عبد المنعم رمضان - المازني أو ابن الطبيعة

الغريب أن كل وجوهه يتهددها الموت ، وفي غمرة هذه الوجوه تنجلي مشكلة المازني، وهي رغبته الملحة في أن يكون حقيقيا ، المازني لايطارد الحقيقة ،ولكنه يطارد نفسه بزعم مطاردة الحقيقة، لذا عاشت كتابته كأنها في رحلة، كأنها في طواف
نعم أنا العاشق المتعب الذي ليس لديه ما يخبركم به، فهل تسمحون لي بأن أتجنّب الحديث عن شيرين وهدي وناريمان وأن أقول لكم اليوم مثلما قلت لكم ذات يوم: أبدا أبدا لا يموت ابراهيم الكاتب أو إبراهيم الثاني، الذي لم يكن يقبل أن أكتب عنه دون ذكر محبوباتي, وإذا شئتم رهافة العزم ودقة التسمية، ستسمحون أن أتمّم كلامي وأقول: نعم أحب شيرين وهدي وناريمان اللائي كلهن امرأة واحدة، ولكن أبدا أبدا لايموت ابراهيم عبدالقادر المازني، علي الرغم من أنه أكثر أقرانه نأيا عن السياسة، حيث تموت أرواح أصحابها قبل موت أجسادهم، وهكذا تتعفّن الأجساد وهي حية، كلنا يعرف أن قطار السياسة، القطار الأبيض والأحمر والأسود حسب الهويّات، القطار القشّاش والفرنساوي والتوربيني حسب الطاقات والقدرات، القطار العام في كل الأوقات ودون أيّ حسب، كلنا يعرف أنه قطار الوصول السريع إلي المحطات السريعة، والمازني في الغالب كان يكره تلك السرعة، لأنه كان يكره سلطة المؤسسات، سلطة الثبات الذي تحولاته تنكمش وتضيق وتصبح تحت السيطرة، وفي الغالب أيضا كان يحب ذلك البطء، لأنه كان يحب السلطة الخفية، سلطة الوقت الضائع، السلطة المستعصية علي الوصف، ربما أغرته هذه السلطة الأخيرة بالاستغناء عن ركوب القطار العام، ولد المازني ميلاده الأول في سنة 1889وهي سنة ميلاد بعض معاصريه الجادين المتجهمين، وأبرزهم العقاد وطه حسين اللذان فاقاه ضجة وشهرة، واللذان فاقهما، كما كشف لنا ماراثون الحياة، فاقهما في القدرة علي الجريان من الأزمنة الماضية إلي الأزمنة الأقرب، وإلي الأزمنة المحتملة، أزمنة التحولات، والسريان فيها، فاقهما أيضا في النشوة، وفي الحسرة، وفي الأسي، فاقهما حتي في الموت بغتة، مات المازني ميتته الوحيدة سنة 1949، مات فجأة، ثم بسبب عدم تساؤلاته حول جدوي الأدب، وبسبب إدراكه أن الكتابة لعب مستمر، لعبٌ لا لهو، لأن اللعب نشاط، واللهو خمول، وبسبب إلحاق نفسه سواء في شبابه أو كهولته أو علي مشارف الشيخوخة، إلحاق نفسه بالطفولة وكأنه يصرخ فينا عمداً وبلا قصد، إن الطفل هو الأب، إن الطفل هو الأب الوحيد الخالد، الأب المصلوب أحيانا علي خشبة، بسبب كل هذا، وبسبب استمساكه بعناصر العالم الأكثر قابلية للزوال، وانطلاقه الدائم من التفاصيل الصغيرة، من الشذرات، كأنه يبحث عن الإيقاع السري لدنياه ودنيانا، وبسبب عرج واضح في مشيته، لأن إحدي ساقيه أقصر كثيرا من ساقه الأخري، وبسبب أنه ظل طوال حياته يحاول معرفة الفارق بين ما يمكن قوله وما لايمكن
قوله، لهذه الأسباب جميعها، يستطيع أدب المازني أن يقف هائل الطول، وأن يمشي مفرود الساقين، وأن يحيا مرات عديدة في الأزمنة التالية علي موته الوحيد، ربما في الأزمنة كلها، في سنة 1959، أي بعد عشر سنوات من ذلك الموت، احتفلت الدار القومية للطباعة والنشر بذكراه، وأعادت نشر بعض كتبه في سلسلة كانت مشهورة أيامها، اسمها (كتب ثقافية)، واقتضي أمر هذه السلسلة أن تكون مقيدة تقريبا بعدد من الصفحات لا يتجاوزه كل كتاب، مما استدعي إعمال الحذف غالبا، وإعمال الإضافة أحيانا، الغريب أن هذه الطبعة، أصبحت الطبعة الأساس للطبعات التالية في كل دور النشر، وآخرها دار الشروق ومكتبة مصر، تحالفت سلاسل أخري مع سلسلة الكتب الثقافية في إشاعة هذا الحذف، وهذه الإضافة، مثلما حدث في كتاب الهلال، وعلي غير انتظار خرج علينا الدكتور عبدالسلام حيدر، الذي لا أعرفه، والذي يعيش ربما مؤقتاً في بروكسيل ببلجيكا، ووجدناه ينتبه إلي ذلك الخلل، وإلي غيره من أشكال الخلل، فيما هو ينتبه إلي أهمية المازني، فيعكف علي نتاجه، ويصوِّب طبعاته، ويعيده إلي الحياة، يعيده إلي صورته الأولي أيام حياة المازني نفسه، ويضيف إلي ذلك العمل عملاً ثانيا بأن يجمع كل ماكتبه المازني في الصحف والمجلات، كل مالم يصادفه الحظ أن يحيا مصوناً داخل كتاب، يجمعه عبدالسلام في مجلدات سيحرص علي أن يبدأ بها رحلة تصحيح المازني وإحياء الضائع منه، ولهذا قسّم عمله إلي قسمين كبيرين، القسم الكبير الهامش، والقسم الكبير المتن، وجعل القسم الكبير الهامش في خمسة أجزاء تضم النصوص غير المنشورة في كتب، وكانت هكذا، الجزء الأول للتأملات والذكريات ، والثاني للنظريات النقدية العامة ، والثالث للتطبيقات النقدية ، والرابع الذي صدر في كتابين للأشكال السردية ، والخامس للرحلات ، كما جعل القسم الكبير المتن في ثمانية أجزاء ، وهو مخصص للأعمال المنشورة في كتب أشرف علي إصدارها المازني نفسه في أثناء حياته ، وشاء الحظ والصواب أن يكون المتن أكبر من الهامش ، وأن يجئ المتن هكذا ، الجزء الأول للرحلة والسيرة ، والجزءان الثاني والثالث للأعمال النقدية ، والرابع والخامس للأعمال القصصية ، والسادس والسابع للأعمال الروائية ، والثامن للأعمال الشعرية ، انتهي الدكتور حيدر ، فيما علمت ، من تجهيز الأجزاء كلها ، ووضعها تحت إبط المجلس الأعلي للثقافة ، تحت آباط أمنائه المتعاقبين ، وفي سنة 2006 كانت باكورة الإصدارات ، الجزء الأول من الأعمال غير المنشورة ، التأملات والذكريات ، وتتابع النشر علي مدي ثماني سنوات ، حتي وصلنا هذا الشهر ديسمبر سنة 2013 إلي الجزء الثالث من القسم الكبير المتن ، جزء التطبيقات النقدية ، وتتبقي خمسة أجزاء، الوتيرة التي تحكم عمل أمناء المجلس بفضل إدارته واسعة الحكمة واسعة الحيلة واسعة التدبير ، الوتيرة هذه تخيفني من سؤال نفسي ، أيُّ الأجلين سيكون أقرب ، أجل موتي ، وموت من يماثلونني في العمر ، أشهد أننا في بدايات عقدنا السابع ، أم أجل إتمام طبع هذه الأعمال ، ولكي أتفادي كآبة السؤال وتعاسة الإجابة وكراهية الأمناء لي ، فكرت في مشكلة المازني ، في نظري هو أحيانا يعاني مما يشبه الفصام ، ولكنه ليس فصاماً ، إنها أصوات عديدة تحتشد في داخله ، وتتصادم وتتهادن وتتصالح وتتفق وتختلف ، كأن قلبه خشبة مسرح ، كأن قلبه خشبة مسرح العالم ، كأن قلبه خشبتي ، والمازني لأنه لاعب دائم يترك كل تلك الأصوات تنفجر وتبوح فهو يعرف أنها وجوهه المرئية ، وأنه مازالت هناك وجوه مستورة ستظهر عندما يحين وقتها ،الغريب أن كل وجوهه يتهددها الموت ، وفي غمرة هذه الوجوه تنجلي مشكلة المازني ، وهي رغبته الملحة في أن يكون حقيقيا ، المازني لايطارد الحقيقة ، ولكنه يطارد نفسه بزعم مطاردة الحقيقة ، لذا عاشت كتابته كأنها في رحلة ، كأنها في طواف ، وبسبب هذا كانت أحيانا، أعني كتابته، تضل وتتوه، ولكنها ظلت دائما في رحلة وطواف لا آخر لهما، يذكّرني المازني بأن الطموح بأن تكون حقيقيا، لا يعني تمام اليقين بأن هناك حقيقة ثابتة، الطموح بأن تكون حقيقيا قد يعني سقوط الحقائق تباعا، وظهور حقائق جديدة لا تلبث أن تسقط، إنها المتاهة إذن، بدأ المازني حياته الأدبية بكتابة الشعر، وقبل أن يبلغ الثانية والثلاثين، كانت إناؤه قد فاضت فكسر الإناء، وانصرف عنه، أفهم الآن كيف أن الشعر لم يعد قادرا علي أن يساعده في سبيل تحقيق رغبته، رغبة أن يكون حقيقيا، بعدها استولت عليه حمّي إصدار كتب النقد الأدبي، حصاد الهشيم وقبض الريح وكتاب الديوان، لكنه للمرة الثانية، وقبل أن يبلغ الأربعين، تأمل السفرين الاثنين، الشعر والنقد، وأدرك أنهما أيضا عجزا عن مساعدته في سبيل تحقيق رغبته، كان المازني قد بلغ الأربعين، فأنفق الباقي من عمره وهو يسرد القصص والحكايات، ويسرد المقالات علي هيئة القصص والحكايات، وكأنها الطريق المفتوح علي رغبته، وكأنه استقرعلي قطعة ريح رجراجة، استقر ولم يأمن ، لم يهتم المازني بالسوسيولجيا والسيكولوجيا والإيديولوجيا، إلا قليلا، وإلا في أول حياته، ولذلك لا يفاجئنا العقاد الذي ظل مشغوفا بالعبقرية والعبقريات، وظل مشغوفا بالبحث عن مفتاح الشخصية، لايفاجئنا عندما فتّش عن عبقرية صديقه المازني، ووجدها كائنة في سليقته وقدرته علي الترجمة، الأصح أن نقول قدرته المفطور عليها، والتي بدأت منذ كان طالبا بمدرسة المعلمين العليا، حيث ترجم الكنز الذهبي، أنطولوجيا الشعر الإنجليزي، ترجمه إلي شعر عربيّ عموديّ موزون، ونسخ الترجمة في كراسات ودفاتر تناقلها زملاؤه، وضاعت كلها، وضاعت معها أمنية أن نجدها، أمنية ياليت، ولم تعد تنفع ليت، في حقبة سرد القصص والحكايات ترجم المازني رواية سانين ابن الطبيعة، وهي رواية عدمية لكاتب روسي ربما يكون من كتاب الطبقة الثانية، اسمه أرتزيباتشيف، وترجم أيضا مختارات من القصص الإنجليزي، القصص القصير، لهنري جيمس وأوسكار وايلد وتشارلز ديكنز وروبرت ستيفنسون وإدجار آلان بو، يكتبها المازني إدجر، وآخرين، ومن المسرحيات ترجم لجون جالزورثي مسرحيته الشريدة والتي كتب بعدها مسرحية حكم الطاعة أو غريزة المرأة، فجنت عليه مسرحيته المؤلَّفة تهمة السرقة من مسرحيته المترجمة، بالضبط كما جني عليه بعض شعره الأول المؤلَّف تهمة السرقة من شعره الأول المترجم، وإذا كنتَ قادرا مثلي علي أن تكون مرآة صادقة للمازني، ويجب أن تكون، لن تستطيع أن تتجاهل كونه عاش طفلا كبيرا يدل خصومه ومنتقديه علي الأماكن التي سرق منها، فهو الذي ترجم سانين وهو الذي أخذ بعضا قليلا منها ووضعه في إبراهيم الكاتب، المازني منذ أوله إلي آخره يستبد اللعب به، ويستبد باللعب، وسرقاته لها اسم آخر أقرب وأدق، يمكنك أن تنطقه هكذا، مغامراته وأسراره، أو هكذا، ألعابه وألغازه، اللافت أنني لم أصادف أيه إشارة إلي هذه الترجمات في البيان الافتتاحي الذي صدّر به عبد السلام حيدر ما خرج علينا من أعمال المازني، وكأنها سوف تخلو منها، وكأن عمله اقتصر علي تآليف المازني، وكأنه لم يعتقد مثلما أعتقد ، أن الترجمة تأليف خلف ستار،لم أصادف في كرونولوجيا حياة المازني وأعماله التي أعدها عبدالسلام حيدر إشارة إلي ترجمة المازني كتاب يوميات آدم وحواء للأديب الأميركي مارك توين، وهو كتاب كبير لا تخطئه الذاكرة، خاصة أنه أحد أكثر الكتب شبها بالمازني، كأنه من تأليفه ، إن الكتابة عند المازني سواء مؤلفاته أو ترجماته، هي أرض بيضاء، تحرثها ثيران غامضة، أرض يتنامي فيها الوضوح الذي غايته أن يصل إلي قلب صاحبه، صاحب الأرض، كنت أود أن أعرف المازني وأراه وألمس يده، وأحدّثه عما تجنبت الحديث عنه، شيرين وهدي وناريمان، لكني فتحت ديوانه عشوائيا، فتخيلت أنه يخرج لسانه لي، وذلك عندما وقعت عيناي علي بيتيه المنقولين عن الشعر الألماني، ففكرت أنه يأمرني بأن أخرج لساني، وكأنه لسانه، وأبسطه في اتجاه عيون القائمين علي طبع أعماله، هكذا، وأن أسألهم نيابة عنه، متي وُلدت؟ 1889 أم 1890، وقبل أن يتواروا أقذف البيتين في وجوههم،
أيها الزائر قبري اتلُ ماخُط ًّ أمامك
هاهنا فاعلمْ عظامي ليتها كانت عظامك
لم يهتم المازني بالسوسيولجيا والسيكولوجيا والإيديولوجيا، إلا قليلا، وإلا في أول حياته، ولذلك لا يفاجئنا العقاد الذي ظل مشغوفا بالعبقرية والعبقريات، وظل مشغوفا بالبحث عن مفتاح الشخصية
المازني منذ أوله إلي آخره يستبد اللعب به، ويستبد باللعب، وسرقاته لها اسم آخر أقرب وأدق، يمكنك أن تنطقه هكذا، مغامراته وأسراره، أو هكذا، ألعابه وألغازه.



* أخبار الأدب يوم 21 - 12 - 2013




عبد المنعم رمضان.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى