صلاح الدين ابوبكر عثمان - دراسة نقدية تـأملية لنص سردي بعنوان (رغائب الألم) للكاتب المبدع"محمد يوسف مسوكر"

لا أحب القيام بنقد كتاب أو قصة او رواية، ربما لأن غالبية ما قرات في اللغة العربية ارتبط بنوع مبالغ فيه من المديح والثناء على الكتاب والمؤلف حتى صارت تلك المقدمات نوعا من المجاملة الاجتماعية التي راجت وانتشرت في فضاء الثقافة العربية ودوائر البحث العلمي العربي ،لكن وبصدق أحاول جهدي أن أسقط بعض مرئياتي على كتابات هذا القادم بقوة (محمد مسوكر ) الذي أتوقع له مستقبلا باهرا محتشدا بحديث الروح وذوب الفكر اشراقا ودفقا نبويا يختلف كما ونوعا مما هو سائد في الساحة ،ولا أخفي مشاعري فانا اشعر بنوع من الفخر والاعتزاز بأن بلادي ولادة ،ففي كل يوم ورغم الظروف الصعبة يخرج من بين الشباب ما يعيد الأمل ويجدد الوعد بأن نهر العطاء مستمر مدرار ،وبأن أغلى ما نملك هم البشر الذين يجاهدون ويعملون بجد ومثابرة اجل تحقيق اضافة علمية أو إبداع حقيقي، أو تجميل للتشوهات التي حاقت بالذائقة الادبية والعلمية

دائما ما يدهشنا الكاتب المتميز محمد مسوكر بالكتابات العميقة السابرة التي تغوص في ثنايا أسرار الكائن البشري سلوكا ونهجا ،متخذا من نضج فكرته إزميلا عبقريا يعالج به صخور التشوهات التي تعتري المشهد الحياتي الاجتماعي .

وليكن مدخلنا نحو هذه القصة الحديقة اضاءات تفسيرية لمعنى رغائب الألم ، فهذه المفردة لغة لها معان عديدة ،ومنها ما نحن بصدده ، أن رغائب جمع رغيبة ،و كلمة رَغيبة تعني : العَطاءُ الكَثيرُ، ورغب في الشيء: أراده وحرَص عليه وطمِع فيه وأحبَّ ، أما مفردة الألم يقصد بها الأوجاع ، وهو الألم هو عبارة عن تجربة بغيضة غير محببة للنفس ، قد تكون تجربة حسية أو عاطفية ناجمة من ضرر مُحْدَثٍ، أما التركيب الاضافي (رغائب الألم) الحرص أو الطمع في التجربة الانسانية سلبا او ايجابا

هكذا يسحرك العنوان "رغائب الم " فيجبرك على قراءة المحتوى لفهم العلاقة الجدلية بين المحتوى ونص العنوان ،وبالخلاصة فإن اللحظة التنويرية المبدئية لفحوى النص تنبع من حسن اختيار العنوان ، حيث أن العنوان مُقوِّم رئيس من مقوِّمات عُروج النصوص لمنصَّة الإبداع، أو هو البوابة الرئيسية ذات الجهات الأربع الأصلية اللواتي يصنعن المطابقة بين النص وشخصية الكاتب والبيئة المحيطة وميوله الأدبية، ومن قبل تم الاطلاع على بعض نصوص الكاتب في روايته الموسومة "شاهد قبر" والتي كان اختيار العنوان في غاية الدقة ومنتهى الابداع ،وهنا أيضا يحاول الكاتب أن يرسل رسائلا تحريضية لإثارة فضول المتلقي لمعرفة ما وراء ذلك الدفق الساحر ، إذن نحن أمام نص جدير بالقراءة لمحاولته الجادة للخروج من المألوف ،والاتيان بصور ابداعية متجددة مشحونة بالتأمل والخيال المبتكر .

و انطلاقا من فكرة ان القصة عملية خلق ابداعية لا تلتزم بأي مقاييس مسبقة، وتبدع لغتها وتركيبتها بمسارها الذاتي وليس حسب بنود يضعها الكاتب أمامه ليستعملها في بناء القصة، فهو حر في منطلقاته وبداياته ونهاياته،وفور الانتهاء من وضع أخر مقطع أو فقرة منها ،ينتهي دور الكاتب ،ويكون ما كتبه و دونه وسطره ملكا للجميع كل يمتح منه حسب وسعه وطاقته.

حسنا دعنا الآن ندخل في تفاصيل القصة بالاقتباس التالي:

" يحدث أحيانا أن ترتاب في زخات المطر ،والطرق المتلاحقة على الأبواب ،وصفير الريح في جوف الليل، و لكن أن ترتاب أن الصفحة تخبئ لونها خلف الأبيض ،والحاشية ينكرها المتن ".

حيث تبدأ القصة بعبارات فلسفية بهيجة تدور في حالة الشك التي تسيطر على الرواي ، متناولا قضية التناص تأدبا ،والسرقات الأدبية صراحة ، هي حالة من التوجس والوساوس الطبيعية في حدود المستوى المقبول أي ليس مرضيا ، ويبدو لفرط حبه لنصوصه التي هي جزء من كيانه ،كان يحس بأن شخصا ما يعبث بإنتاجه ، كاشفا عن العلاقة العضوية بين المتن و الحاشية فهي علاقة لا تنفصم عراها باعتبار أن النص دائما يكون بمثابة عضو من تركيبة الكاتب النفسية والوجدانية والذهنية والمزاجية ،لا يملك حيالها الا أن يدافع عن حقوقه الأدبية والمعنوية ..... وتتوالى الصور ، يمر بأناس يقفون عند بناية الحاكم الضخمة التي تحجبه عن رؤية الجمهور ،وهم في غيبوبة عقلية أو ربما عشم أن يتكرم عليهم الحاكم ببعض ما يحلمون به ،وهم في لحظة الانتظار المفعم بالأمل ، لم يتمالك الراوي نفسه صارخا (إنه هراء ،ابتذال" بالطبع لم يكن مطلعا على لوح الغيب ،إنما هي تراكمات لقراءات سابقة للمشهد وطبيعة الانظمة النرجسية الدكتاتورية التي لا تستجيب للجماهير الا بعد اذلالهم ،وما كان ذلك ينبغي إلا إنها حقيقة الشمولية التي تعشق عبادة الذات ، لم ينتظر ما قد ينتج عن مقابلة الحاكم ،تحرك ناحية الشارع في حركة درامية ناحية الاشجار طمعا في الظل او الاشجار ربما لأنها لا تموت الا واقفة ،وهي محاولة منه للخروج من الحالة النفسية وما تلبسه لائذا بشقته ، لكن منظر لحاء الاشجار بألوانها الداكنة، وتساقطها ينم عن الجفاف والتيبس الذي انتظم الحياة ، وكأن الراوي برؤية الاشجار تذكر حلما كان قد رواه له صديقه :" حيث قال: إنه تدحرج من حلم الى حلم أخر، رأى فيه عشبا أخضر وفتاة ممتدة وتلالا نائية ، يسير الناس عليها ولونهم أخضر كالزرع تتخلله ألوان متناثرة ،بدوا له حقولا يحركها التيم ،كانوا يولون وجوههم صوب /نحو الأفق ، ،ويسيرون ناحية قمر أخضر تعلوه ابتسامة"

ويفسر الحلم بأنه سيرورة فيزيولوجية تجري خلال نصف النوم ويمكن أن تكون لها صفة واقعية أو أن تكون مدموغة بوهم غير عادي. وعندما نعاني كوابيس، فغالباً ما تعذبنا رؤى مرعبة يمكنها، أيضاً، حتى أن تشغل شعورنا بعد يقظتنا.

والأحلام على صلة وثيقة بأفعال الإنسان وأفكاره. وقد حاول كثيرون تفسير الأحلام أو تعبيرها إلا أن هذا الأمر أمر مختلف فيه بين مؤيد ومعارض ،ولكن تكرر الحلام يعني أشواق وأمنيات لم تتحقق في الواقع، قد يكون الكاتب يبحث عن تفسير او تأويل لبعض الظواهر و الاحلام التي تروى له أو يراها بنفسه كنوع من التعويض السيكولوجي للتحايل على فخ الرتابة والعادية التي تتنظم حياة الناس من حوله .

وفي نفس السياق الممتع ،والتجوال الراشد يتنقل الكاتب من موقف إلى أخر في سلاسة وعذوبة فاتنة ،وهنا دلف الكاتب إلى صومعته ، وبحركة فيها شيء من القلق الابداعي بدأ يخطط للقصة أو يعيد صياغتها بأسلوب مختلف ،و مفتتحا النص بقوله:

"الجنود الشرفاء يفضلون الانتحار في ذات الثانية التي تسرق فيها أحلامهم لأن تأخرهم عن أداء واجب الموت ،يحرمهم نيل الشهادة ،ويضعهم في مرمى رغبة الألم ،لأنهم سيشاهدون كيف يقتسم القادة الغنائم ، وقد يبررون لهم أفعالهم بعد ما دفنوا الأصدقاء"

وهنا تعبير واضح كالشمس في رائعة النهار حيث تغدو جريرة الانتحار افضل خيار حين يصنع الشرفاء النصر ،وغيرهم يجني الثمار ،وفي هذا خلل في ميزان العدالة ومفهوم المساواة ،وهذا يتماهى مع ما ذكره الكاتب حين " لا أرغب في تجديد مأساتي" ..فما أقسى أن تستلب مكاسبك ، أو تجهض أحلامك ومن الشواهد على ذلك الفلم العربي الشهير " ليلة القبض على فاطمة" .....وما نشاهده ونعايشه بعد انتصار الثورات ،وسيما الثورة الأرترية التي قام بصنعها جنود شرفاء قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل حلم الحرية ،ولكن أين هم الآن؟ وماذا كسبوا ؟ للأسف كان الحصاد الندم والسجن والقتل والتشرد ، وأيضا ما نراه في الواقع من ثورة ديسمبر السودانية التي قادها الشباب حيث فاضت أرواحهم ،وأريقت دماءهم ،فكانت النتيجة هذا الانسداد والسيولة بعد أن اختطف حملة الحقائب القادمون من وراء البحار ...

وفي لوحة أخر يرسم الكاتب بدقة وشفافية المشهد حوله من زوايا مختلفة لوخزات الواقع المأساوي التي تهيمن على حياته ،فيلجأ إلى وسائل لا يمكن وصفها بالتبريرية ولا الهروبية وإنما أقرب ما تكون قدرة عبقرية لمزج المحكي شفاهة ، والمنحدر من أفواه الأسلاف ومدى إبداعهم في نسج حيوات متخيلة متجاوزة لقتامة الواقع ، حيث يقول الكاتب : "أنه لم يستطع نسيان قصة الحيوان الذي يسير تحت الأرض ويخرج فجأة ويفترس من ظهرها الأطفال ،وأن إسماعيل الراعي كان يرسل له أبناءه الذين يعصون أمره ليفترسهم ،والبئر النائية ماؤها ليس ماءً، بل هو من درن الحيوان يتساقط ،إن شربت منه الماشية ويموت الأطفال أو يصابون بالعمى؛ تحت إبط المغنى يرقد وخز يدفعه ليغادر صوته ،يحتفظ في سريرته بقصة الصوت الي سينزلق الى باطن الأرض ،وسيلتقطه الحيوان الذي يتقاطر الدرن من جسده كالماء ،ليس له بدن ،أليس البدن هو الروح؟!

تيقنت وأنا أقرأ تلك الفقرة أن النفس الفلسفي العميق يتسربل لتلافيف النص المشوق ،وأن الكاتب بذكاء متفرد ، كأنما يؤسس او يشير لفداحة الجرم الذي تمارسه الأنظمة الاستبدادية في وأد الطفولة ،وتدمير مستقبلهم ، والقضاء على الحياة تماما ...ومن ناحية أخرى الغموض الذي يكتنف هذا الحيوان المفترس ودلالته المعرفية في كونه سينزلق الى باطن الأرض موتا وفناء ، في ايماءة سريعة وتساؤل عميق :أليس البدن هو الروح ،وهنا تنشأ علاقة جدلية بين الطين والروح ربما استشعر نفسا صوفيا اخاذا ...في صراعهم الابدي وجهادهم المعنوي في مقامات اللطافة(الروح) ومقامات الكثافة (الجسد/البدن) ..وتلك حكاية أعيت الحكماء وقليل من استطاع استيعاب المعادلة التي تتراوح في كون اللطائف تخترق الكثائف وتسيطر عليها ،وعليه كلما سمت درجة الانسان في عالم المظاهر الربانية اللطيفة (عالم الروح الرباني" سيطر على ما دون مقامه من المظاهر،وسهل عليه خرق قانون تلك المظاهر ..ولعل في رؤية الناس له على الصور المتنوعة والدرجات المتفاوتة ما يؤكد ذلك

ختاما اشد على يد الكاتب المبدع ، واستحثه أن يجعل يراعه دائما متقدا سيالا بالمعرفة والتنوير فنحن في أمس الحاجة لمثل تلك الابداعات التي تؤسس لعالم جميل تسوده القيم الفاضلة ،والحيوات التي تستحق أن تعاش بعز وكرامة تحياتي و تقديري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى