عزت القمحاوي - الميلاد المتكرر للمتعة والورع

عندما أكل آدم وحواء من شجرة المعرفة خسر الإنسان فرصة الخلود، هبط أبوانا علي الأرض. ثم جاء التأكيد الثاني علي محدودية عمر الكائن في الحمام!
نزل جلجامش يستحم وترك عشبة الخلود علي الشاطيء فجاءت الحية وأكلتها، لكن الملحمة البابلية لم تعتبر جلجامش مذنبا، إذ يكفيه بؤسا أن الموت صار له نصيبا.

وبنوع من العناد الذي تتميز به إرادة الحياة، اتخذ الإنسان من بيت الداء مكانا للشفاء، إذ صار الحمٌام مكانا لتكثير الحياة، فهو نقطة البدء لولادات متكررة بعد الولادة الطبيعية الواحدة.

في عديد من الديانات يرمز الغمر في الماء إلي الميلاد من جديد، وفي الوقت نفسه يقوم الحمام مقام العتبة الضرورية قبل الانخراط في فعل اللذة.

هو إذن المكان المركزي الذي يعاد فيه تشكيل حياة الإنسان سواء باتجاه المتعة أو الزهد. ويرجع ميرسيا إلياد هذه المكانة المركزية للماء إلي كونه أصل كل حياة، والوجود الذي يسبق كل وجود. وحسب إلياد فإن الغطس في الماء يرمز إلي الارتداد إلي حالة سبقت تشكل الأشكال، بينما يستعيد الطفو فوق الماء فعل الخلق الكوني المتمثل في ظهور الأشكال. وهذا الانمحاء والتشكل لدي الإنسان بالغمر في الماء يشبه الطوفان والغرق الدوري، فعقب الطوفان تنبعث الحياة من جزيرة تظهر بصورة فجائية وسط الأمواج.

وهذه هي فلسفة العماد في المسيحية.

يقول إلياد إن تيارا أخذ بالعماد في سورية وفلسطين قبل الميلاد بمئة وخمسين عاما. كان الأسينيون يمارسون الاغتسال الطقسي أو العماد، لكن اليهودية كانت تكرر ذلك الاغتسال الطقسي بصورة دورية، بينما يتم عند المسيحيين لمرة واحدة.

ويمكننا وضع طقوس رفع الجنابة الإسلامية، والوضوء للصلوات وغسل الميت في ذات الرمزية: بدء حياة جديدة، خالية من الدنس.

***

بقدر ما كان الحمام بابا للخروج من الدنس، فهو باب واسع للدخول إلي أقاليم اللذة. وإذا استثنينا الدش الصباحي المتعجل في المدينة الحديثة، فإن الاستحمام أو إعداد الحمام دعوة لايفوت الشريك مغزاها.

ولنا أن نثق في حكمة الحكاية. حيث تضمن ¢ألف ليلة وليلة¢ هذه المكانة المركزية للحمام، في حالات الشبق وحالات الورع أيضا.

في الليالي يمثل الحمام الخطوة الأولي باتجاه الجنس في ترتيب صارم: الاغتسال، فالأكل مع الشرب فالاضطجاع. ولايوجد سوي استثناء وحيد في قصة الحمال والثلاث بنات اختل فيها الترتيب فكان ما كان من الحرمان!

بدأت الليلة بالطعام والشراب والهراش والبوس والعض والفرك، وعندما بلغت الإثارة مداها بدأت النساء تتناوب علي خلع ملابسهن والارتماء في بحيرة الماء والإشارة إلي موضع الحياء والسؤال عن اسمه، وكلما أجاب الحمال باسم، ضربته علي قفاه عقابا علي قلة حيائه، حتي علمنه الأسماء المحتشمة كلها، وجاء دوره في التعري فبدأ يختبرهن بالأسماء الممكنة لشيئه، ولأن الدرس اللغوي طال أكثر من اللازم، أو بسبب تأخير الحمام في ترتيب الطقوس، فإن الحمٌال لم يظفر بأكثر من هذه الملاعبات إذ دخل القرندلية الثلاثة وبعدهم الخليفة هارون الرشيد ووزيره جعفر فسكت الساهرون عن الهراش المباح.

وليس هذا بأعجب من حكاية الفلاح وزوجته الأمية التي أدركت مباهج الحمام علي الرغم من أنها لا تتمتع بثقافة شهرزاد ابنة وزير الملك شهريار.

أقدم ذكري إيروتيكية لديٌ أحملها لرجل يحكي بمرارة لصديقه الراشد عن زوجته الميتة، كان يقص متأسيا أن فضيلتها الكبري كانت اكتشاف أي تغير في وجهه لأية مشكلة كانت، فتقوم من تلقاء نفسها وتسخن الماء وتدعوه إلي الحمام، وهو من جهته لايجد من الرجولة أن يريق الماء من دون جنابة، فينقلب إليها بينما تليٌف ظهره، فإذا هو خارج من الحمام خاليا من الهم كما ولدته أمه!

وما كان لي أن أعلم أنه في الوقت الذي كنت أستمع فيه إلي تفجع هذا القروي، كان هناك كاتب كولومبي يجلس إلي أوراقه ليكتب عن تهييج الحمام الذي أدي إلي واقعة زني محارم، ففي ¢مائة عام من العزلة¢ لماركيز تواصل العمة أمارتا التعري في البانيو أمام ابن أخيها أورليانو خوسيه، معتقدة أنه لايزال طفلا، حتي قادته إلي فوران جعلهما يطاردان بعضهما البعض في أرجاء البيت، أما الجميلة البلهاء ريميديوس فقد سحبت غريبا إلي حتفه عندما تلصص عليها من قرميدة منزوعة من السقف، عمد إلي توسيعها بخلع اثنتين أخريين، فسقط تحت قدميها مهشم الجمجمة.

ويبدو أن بهجة العري المدوخة لاتقتصر علي البلدان الحارة كمصر وكولومبيا، فإلفريدا يلنيك في ¢عازفة البيانو¢ تصور طالب الطب إبن خال (إريكا) يلقي بنفسه في حوض الاستحمام المليء بمياه جوفية في برودة الثلج ليبرد جسده الفائر، وتتقافز الفتيات حول ¢الجدع¢ فيتحول مسعي التبريد إلي إحماء إريكا التي استسلمت له في المصعد، بعد أن تأملت من وراء الزجاج استعراض العري في مشهد يذكر بمشهد الحمال والثلاث بنات أو معكوس مشهد زوجة شهريار مع العبيد!

لكن الحمام البارد ينجح أحيانا في تثبيط الهمة. ينقل ميرسيا إلياد في ¢التنسيب والولادات الصوفية¢ حكاية ميثولوجية أيرلندية عن الشاب البطل كوشولين ابن أخ الملك الذي طلب من عمه سلاحا وعربة وتوجه إلي قصر أبناء نيختا الثلاثة، وهم ألد أعداء مملكة ألستر (مملكة عمه) حيث بتر رؤوسهم، وقد عملت هذه المغامرة البطولية علي إحماء بدن الفتي، وعلي تزويده بشحنة حرارية هائلة، وقد حذرت الساحرة الملك: "إذا لم تسرع باتخاذ الإجراءات الاحتياطية فإن الفتي سيقضي علي جميع المحاربين في المملكة، وسيبيدهم عن بكرة أبيهم¢. عندها فكر الملك بالأمر وأرسل إلي الفتي أفواجا من النساء العاريات، لم يأبه لهن، فلم يكن هناك بد من الإتيان بثلاثة دنان من الماء أودع في الأول، فانتقلت منه حرارة شديدة حطمت الألواح الخشبية للدن، وفي الدن الثاني ظهرت علي السطح فقاعات الغليان، وفي الثالث بلغت الحرارة درجة عالية، تمكن بعض الرجال من احتمالها، وهدأت ثورة الفتي، فأعطي الثياب.

***

إذا كان الحمام قد شفي الفتي من تعطشه للدم، ففي عديد من القري المصرية أسطورة تتعلق بحمام منتصف الليل في الترعة، وبطله دائما رجل اشتبك في غزل عنيف مع كلبة، ولم يجد من سبيل لإقناعها بإفلاته سوي حملها في العباءة والنزول بها إلي الماء!

تكرار الأسطورة يؤكد خياليتها، لكن تبقي أمثولة الماء المهديء، التي تجعل الفلاح يجبر الأبقار والجاموس علي هذا الحمام الصباحي من أجل إطفاء الشهوة، فهناك حسابات اقتصادية صارمة تحدد الأوقات الجيدة للحمل طبقا لمواعيد الدورة الزراعية. وإذا قالت الحسابات بأن موسم البرسيم يمكن أن يضيع في أشهر الحمل، يتم إطفاء رغبة البهيمة بالحمام الصباحي، لترحيل حملها إلي وقت آخر.

***

العودة إلي ألف ليلة تجعلنا نكتشف أن الحمام دواء لكل داء، فهو يغسل أوزار السفر، وعلامة علي الوصول أخيرا إلي بر الأمان للمطاردين من عفاريت الإنس والجن. والخروج إلي الحمام علامة علي شفاء المريض: يحكي الطبيب اليهودي عن جهوده في علاج الشاب الموصلي علي يديه " ثم جسيت مفاصله وكتبت له ورقة وقعدت أتردد عليه عشرة أيام حتي تعافي ودخل الحمام واغتسل¢.

ولأن رواة ألف ليلة المجهولين لديهم من وسائل الرعب ما يكفي، فلم يكونوا بحاجة إلي زرع الوحشة في الحمام كما تفعل الأفلام. وإذا ما خرج عفريت فهو يخرج من الكنيف، باعتباره بيت النجس، وليس من الحمام مكان التطهر. لكن الحمام كان فأل شؤم ذات مرة، وذلك في حكاية الملك الشاب المسحور الذي خلف أباه في الحكم بعد سبعين عاما أقامها ملكا للجزائرالسود. إذ ذهبت الزوجة وهي ابنة عمه إلي الحمام، ووسعت لوشاية الجاريتين اللتين استمع إليهما تتناجيان بخديعته بينما كان متمددا يستمتع بتدليل إحداهما عند رأسه والأخري عند رجليه. وعرف من تناجيهما أن زوجته تخدره كل ليلة وتخرج إلي حيث تخونه مع عبد أسود في خص حقير، حيث تأكل الفئران وتشرب من القوار!

لاتأتي شهرزاد علي ذكر الحمام عندما تبتعد عن القاهرة وبغداد والبصرة ودمشق، لأن الحمام ابن أصيل للمدنية العربية، بينما تأخرت علاقة أوروبا بالحمام طويلا، ويقال إن سر تطور صناعة العطور الفرنسية كان تعويضا عن غياب هذه النعمة. وفي مذكراته عن سنوات باريس نكتشف أنٌ همنجواي لم يمتلك حمٌاما خاصٌا في بيته، ولابد من كون ذلك مألوفا في العقد الثالث من القرن العشرين لأن همنجواي كان كاتبا وصحفيا معروفا بشكل جيد وكان يمارس بعض مظاهر الرفاهية كالأكل في المطاعم والمراهنة في سباقات الخيل.

***

يعدٌ الذهاب إلي الحمام إشهارا حسيٌا تتعامل معه المدينة العربية، والقرية العربية بكل حفاوة، والغريب أن مدينة محافظة مثل حلب تتعامل مع (حمام السوق) بطريقة احتفاليٌة، يصبح فيها محور حفلات الزواج، لاسيٌما في السنوات الأخيرة، حيث ألحقت بالحمامات صالات أفراح.
وفي عديد من القري المصرية مايزال طقس حمام العريس والعروس مستمرا: ففي عصر يوم الدخلة تشترك الصويحبات في حمٌام العروس وإزالة الشعر عن جسمها في بيت أهلها، بينما يذهب العريس في زفة من أصدقائه بالطبل والمزمار والرقص ليستحمٌ في بيت عمه. إنٌها حالة من إشهار عزوة العائلة، ولكنها أيضا وشاية بأحداث الليلة المقبلة بأكبر قدر من العلانية والاستعراض: فعندما يصل العريس إلي بيت العم تنثر فوق الزفة حبات الكراملة ابتهاجا، والملح للحماية من الحسد، ليتوجه الموكب إلي الغرفة التي يتوسطها طشت الاستحمام، حيث يتحلق اللابسون بالعاري يليفونه ويتقاذفون بالماء.

هذا الحمام الطقسي هو الأشهر في حياة صاحبه وصاحبته، حدث تنسيبي كالطهور، يعلن عن توديع صاحبه وصاحبته حياة العزوبية، التي كانت بالنسبة للأنثي سرا طي الكتمان، بينما يتمتع الذكر الريفي منذ البداية بعريه المعلن في حمام الترعة الأكثر خطورة من حمام جلجامش، إذ يجعل الموت نصيبا واقعيا لأبناء الريف الذين تنهش البلهارسيا أكبادهم.

حمام الترعة يبدو احتفال تنصيب بالبلوغ، إذ يبدأ الاستحمام جماعيا في فترة الصبا، ويحاكي طقس الحمام النظاميٌ: فالصابون هو أوراق نبات العليق التي يفرك بها الجسم، فتنتج رغوة ليست في وفرة رغوة الشامبو، لكنها رغوة علي أية حال. وجرن الماء البارد هو الترعة بمائها الوفير الجاري، ويستعاض عن الجرن الساخن، بالقناة الضحلة المعرٌضة للشمس طوال اليوم، أمٌا الشمس فهي منشفة تكفي الجميع.

أوقات هذا الحمام المفتوح للبشر والدواب تحدد نوع الاغتسال وهدفه، فحمام الظهيرة في الغالب يكون طلبا للبرودة وإطفاء الحر، بعكس حمام الصباح الباكر الذي لايضطر إليه إلا لإزالة الجنابة من أجل ¢خطف¢ صلاة الصبح قبل الشروق.

وسواء أكان الدافع وراء الحمٌام الإغواء أم الورع، فإنٌنا نستحم لمقاومة الفناء، ونتخذ من الحمام عتبة للخلود.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى