ما يتساقط من شفاهي... المشي هو ما يجعل التفاعل ممكنًا بين الحركي والذهني، كما تقولين بتوفق أكيد.

- يبدو أنك ماثلت رامبو في قلب طقوس الكتابة وتعاليمها والإبحار في المجهول. فكيف ترى إذاً أن للقصيدة بالنثر كما تسميها طقوساً وتقاليد عليها أن تكتمل لتأخذ مشروعها؟
= ما قدَّمَه رامبو لقصيدته، ولنا من محبي الشعر وكتابه: الحرية في الكتابة.
هذا ما امسكتُ به مثل خشبة إنقاذ وحيدة من الرتابة التي تصيب حياتنا، ومن التقليدية التي تصيب شعرنا، حتى حين يدعي ريادته، أو هامشيته، أو ثوريته.
أضجر كثيرًا عندما أقرأ الشعر. أفضل الاستماع إلى أغنية لنجاة الصغيرة بدل القراءة، لكي أعثر على حبة ذهب منثورة في كم من القش، كما يقول صديقي الشاعر الأردني زياد العناني.
أعتقد بأن للقصيدة بالنثر إمكانات لم تُستثمر كفاية من شعرائها، وهي إمكانات الحرية في التأليف، في التخيل، في البناء.
فمَن يراجع كثيرًا من شعرها المكتوب في العربية، سيلاحظ بأن لها منوالًا أو أكثر، يعتاد عليها الشعراء، ويتبعونه. وهو ما أسميه المنظور العروضي في القصيدة بالنثر...

- وجد رامبو ان القصيدة لا تغير الحياة فقام بتغيير حياته نفسها، كان الشعر مهنة! ما رأيك انت؟ هل يمكن ان يكون الشعر مهنة؟
= الشعر مهنة مجانية، والقصيدة مكافأة الشاعر: هكذا أرى إليه وإليها، من دون تبخيس أو تعظيم له ولها. فالشعر عندما اضطُّر الشعراء القدامى إلى امتهانه، حولوه إلى حلية بلاغية ليس إلا، أو تذمروا منه، مثل المتنبي، أو حادوا عنه، أي حولوه إلى غير ما كان عليه، مع أبي نواس والمعري.

- عنوان الكتاب مأخوذ من رامبو؟
= أجل، هو مستقى من إحدى قصائده. وباتت الجملة شهيرة للغاية، حتى إنها بات اختصارًا لطريقة في النظر الفلسفي، في السلوك مع الآخر، أيًّا كان هذا الآخر، في جنسه، في لونه، في ما يعتقد...
وقد انبنى كتابي وفق منظور هذه الجملة، إذ انتظمت علاقتي بالشعراء الأربعة وفق كونهم ذواتًا أخرى لنفسي.
-تقارن بين الذبابة والفراشة وكلاهما على اختلاف الشكل وقبوله جمالياً لدينا تطيران إذ تسعيان كما نحن لكننا نحتاج للأحذية لندفع الهواء. هل الحضارة والتقدم التقني أبعدت عنا فطرة الطفل في العبثفقمنا بتقييد الشعر؟ وهل القصيدة بالنثر هي محاولة خلع الأحذية؟
- حميل للغاية هذا الكلام. إلا أن التخلي عن الأحذية، مثلما خبره رامبو نفسه، مؤلم ومنشط في آن، عندما كتب عن "الحذاء المثقوب" في إحدى قصائده.

- هل تعتقد ان الترجمة تظلم الشعر احياناً كما في صعوبة ترجمة رامبو ؟
= أكيد. ها ما كابدتُه بنفسي، في ترجمة رامبو وغيره. إلا أن هذا الظلم لازمٌ لكي ينتقل الشعر إلى خارج مداراته اللغوية.

-أدب المستقبل هو القصيدة المؤلفة من مقاطع كأنها نتف من أشياء مختلفة.. ما رأيك بذلك؟
= لا أحسن الجواب عن هذا السؤال، خصوصًأ وأنه يطلب الحديث عن أدب المستقبل. فمثل هذا الأدب – كما أتبينه اليوم – متعدد، ومتشعب، ما لا يجتمع في صيغة واحدة. وهو ما يصيب القصيدة بالنثر كذلك، إذ إنها مفتوحة على احتمالات شتى في بنائها. وهو ما يَظهر في شعري كذلك، إذ تتنوع وتختلف أشكال بنائها، ما لا يستقر في نمط واحد ووحيد.
يزيد من قناعتي هذه كوني أُعنى كثيرًا بمسألة الشكل الشعري، إذ أعتبر القصيدة شكلًا جماليًا، له أن يسعى إلى التفرد، مثلما يفعل الفنان التشكيلي في صنيعه.




L’image contient peut-être : 1 personne, texte

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى