سعيد يقطين - الانتماء الثقافي

ابتسم لي صاحبي المحامي، وهو يصافحني، بعد طول غياب، قائلا: أهلا بالأستاذ، الدكتور، البروفيسور. قلت له في خضم المصافحة: أما الأستاذ فهو أنت. والدكتور هو الطبيب العام، والبروفيسور هو المختص. فالأستاذ لا يتحرك مع أي زبون، إلا وقد حدد «الأتعاب»، وهو يحصل عليها، ربح القضية أو خسرها. أما الدكتور فتجلس في قاعة انتظاره ساعات، ليفحصك في دقائق معدودات، وفي الباب حاجبته التي تطلب ثمن الزيارة، وكلما عدت إليه وجدتها في الباب تطالب بالثمن. أما البروفيسور، فبالموعد، وبثمن الفحص المضاعف. وهو يطالب بالتحاليل، وإجراء العملية، لا يمكن أن يتم إلا بعد وضع شيك بمبلغ خيالي، سواء نجحت العملية، أو قضى صاحبها.
أما أنا يا صديقي المحامي، فلست سوى معلم صبيان، كما يقول الجاحظ. وإذا قلت إنني أدرس في الجامعة، فإني معلم كبار. إن الفرق بين الأستاذ والدكتور والبروفيسور يكمن في كونهم يتعاملون مع صاحب قضية أو مريض. أما المعلم ـ الكاتب، فيتعامل مع الطالب والناشر، وكلاهما لا يفكر إلا في «النجاح». لا يمكن لصاحب قضية أو مريض أن يتعلل للدكتور بقلة الحيلة أو ضعف ذات اليد، وعليه أن يدفع عدا ونقدا، كل ما يحدد له. أما الطالب، فمطالبه شتى، يتصل بالهاتف، ويبعث فصلا بالبريد الإلكتروني، وعليك أن تحدد له موعدا، وتحضر لمناقشته ساعة أو أكثر، أو تصحح كتاباته، وإذا سمعت شكرا، فأنت محظوظ. أما إذا سرك عمله فأنت أسعد الناس.
أما الناشر، فتلك غسلة أخرى، فإذا وقعت معه عقدا، فإنك لن تعرف أبدا، وضعية العقد، ولن تحاسبه قط على تطبيقه. لن تعرف عدد المبيعات، وإذا سلمك مبلغا فما فعليك سوى قبوله، واعلم أنه أخرجه عن يد وهو صاغر؟ وإذا خاطبك، وهو في معرض الكتاب، فلن تجد منه سوى الشكوى من قلة القراء ومصاريف المعرض، وغلاء الشحن، وارتفاع الدولار، وأمام قدرته على الإقناع والإفصاح عن حالته، رغم أنه لم يدرس قط «تحليل الخطاب» ولا البلاغة أو الحجاج، تجد نفسك مقتنعا متأثرا، متمنيا لو أنك تملك الأموال لإنقاذ مشروعه من الإفلاس، فقط ليبقى للكتاب من يقوم بنشره وتوزيعه في وطننا العربي. فمن الأستاذ؟ والدكتور؟ والبروفيسور يا صاحبي؟
كثيرا ما نتحدث في حمأة المجاراة أحيانا، أو المعارضة أحيانا أخرى، عن الحقوق. حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الطفل، ونجد لكل هذه الحقوق هيئات ومنظمات نشيطة في الدفاع عن تلك الحقوق، لكن أين حقوق الكاتب.. من يقوم بها؟ إلى من ينبغي أن توجه؟ هل إلى المؤسسة الثقافية الرسمية أو الوطنية؟ وزارة الثقافة عندنا تدعم الكتاب. لكن أموال الدعم تصرف للناشر، وليس للكاتب. ومن بين الوثائق المطلوبة للدعم، عقود موقعة من لدن المؤلفين. وماذا بعد.. لا شيء. إنها وثيقة في ملف. فمن يتابع الناشر في مبيعات الكتب.. وفي صرف المستحقات إلى أصحابها؟
للناشرين جمعيات ينتظمون فيها، ويدافعون من خلالها عن مصالحهم. وللكتاب اتحادات وروابط يحملون بطاقات عضويتها، لكن حقوقهم ضائعة بين اتحاداتهم وجمعيات الناشرين. عندما كنت في ليون، وجدت مرة في درج رسائلي مطبوعا يتعلق بحقوق التأليف، يطلب مني تعبئته. لم أفهم جيدا المقصود منه، وحين سألت زميلي التونسي، أخبرني أن هناك مؤسسة، تراعي حقوق الكتابة، في المجلات والكتب، وهي تتكفل بمتابعة حقوقك. وكان المطبوع حديث أمسية طويلة، ونحن نتحدث عن حقوق المؤلف وعلاقته بالناشر في الوطن العربي.
كيف يمكن للأستاذ أو الدكتور في الآداب والإنسانيات أن يكتب أو يفكر في أن يكون له مشروع للكتابة، أيا كان نوعها، يحصل من خلاله على ما يقابله من «أتعاب»، أو «تحاليل»، أو «عمليات»، وهو يرى كل مجهوداته التي يبذلها لا تساوي شيئا يمكن أن يشجعه على الاستمرار في الكتابة؟ بل أن الكثير من الكتاب يصرفون على كتاباتهم من أجل أن ترى النور، أو يتنازلون عن حقوقهم المادية، مقابل عدد من النسخ من مؤلفاتهم؟ كيف يمكننا أن نتحدث عن دعم الكتاب والقراءة، ونفكر في خلق آليات للتشجيع على القراءة، ونعقد الندوات التي نتحدث فيها عن دور القراءة، أو نتساءل عن أسباب تراجعها ونتباكى أمام قلة إصدارات الكتب في الوطن العربي كله، مقارنة مع عدد المطبوعات في دولة غربية صغيرة، ونحن لا نفكر في الكاتب، ولا نتساءل عن حقوقه؟ هل يمكننا الحديث عن الناشر والقارئ، بدون الكاتب؟ أين العربة.. وأين الحصان؟
مفهوم «الكاتب» أو»المؤلف» ما يزال غير محدد في ثقافتنا العربية الحديثة. وليس له وضع اعتباري، وقانوني خاص. بدأ مفهوم «الفنان» يكتسب بعضا من صفاته، بسبب المطالب النقابية. أما الكاتب فليست له مؤسسات تهتم بشؤونه، أو تدافع عن حقوقه. وكان الأحرى أن تهتم الروابط والاتحادات بمسألة حقوق الكاتب، وتجعلها حجر الزاوية في انشغالاتها، لكن ذلك يستدعي تجديدا في الرؤية والتصور.
ليست للكاتب العربي حقوق في الوطن العربي، لكنه اختار واجبا، يتمسك به: إعلان انتمائه إلى ثقافة وإسهامه في إغنائها.




March 3, 2015
القدس العربي



سعيد يقطين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى