إبراهيم قيس جركس - دليل نيتشه لتجاوز وجودك والتغلّب عليه

يصف نيتشه في كتابه الأشهر "هكذا تكلّم زرادشت" ما يمكن أن يتحوّل إلى واحدة من أكثر نظرياته شهرةً -نظرية الإنسان الأعلى أو Ubermensch.

يشير مصطلح "الإنسان الأعلى" إلى مفهوم نيتشه عن الإنسان الذي تغلّب على نفسه حرفياً وتجاوز طبيعته البشرية. من حيث الجوهر، إنّ "الإنسان الأعلى" هو الذي تجاوز عبودية الشرط الإنساني ووصل إلى مرحلة التحرّر - حالة اللعب الحرّ والخَلق المُبدع.

يمكن النظر إلى هذه الحالة على أنها الفرد الصافي، وهو شخص غير مُثقَل بتأثيرات وسلطات المجتمع والآخرين. هذا الشخص يقرّر مصيره، ويخلق قيمه الخاصة، ويرقص مع الحياة على وقع نغمات روحه الخاصة.

يتحدّث نيتشه في كتابه "زرادشت" عن ثلاثة تحوّلات عقلية يجب أن يمرّ بها الفرد للوصول إلى مرحلة "الإنسان الأعلى". هذه التحوّلات هي إلى حدٍ ما توجيهية بطبيعتها، وبالتالي يمكن اعتبارها نوعاً من الدليل لتتجاوز نفسك وتبلغ مرحلة "الإنسان الأعلى"، أو تحرير روح المرء وعقله. دعونا نلقي نظرة أقرب على هذه الخطوات:

# عملية التحوّل الأولى: مرحلة الجمل
——————————————
أول مرحلة من مراحل التحوّل التي يتحدّث عنها نيتشه هو تحوّل الإنسان إلى جمل، يكتب قائلا:
((ما الثقيل؟ هكذا يسأل العقل المُكابِد، وهكذا يجثو على ركبتيه، مثل الجمل ويطلب حملاً جيداً.
ماهو الأكثر ثقلاً أيها الأبطال؟ يسأل العقل المُكابد، كي أحمله وأغتبط لقوّتي))

بعد هذا المقطع يواصل نيتشه سرد العديد من العناصر التي يمكن اعتبارها من أصعب تجارب الحياة الممكنة أو اختباراتها. ويشير إلى وجوب مطالبة الجمل بهذه الأعباء. إذا يكتب ((أم هو هذا: أن نُحِبَّ أولئك الذين يحتقروننا، وأن نمدّ يدنا إلى الشبح عندما يريد أن يُرعبنا؟))

ما يقوله نيتشه هنا هو أنه قبل أن يصبح "إنساناً أعلى" يجب عليه أولاً أن يتحمّل الكثير من الأعباء. يجب على المرء أن يحارب الخوف والحب والحقيقة والموت والارتباك والعطش والتوق للمعرفة وجميع الجوانب الأخرى للوجود البشري. الجمل يحتضن هذه التحديات ويرحّب بها باسم الواجب والنبل.

بعبارة أخرى، لايهرب الجمل من أثقال الحياة ولايشتّت انتباهه عنها. إنه يرحّب بالحياة ويحييها وجهاً لوجه ويتقبّل الصعوبات التي تطرحها أمامه من منطلق الشعور بالواجب. وبذلك، يتواضع الجمل ويشتدّ عوده ويقوى. فقط من خلال معاناته من هذه التحديات يتكسب الجمل القوّة والمرونة اللازمتين لتحقيق هذا التحوّل العقلي الأول.

# عملية التحوّل الثانية: مرحلة الأسد
——————————————
يمضي نيتشه ليصف كيف يدخل الجمل في النهاية "الصحراء الأكثر خَلاءً ووحدةً" قبل أن يتحوّل إلى أسد. يمكن تفسير استعارة الصحراء المنعزلة والخالية على النحو التالي: لقد بحث الجمل عن الصراعات التي يجب أن تطرحها الحياة أمامه ويعتنقها. وبفعله لذلك، يصبح الجمل معزولاً ووحيداً إلى حدٍ ما. لقد أصبح مختلفاً عن الآخرين وعن المجتمع الذي أنتجه. فيجد نفسه متسائلاً عن كل شيء، سواءً قيمته هو أو قيمة مساعية والهدف منها.

يمكن أن يُنظَر إلى الصحراء على أنّها مكان للأزمات الوجودية، حيث يتساءل الجمل عمّا إذا كانت توجد قوانين أو فضائل كونية توجّهه وتمنحه الهدف والمَغزى. بالنسبة لنيتشه، هذه القيم والفضائل والمبادئ الكونية غير موجودة، والجمل مضطرٌ لمواجهة هذا الاحتمال، وبالتالي يجب أن يتحوّل الجمل إلى أسد. يكتب نيتشه:

(([هنا] أسداً يستحيل العقل، يريد انتزاع الحرية، وسيداً يريد أن يكون في صحرائه الخاصة.
هنا يبحث عن آخر أسياده: عدوّاً يريد أن يصير لآخر أسياده ولآخر آلهته، ومن أجل النصر يريد الاشتباك مع أعظم تنّين.
ماهو هذا التنين الأكبر الذي لم يَعُد يرغب فيه العقل سيداً وإلهاً؟ "ينبغي عليك" يُدعى التنّين الأكبر. لكنّ عقل الأسد يقول: "أريد".
"ينبغي عليك" تسدُّ عليه الطريق مُلتَمِعَةً ببريق الذهب، حيوان حرشفي، وفوق كل حرشفة تلتمع مقولة "ينبغي عليك!" ببريق ذهبي.
لكن ما ضرورة الأسد بالنسبة للعقل يا إخوتي؟ ما الذي ينقص دابّة الحمل والمكابدة المُتَبَتّلة والمُعمَمَة احتراماً؟
خَلقُ قيم جديدة - ذلك ما لايقدر عليه الأسد بعد، أمّا اكتساب الحرية من أجل إبداعٍ جديد - فذلك ماتقدر عليه قوة الأسد.
اكتساب الحرية وإعلان ال"لا" المقدّسة تجاه الواجب أيضاً، ذلك هو ما يحتاج إليه الأسد أيضاً.
اكتساب حرية ابتداع قيم جديدة- إنه الكسب الأكثر فظاعةً بالنسبة بعقلٍ مُكابد ومُفعَم بالاحترام. لكنه في الحقيقة مجرّد صيد وعمل حيوانٍ مفترس)).

حسناً، كان هذا الاقتباس طويلاً بعض الشئ، لكنه جزء رئيسي من النص. دعونا نتوقّف هنا قليلاً. عندما يكتشف الجمل أنّ الحقيقة الكونية والفضيلة العمومية قد لا تكونان موجودتان بالمرّة، سيكون أمامه خياران فقط: يمكن أن يسقط في فخّ العَدَمية ويرفض الحياة كونها بلا قيمة أو معنى ثم الانتحار، أو يمكنه المطالبة بحريته وخلق معانيه وقيمه وفضائله الخاصة. لكي يصبح الجمل "إنساناً أعلى" من الواضح أنه عليه أن يتجاوز ذاته، وأن يرتقي.

للقيام بذلك على الجمل أن يدمّر أكبر عائق يقف أمام حريته الحقيقية: الواجب والفضيلة اللتان تفرضهما التقاليد والمجتمع. هذا ما يمثّله تنّين نيتشه الأكبر. كان الجمل عبداً للتنّين، وكان يعتنق تحديات الحياة وصعوباتها، لكنه كان يعيش دوماً وفقاً للقيم والقوانين المفروضة عليه من الخارج. ويمكن أيضاً اعتبار تنّين "ينبغي عليك" على أنه يمثّل ببساطة كل شخص يحاول أن يخبر المرء ويعلّمه كيف يعيش حياته ويملي عليه تصرّفاته.

يجب أن يرفض الجمل تنّين التقاليد والأوامر والنواهي هذا، لكنه عاجزٌ عن ذلك وهو في شكله المُحبّ للواجب هذا. لذلك عليه أن يتحوّل إلى أسد. إنّ تجاربه ومحنه قد ساعدته للحصول على القوّة الكافية ليصبح إسداً. إذ يرمُز الأسد للشجاعة والمثابرة وخيبة الأمل وحتى الغضب. في هذه الحالة فقط يكون العقل قادراً على إطلاق ال"لا" المقدّسة. هذه ال"لا" المقدّسة تمثّل الرفض المطلق لكافة القيم والقوانين والسيطرة الخارجية وجميع المبادئ التقليدية. كل ما يفرضه الآخرون، أو الأديان ودور عباداتها وسَدَنَتَها، والمدارس والمجتمع والمؤسسات، والحكومات، والعائلات، وجميع أشكال الإيديولوجيا والبروباغندا، يجب أن تُرفَض بصرخة زئير قوية وصاخبة.

هذا لايعني أنّ الأسد يعتقد أنّ جميع القيم والفضائل التي تفرضها مثل هذه الكيانات شريرة أو فاسدة بالمطلق، بل في الواقع يمكن أن تكون مفيدة وصالحة. ومع ذلك، فإنّ حقيقة أنها تنتمي إلى سلطة خارجية أو عليا تتطلّب رفضها. الإنسان الأعلى هو فرد مُطلق، وبالتالي يجب أن يخلق ويُبدع قيمه الخاصة ووفق شروطه الخاصة.

# التحوّل الثالث: مرحلة الطفل
———————————-
بعد أن يُطلق الأسد صرخة ال"لا" المقدّسة، لايزال يتعيّن على العقل الدخول في مرحلة تحوّل إضافية ليصبح بعد في مرحلة "الإنسان الأعلى". يجب أن يغدو العقل طفلاً. يكتب نيتشه:
((لكن قولوا لي يا إخوتي: ما الذي يقدر عليه الطفل ممّا لا يقدر عليه حتى الأسد؟ ولِمَ ينبغي على الأسد المفترس أن يتحوّل ايضاً إلى طفل؟
براءةٌ هو الطفل ونسيان. بدءٌ جديد، لعب، دولاب يدفع نفسه بنفسه، حركة أولى، "نَعَم" مقدّسة.
أجل، إنّ لعبة الابتكار يا إخوتي، تتطلّب "نعم" مقدّسة: إرادته الخاصة يريد العقل الآن، والذي يكون غريباً في العالم يكسب عالمه الخاص))

إذن، يرى نيتشه أنّ الأسد يجب أن يتحوّل مرّةً أخرى حتى ينسى. لقد تعرّض العقل للكثير من الضغوط والإكراه والاضطراب خلال مراحل تحوّلاته، لكن عليه أن ينقّي نفسه من الماضي وقيمه. وعند تقديم "نعم" المقدّسة، يؤكّد الطفل اللحظة، ويؤكّد عدم اليقين، ويؤكّد تدفّق الحياة وطاقتها. يصبح الطفل عجلة ذاتية الدفع، تماماً كما يمكن رؤية الحياة بنفس المصطلحات. يختار الطفل أن يتدحرج مع الحياة ويرقص ويلعب معها.

في النهاية، بالنسبة لنيتشه، ينبعث الابتكار الخلاّق والنقي من حالة اللعب هذه. عندما يتمكّن المرء من تحقيق عقل الطفل _عقل منغمس في اللحظة ومليء بالدهشة والمرح_ عندها يمكن للمرء أن يريد إرادته، ويخلق فضائله وقيمه، وبالتالي يخلق واقعه/عالمه الخاص. وفي خضوعه لهذا التحوّل النهائي، يتغلّب العقل على نفسه ويتجاوز ذاته، وينتصر على عالمه، ويصل إلى مرحلة "الإنسان الأعلى".
هنا يحقّق العقل حريته.

# ماذا نستخلص من هذا الدرس النيتشوي؟
———————————————

قد يرفض البعض نظرية "الإنسان الأعلى" وتجاوز الذات والتغلّب عليها عند نيتشه، باعتبارها نظرية مثالية جداً وبعيدة المنال. لكنني أعتقد أنّ مجرّد التفكير في ذلك يُعَد قصراً في النظر. فمن نظرية الإنسان الأعلى يمكننا أن نستقي العديد من البديهيات المهمة والمفيدة لنا خلال حياتنا:

١] الألم ضروري للتحوّل الإيجابي، ويجب تقبّله واعتناقه
لطالما اعتقدتُ بهذه الفكرة وكتبتُ عنها مطوّلاً إيماناً منّي بأنّ تولّد لدى الإنسان مفهوماً جديداً عن "السعادة". في الأساس، إنّ الألم مهما كان نوعه (عاطفي، جسدي، وجودي، أياً كان) هو جانب مهم ومحتوم من جوانب حياتنا اليومية. ومعظمنا _وأنا كنت منهم_ يسمح له بأن يصبح مصدراً للقلق والحزن لأننا نشعر بالذنب حيال ذلك - ونتسائل: لماذا لسنا سُعَداء؟ وعِوَضاً عن ذلك، علينا أن ندرك أننا من خلال تجاربنا الصعبة ومِحَننا التي نمرّ بها خلال الحياة تجعلنا أشخاصاً أكثر مرونةً وأكثر تقديراً للحياة. كما أنّها تزيد من قوّتنا وعزيمتنا، ففي النهاية نيتشه هو القائل "ما لا يقتلني يزيدني قوّةً". وبالتالي يجب علينا أن نتقبّل حقيقة أننا لا نستطيع تجنّب الألم. بل كل ما عليما فعله هو محاولة تجاوزه والتغلّب عليه.

٢] لكي نحرّر أنفسنا، علينا أن نَشُنّ حرباً ضدّ سيطرة السلطات الخارجية والتقاليد القديمة.
إذا كانت أفعالنا وأفكارنا تمليها علينا كيانات أخرى من خارجنا، لا يمكننا أن نتعرّف على أنفسنا جيداً. وبالتالي، لا يمكننا العيش بأصالة. أعتقد أنّ حياة وأفكار الآخرين لا تزال تمارس تأثيراتها على آرائنا وأفكارنا وحياتنا. لكنّ المفتاح هو ألا تتأثّر أبداً بشكلٍ أعمى أو أن تفترض بأنّ أيُّ ما تظن بأنّك "تعرفه" حقيقة مطلقة. يجب علينا تطوير القدرة على استيعاب أي فكرة وتقبّلها، دون تبنّيها، والسماح لتلك الشذرات التي يتردّد صداها على أنها حقيقة أن تصبح جزءاً من رؤيتنا الفريدة والمتميّزة والمتغيّرة/المتطوّرة باستمرار. يجب أن نجعل كل فكرة خاصة بنا وحدنا، ونغيّرها ونفهمها ونطوّرها حسب منظورنا الخاص.

٣] علينا أن نستجمع الكثير من الشجاعة ونتحلّى بجرأة كبيرة لكي نقطع أسلاك الدمى التي تتعلّق بنا.
هناك سبب في كون معظم الناس يسيرون خلال حياتهم بشكل أعمى - إنّه لأمرٌ مرعبٌ البحث عن بديل. فاختيار السعي وراء الحقيقة والحرية بأيّ ثمن يقودنا إلى قضاء حياة مؤلمة ومنعزلة غالباً. ومع ذلك فالمكافئات عظيمة في قدرها. إنّ الشعور بالحرية والتوحّد والقوة والحب الذي يمكن للمرء بلوغه في السعي وراء وجود أسمى هدية لا توصف للتجربة الإنسانية. ولكن يؤكّد نيتشه أنه ينبغي علينا أن نصبح أسوداً لنتبع طريق النمو والتطوّر العقلي. يجب أن نجد في أنفسنا مكاناً بتصميم وجرأة لامثيل لهما للارتقاء فوق أولئك الذين يرغبون في السيطرة على حياتنا.

٤] يجب أن يكون هدفنا التأكيد على الحياة والرقص معها: اللعب والابتكار كالأطفال.
لا يقبل الطفل الحياة فحسب، بل يمجّدها ويعشقها بالكامل. يدرك عقل الطفل أنّ أفكاره وتوقّعاته هي مصدر تجربته سواء أكانت إيجابية أو سلبية. وبالتالي، فإنه يختار أن يعيش في حالة عفوية، وهادئة، واحتفالية. وبذلك يكون قادراً على "السير مع التيار" بدلاً من السباحة عكسه. إنه قادرٌ على الخّلق والابتكار فقط لأنه يعيش بشكلٍ أصيل، مستفيداً من الخيال اللامتناهي للكون. ويجب علينا أن نهدف لبلوغ ذلك أيضاً.

إبراهيم قيس جركس ٢٠٢٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى