كاهنة عباس - معزوفة إلهام

لا أدري كيف حدثت تلك الفجوة في ذاتي ،كان ذلك منذ عشر سنوات خلت ،عندما كنت تلميذا بالمعهد الثنوي بأريانة الجديدة ،كنت أنتظر كل صباح حلول الساعة الثامنة الا ربع ،فأمرّ بالقسم الذي كنت به أدرس ،أخترق ممرا طويلا حتى أبلغ منتهاه ،ثم أقف لحظة لأرى "إلهام" فأبادلها تحية صباحية عابرة ثم أعود الى قسمي ،وكان يعتريني آنذاك شعور غريب وأنا أسرع الخطى لأدركها قبل أن تدخل القسم. فأشعر كأني أسافر من عالمي اليومي الخالي من كل بريق والذي تنتهي حدوده في منتصف الممر ،الى عالمها السحري الغريب عند بلوغي أقصاه، فأجد نفسي بالمكان الممتلئ بحضورها ،فإذا بروحي تنساب وتتوزع يحملها الهواء الى حيث لا أدري، ويصيبني الشرود وأنا أهيم بها ،فأبدأ ساعة الدرس في حالة لاتوصف كأني غائب وما كنت بغائب.

كنت أخفي هيامي بها ،أتجنب الحديث إليها ،حتى لا يتلعثم لساني، فأتعثر عند نطق الكلام لذلك كنت أكتفي بسلام عابر ربما كانت تسمعه وربما لم تكن تسمعه ، حتى بتّ مع مرور الايام لا أفكر في نفسي ، لا في ما أفعل، ولا في من أكون أوفي ما أريد ،ولا حتى في ما يقال حولي ،لانشغالي بانتظار لقائها ،كأن نفسي انسلخت عني وفارقت جسدي ، بحثا عن ذلك الاحساس الذي كان يتملكني عند الاقتراب منها ودخولي ذلك الفضاء السحري المحيط بها .كان عمري في ذلك الزمان ثمانية عشرسنة ،وكنت أتألم لضياعي وتيهي وشرودي ،ورغم ذلك ، كنت أجد في عذابي لذة لا تضاهيها لذة ، لذة أن يتبخر كياني حينا ويصبح ظلا يتمدد يكبر أو يصغر فتكتشف حواسه حيزا آخر خارج حدود جسدي ،حتى إذا ما استبد بي الوجد ،حاولت رتق فجوة ذاتي المنشطرة لافتتانها بسر إلهام أوسحرها ، لكن دون جدوى.

وكانت المسافة بين ذاتي وذاتي تتسع يوما بعد يوم، لكتمان سري خجلا وخوفا من تهكم أصدقائي مني،وأنا ألمحهم يتنافسون على إغراء الفتيات بزهو وافتخار، يفتعلون الحيل ويستنبطون القصص للتقرب منهن و الايقاع بهن في شباك الحب ، وكنت كالغريب أرقب ذلك دون أن أنبس ،الى أن تفطن ذات يوم صديقي عزيز الى حالي وانشغالي "بإلهام" فجذبني من ذراعي قائلا :" ما الذي جعلك تهتم بها الى هذا الحد يا عماد ؟ إنها، ليست جميلة، أراهن على أن عدة فتيات يرغبن في التقرب منك ، فحاول التعرف على إحداهن ، قد لا تبادلك إلهام نفس مشاعر". فنزلت علي عبارته الاخيرة نزول الصاعقة، لم تكن إلهام تهتم بوجودي، كانت تكتفي بابتسامة غير عابئة بما يختلج به صدري من مشاعر وأحاسيس وكنت أعلم ذلك، لكني أتجاهله آملا أن ترق لحالي فتبادرني الحديث، وتحررني من ترددي وارتباكي ،وأغلب الظن أني كنت حريصا على ملازمة غربتي و عذابي دون معرفة السبب .

لا أتذكر لحظة انفصام كياني ولا إصابتي بتلك الفجوة، لست قادرا اليوم على معرفة أسباب ما حل بي، أكان بفعل اندهاشي لجمال إلهام أو لانبهاري بشخصيتها ، فما بقي عالقا بذهني بعد مرور كل تلك السنين ليست محاسنها الجسدية ولا ما كانت تبديه من خصال، بل هو أمر آخر يفوق الجمال الحسي والمرئي ويفوق ذاتها.لقد بليت بحبها دون دراية ولا وعي. حدث ذلك، يوم انضممت الى حلقة الاصدقاء، وكانوا مجتمعين بساحة المعهد أثناء ساعة الاستراحة وكانت إلهام قد التحقت باحدى صديقاتها لمرافقتها. دار الحديث بيننا حول تحضير الدروس و ما قاله الاستاذ . لم أنتبه الى وجودها أول الامر، لكن هبوب ريح صباحية خفيفة، جعلتني أتابع حركة يديها وهي ترتفع لتزيح خصلة صغيرة من شعرها انسدلت على حاجبها الايسر، ثم تمررأناملها بلطف لتسحبها في لمسة عفوية عابرة، وترميها الى الوراء كي تنسجم مع بقية الشعر.اندهشت وأنا أنظر إليها ،ثم استمرت متابعتي لجميع حركاتها ،فزادتني مشيتها افتتانا ،كانت رجلاها تتقدمان بدلال ،فإذا بجسدها يتابع كل خطواتها كالغضن الممشوق الذي تحركه الريح فينساق معها في انجسام تام. خيل إلي أن حركاتها البطيئة والانيقة شبيهة بحركة السحاب المسافر وهو ينتقل في فضاء السماء الفسيح دون أن يدرك، أو بتدفق الموج حين يرميه البحر على الشواطئ، فينحني برشاقة ،لم تكن إلهام أنيقة المظهر بقدر ما كانت أنيقة الحركة دون تكلف ولا زيف ،كأن سرا ما كان يرافق حركاتها فيحيط كيانها بهالة من الجمال الغير المرئي .

ومنذ ذلك الحين ،أصبحت أتطلع الى خفايا تلك الهالة ، أرنو الى اكتشافها أبحث عن مكنون ذلك الجمال، كأني به منساب بين المحسوس وغير المحسوس و المرئي والغير المرئي بين الظاهر والباطن ، شبيه بعطر الزهر المنتشر صباحا حين يوحي برقة الزهر وهشاشته دون أن يعكس صورته .

كنت ،كلما القينا ساعة الاستراحة، أشعر أن كل ما تفعله وتقوله كان جميلا وجذابا. كان لصوتها رنة متميزة ،لها رونقها الخاص، شبيهة باللحن العذب الفريد وكانت لابتسامتها إشراقة غريبة تهب للفرح مذاقه ولونه ،ثم غابت إلهام عن الحلقة التي كانت تجمعنا، فبت أتساءل عن سبب غيابها إن كان يعود الى كلمة أو إشارة عفوية صدرت مني .أستعيد كل مساء تفاصيل تلك اللقاءات لحظة بلحظة وحركة بحركة، فيتملكني الشوق الى رؤيتها ،أنتظر كل مساء طلوع الصباح لاجتاز الممر حتى أبادلها تحية صباحية عابرة ،عندئذ أدركت أني أهيم بها الى حد الانفصام والجنون .

وكنت في كل مرة، أكتب لالهام رسائل عديدة أمزقها خشية مواجهتها، آملا أن أتلقى منها ردا أو إشارة ولما طال انتظاري ولم أعد أتحمل شكوكي ولاحيرتي،قررت أن أحسم الامر بعد أن أرهقتني أسئلة أمي المتكررة :" لم تمتنع عن الطعام ؟ اخبرني بما تشتهي سأحضره لك في الحال، ما الذي أصابك ؟ لقد تغيرت كثيرا" . و كنت أرد : "لا تكترثي ، لاشيء يذكر ، منشغل بتحضير دروس الباكلوريا،لا أشتهي شيئا لا تزعجي نفسك كل ما تحضرينه من طعام لذيذ وطيب ."وكان أبي على غير عادته، يدعوني في كل مرة الى الجلوس إليه ، للاقتراب مني ومعرفة ما الذي بات يشغلني، وكنت في كل مرة أتملص من اللقاء ، متعللا بشغفي بالمراجعة .

آخر رسالة كتبتها للالهام ،أخفيتها تحت وسادتي حتى لا أمزقها، لا أتذكراليوم محتواها ما عدا بعض الجمل، كنت أجلس الى مكتبي وكانت لدي "آلة أورق" ،وكنت أخط غرفتي رواحا وغدوا متنقلا بين آلتي العازفة ودفاتري، أبحث داخلي عن وتر الحزن ووتر الفرح ووتر الشوق ووتر الانكسار ،أحاول أن أصف ما الذي ضاع مني فجأة، حس أم روح أم ذات ؟ شيء ما، ضاع مني وبضياعه تغيرت أحوالي ،لا بد لالهام أن تعلم ما الذي حل بي وما الذي بات يؤرقني؟ لابد أن تدركه،فليس من العدل أن أعيش وحيدا في عالم غريب تسوده الاوهام ،جميع أقراني مزهوون بصباهم، إلا أنا وقد بت مغتربا حزينا بينهم.

لم أعد قراءة الرسالة التي كتبتها مساء تلك الليلة، وضعت أوراقها في جيبي، و ذهبت الى المعهد أسرعت الخطى لا ألوي على شيء وأنا أجتاز الممر أردد داخلي جملة واحدة فقط : "سأسلمها الرسالة وليكن ما يكن، سأسلمها الرسالة لأستريح ،أعلم أنها لن تجيب لن تجيب، لكني سأفعل كلا ،كلا ،بل إنها ستجيب ،سترق لحالي وتجيب، فلن يحبها أحد مثلما أحبها ،إنها أكيدا ستجيب ، لا بل إنها لن تجيب، لن تجيب . ومن أدراك بردها ربما كانت تبادلك نفس المشاعر دون أن تعلم؟ بل ستجيب و سنتلقي قريبا تحت شجرة وارفة الاوراق، تحيط بنا الحقول الشاسعة ،سأضمها إلى صدري وستأخذنا السعادة الى الافق البعيد."

وصلت الى آخر الممر ، رأيتها ، اقتربت من الصف حيث كانت تقف ، أشرت إليها بأن تأتيني ، فاقتربت مني ، أخرجت أوراقي بسرعة وارتباك وقلت لها بتردد : "إلهام، كانت لنا عدة لقاءات و أود أن تقرئي رسالتي هذه ، إنها موجهة إليك ".فأجابت باستغراب :" رسالة لي ؟

- نعم.

أخذت مني أرواقي ثم قالت :سأقرؤها حتما ،فنحن أصدقاء.

أجبت وقد تلعثم لساني : شكرا. ثم انسحبت بسرعة البرق دون أن ألتفت .

عبثا ، حاولت أثناء ساعة الدرس التي تلت لقاءنا أن أتذكر ما كتبت ، لقد تطايرت جميع الحروف والكلمات التي كتبتها وما بقي بذهني هي موسيقى "الاورق" بأوتارها: وتر الحزن ووتر الفرح ووتر الانكسار، لحن سمعته، فأعدت عزفه ثم حورته ليعبر تارة عن شكوكي وطورا عن يقيني بأن الهام ستستجيب لوجدي.

كانت ألحاني شبيهة بذاتي التائهة تنساب من آلة الاورق فتنتشر وتتوزع ثم تتبدد فتحررني من شهوتي ومن شوقي وخجلي، وكنت أثناء غفواتي أتخيل جسد إلهام بين يدي انغمس فيه فيأخذني الى عالمه الدافئ الانيق الى موطن انفصلت عنه منذ أمد بعيد ،حتى إذا ماعدت إليه خلصني من جمودي فلا يترك ذاك السفر في نفسي سوى إحساسا رهيبا بالذنب يغمرني، فأمحو عند استفاقتي كل ما رأيت وما تخيلت كي يعاودني التيه والشرود من جديد .كنت كالغصن المنفصل عن الشجرة يدورحول ذاته، يحن الى الرجوع الى أصله فيغني يغني بجوارحه داخل منطقة جسده ثم يتجاوزها ليرحل بعيدا عنها .

مرت ثلاثة أيام ،وأنا أتجنب ملاقاة ألهام، ثلاثة أيام بلياليها وساعاتها ودقائقها وثوانيها البطيئة الرتيبة، ثلاثة أيام بتمامها وكمالها، كم كانت عليّ طويلة ! كنت أحاول أثناءها أن أتذكربعض الجمل أو العبارات التي كتبتها لالهام و أن أتخيل ردها ، إلى أن التقيت بها صدفة عند مدخل المعهد ذات صباح، أحسست بدقات قلبي تتسارع وأنا أراها واقفة أمامي ، بقيت واجما صامتا ،لا أدري كيف أبادرها الحديث، ثم تكلفت الابتسامة لأخفي توتري وأرقي إذ ذاك سمعتها تقول:" صباح الخير عماد ."

أجبت :" صباح الخير".

- كيف حالك؟

- لا بأس .

- كلنا منهمكون في تحضير امتحانات الثلاثية الاولى، لقد أوشكت على الانتهاء من المراجعة، وأنت هل أكملت مراجعة المواد الاساسية الاداب العربية والفلسفة والانقليزية ؟

فأجبت بسرعة :" لا ،لم أكملها بعد، أتقدم ببطئ".

فباغتتني قائلة : قرأت رسالتك أعتبرك من الاصدقاء الذين اعتز بهم ،لكن النجاح في الامتحان هو هاجسي الاساسي .

- معك حق، لم أفكر بتاتا في الظرف، إن كان مناسبا أم لا ؟ لقد كنت صادقا في كل ما كتبت ، من يعلم قد يجمعنا يوما ما طريق واحد .

- لا أشك في صدقك ، لكن الارتباط أمر مستبعد بالنسبة إليّ، أخير أن نبقى أصدقاء كما كنا دائما .

- سنبقى أصدقاء ،فقط أود الحديث إليك، فلم تتح لنا فرصة التعارف بعد.

- أقطن بعيدا عن المعهد وأقضي وقتا طويلا في التنقل، سنتحدث طبعا، إن أتيحت لنا فرصة اللقاء .....

- أتفهم وضعك ،أنا على استعداد لمقابلتك حيث ما شئت.

- حاليا، لا أستطيع ، وكما تعلم، لقد اقترب موعد الامتحانات .

- كما تريدين ، الى اللقاء .

- الى اللقاء .

وما إن غابت عني حتى شعرت بخنجر يخترق روحي فيصيبني بجرح عميق، كأن شيئا مني انهارفجأة ، فبات طريح الارض ينبش التراب يقاوم ،يحاول أن ينهض أن يستقيم إنها أحلامي وأوهامي، بت أتساءل متى تعود إلي ذاتي المنسلخة عني؟ لا بد لها أن تعود،لابد من مقاومة أوهامي ،كنت كلما عقدت العزم على نسيان إلهام، ازداد هيامي بها تشبثا وتجذرا، أقاوم شرودي فإذا بي أشد شرودا، أقاوم سهدي بإذا بي لا أنام، أقاوم شوقي الى رؤيتها فإذا بي أشتاق إليها أكثر . أستعيد ذلك اللقاء الذي جمعني بها، فإذا بي لا أستحضر منه إلا رنة صوتها الجميل وهي تناديني باسمي حتى كأني أسمعه لأول مرة :" عماد ، عماد ، عماد ." ما أجمله من اسم .ومع ذلك، استطعت الانسحاب من حلقة الاصدقاء حتى تعلم ما الذي أصابني ولم أعد الى ملاقاتها كل صباح في آخر الممر كما اعتدت أن أفعل ،كنت أعذب نفسي أعذبها بقسوة حتى تثأر لكرامتها وعزتها المهدورة وأكبح جماح غلوها وانسيابها فتفر من عقالي، تائهة مسلوبة الارادة حزينة متألمة . وكانت ترافقني في جحيمي ألحان الموسيقى فأسرح في عالمها الرقيق الجميل تواسيني نغماتها طيلة ساعات طويلة وتشفي غليلي وتلملم جراح نفسي الكليلة ،فـأهبّ من مكاني لأعزف أعزف أعزف دون توقف ،تارة أخاطب نفسي التي تاهت عني مرددا : "عد إلى رشدك يا عماد." وطورا أحدثها حديث الروح للروح: "عد اليّ، الى وكري، الى نفسي،عد كما كنت مبتسما، غير مكترث خفيف الظل والروح فخورا بما أنت عليه ،عد الى ما كنت عليه من ذي قبل، فلم تمنحك إلهام، ولو بعضا من وقتها لتعلم ما تعانيه ، لم تحاول الاستماع إليك ،إنها لا تستحق كل معاناتك، بل لا تستحق منك حتى مجرد التفاتة ."

وفي خضم صراعي مع نفسي تتالت غياباتي فأهملت متابعة الدروس ولم يعد يعنيني النجاح أو الفشل في الباكلوريا، كنت مسكونا برغبة واحدة ملحة هي أن أغادر المعهد بلا رجعة، لكني اضطررت الى التظاهر بالمراجعة وتحضير الامتحان إرضاء لوالديّ ، وما إن أعلنت نتائج الامتحان وعلما بفشلي حتى خيرت والدي بين أمرين إما أن يوافق على أن أزوال الدراسة بمعهد الموسيقى أو أن أغادر البلاد ،حينئذ أعلمني أنه لا يمانع في ترسيمي بمعهد الموسيقى على أن لا أفكر أبدا في الهجرة ، فوعدته بذلك والتحقت بمعهد الفن الموسيقي بتونس .

انقطعت عنّي أخبار الهام بعد نجاحها في البكالوريا ودخولها الجامعة ، فألهاني شغفي بالموسيقى عن التفكير فيها وأصبحت الالحان التي أعزفها الجسر الرابط بيني وبين العالم بيني وبين ذاتي التائهة ،الخيط الرقيق الذي يجمعني بكل ما يحيط بي، فيخفف عني وطأة الغربة .

كانت الحروف الموسيقية بمثابة المفاتيح أحركها بأصابعي فتفتح لي أبوابا لاتنتهي وتكشف لي عن أسرار الكائنات وما تزخر به من أصوات ،أرفع يديّ أتابع المعزوفات بحركاتها وفواصلها ونبراتها وتموجاتها وأنا أقرؤها ،فتسكنني في الحين ألحانها، كأنّي عهدتها منذ زمن بعيد، وتتحول روحي التائهة الى قلم يسعى الى نحتها في ذاكرة كل من يصغي إليها.

أصبحت مسكونا بالتلحين ، تخترق مخيلتي أحيانا في اليقظة و أخرى في النوم أنغام غريبة ، مقاطع أؤلفها وأرددها طيلة أيام، فتنساب روحي خارج عنّي لتعود الى شرودها وتيهها مزهوة غير عابئة بما قد يصيبها ،كأنّ نفخا منها يطمح الى أن يتوزع أن ينتشرهنا وهناك .

لا أدري، كيف نشأت مقطوعة إلهام ،حدث ذلك بعد بضعة سنين من تخرجي من معهد الموسيقى و عملي بالتدريس في أحد المعاهد .

عادت الى مخيلتي ذات مساء تلك الحركة السحرية التي صدرت عن إلهام ساعة الاستراحة بساحة المعهد وهي تزيل خصلة شعرها من أعلى حاجبها ،فتذكرت تلك الحركة دون أن أستعيد ملامح إلهام وحضورها أوحتى جسدها: واحد ، اثنان ، ثلاث ،النغم يعيد صيرورة الحركة خالية مجردة من ذكرى إلهام، واحد ، اثنان ، ثلاث ،نزولا صعودا ، رقة ، فحدة ،الريح تتابع مسارها ،أربعة ، خمسة ، ستة ، إنها تنساب تنسجم مع رقعة الفضاء المحيط بها ،ثم شوق قديم قدم الشمس ، عميق عمق الارض يطوف بها يوحي إليّ أني ربما كنت قبل وجودي غصن شجرة أوسيولا من ماء أو طيرا يحلق في السماء، سبعة ، ثمانية ، تسعة، فالماضي يعود بي الى لحظة لقائي بالهام ليجمعني بحاضري فيتحول الى لحظة واحدة مسترسلة متناغمة تشدو كالطير العائد بعد هجرة ،لا تحتاج لا الى الكلام و لا الى الوصف ، فأي وصف قادر على تمثل الزمن في لحظة واحدة هي لحظة التلحين ، أكملت تأليف المقطوعة وغادرت بيتي عند الفجر، ألفّ الانهج والازقة من شدة الفرح .

ثم رجعت أدقق في جميع فصولها فصلا فصلا ، لا بد أن ترن عاليا فيسمعها الكون، إنها صداه، لا بد أن تسمعها أمي وأبي وأشقائي وأصدقائي بل وجميع الناس ، لا بد أن تعزفها أكبر فرقة ،لا بد أن يدرك الجميع، أني لست بالفاشل ولا بالمجنون.

طرقت جميع الابواب لتحقيق تلك الامنية ، فاتصلت بأهل الفن كبيرهم وصغيرهم وغنيهم وفقيرهم وجل مسؤوليهم، فلم أجد فرقة واحدة قادرة على عزفها . كنت أتلقى نفس الرد من كل من قابلت : " لست مشهورا ومعزوفتك تتطلب مبالغ كبيرة من المال وربما عازفين يتمتعون بخبرة عالية قد تستوجب استدعاء فنانين أجانب لدرايتهم ومعرفتهم بمثل هذه المعزوفات ،حاول أن تلحن أغنية ربما تلقى رواجا، أما معزوفة إلهام، فهي لا تستجيب للذوق العام، لا أحد يسمع لحنا خاليا من الكلمات ،مهما كان جماله أورقته، فلا ترهق نفسك وأنت مازلت في بداية الطريق ."وذات مرة همس لي أحدهم :" ما قيل لك هوالحقيقة، لكنها ليست كل الحقيقة ،عليك أن لا تزاحم وأن لا تغضب كبار الفنانين بموهبتك الفذة ". فأجبت : "و الفن و الجمال و الابداع ؟." فأجاب : "كل من يؤمن بمثل هذه القيم، عليه إما أن يغادر البلاد أو أن يعتزل الفن . "ما إن سمعت ذلك الحديث حتى عزمت على أن لا أستسلم للمصاعب، لن أترك ذلك الانفصام الرهيب الغريب يصيب روحي مرة أخرى، لن أشفى منه هذه المرة بعد أن أدركت أن الموسيقى تسكنني منذ أمد بعيد ، سأروي قصتي ، لن يكلفني ذلك أي شيء سوى أن أكتبها على هذا الورق .

ها قد أكملت سرد حكايتي على مسامعكم أيها القراء، أشعر الآن بألحان "معزوفة إلهام" تصعد الى صدري و تلح عليّ بأن تعزف دون فرقة ،أعلم أن هذا الورق لن ينقلها إليكم ،إني أقاوم أقاوم حتى لا يخمد الالهام داخلي فيفنى ويندثر الى الابد .لقد باتت ألحان معزوفتي حبيسة أنفاسي، لا بد أن تخرج مني وأن تنساب .أوتدركون أني أحاول أن أهبكم شيئا مني من دمي وأنفاسي وأرقي؟ لا أريد أن أرحل عن هذه البلاد ،لأغني ألحان واحاتها وبحارها وشموسها خارج حدودها، لا أريد أن تدفن معي موهبتي، كما كان شأن العديد الشعراء والملحنين والفنانين منذ مئات السنين من قبلي، لقد رحلوا دون أن يعلم أحد ما كتبوا وما ألفوا. إني أقاوم وأنا أغني دون أن يصلكم صوتي، إني أغني الالهام الذي يسكنني. أقاوم وحدي . فإذا بالورق سدّ منيع أعجز عن اختراقه، إنه جدار يفصل عالمي عن عالمكم .فهل تسمعونني ؟ هل وصل إليكم صوتي ؟ يا الله، لو تدركون ما ألحنه وما أتغنى به ؟ لو تعلمون ما أقوله في لغة أخرى ؟ لو تعلمون ؟سأترككم الآن . عمتم مساء أيها الاحبة، أشعر أن روحي المنفصلة عني، باتت تحوم حولي ، تردد معزوفة ما ألهمت به من سحر ومن وجدان.


كاهنة عباس
نشرت هذه القصة بمجلة الحياة الثقافية عدد 270 أفريل 2016





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى