كاهنة عباس - حديث الطيور

غادر بيته عند الفجر،مبتعدا رويدا رويدا عن تونس العاصمة وصخبها وبنيانها وضجيجها متّجها إلى ذلك المكان الخالي من البشر ومن العمران والّذي يسمّى " مرسى الامير" الواقع "بالوطن القبلي ".

قضّى أكثر من ساعة ليخترق المدن والقرى، وعند طلوع الصباح وصل الغاب. كانت سيّارته تهتزّ سالكة طريقها بين الدروب، وكان شارد الفكر ساهيا ، ينتظر أن تلوح له قمّة الجبل المغطّاة بالأشجار.

غمره إحساس رهيب بالوحدة وهو يطأ ذلك العالم الجديد ،فكان بين الفينة والأخرى يلقي نظرة عابرة على بندقيّته الموضوعة على حافة الكرسيّ المحاذي له داخل السيّارة ،فيستعيد ذكرى رفعها ثم تصويبها في اتّجاه السّماء لإصابة الهدف ثمّ رؤية الطّير يهوي أرضا ملطّخا بالدّماء ،لقد حدث ذلك منذ خمسة عشر سنة خلت، عندما زار "يحي"الغاب صحبة والده "نور الدين "، في رحلة لصيد الطّير .

لم تفارقه نشوة تلك اللّحظة رغم مرور السّنين لا لحظة التصويب ولا متابعة تحليق الطّير في الفضاء ولا لحظة إطلاق النّار، لطالما حلم بها ، كانت تحرّره من إحساسه الدّفين بالفشل ،من غضبه وحدته وتعبه وشكوكه و آلامه ومن كلّ شيء تقريبا ،ورغم ذلك، لم يعد إلى الغاب منذ ذلك العهد، فقد خانته الشّجاعة وألهته مشاغل الحياة ومشاكلها عن أن ينأى بنفسه وأن يرمي وراءه أعباءه وأن ينسى همومه للعودة إلى "مرسى الأمير " .

وتهتزّ السيّارة وهي تقترب من الجبل ،فلا يلوح على مدى العين سوى تشابك الأشجار وفروع لدروب صغيرة تشقّ الغاب تنتهي إلى شموخ جبل يقع في الجهة اليمنى لسواحل البحر، أما في الجهة اليسرى ،فبيت قديم مهجور شيّد على ربوة مطلّة على شواطئه المترامية.

خطرله أن يزيد في سرعة السيّارة حتّى يتمكنّ من الفرار، في صورة وقوع حدث طارئ أو بروز زائر مفاجئ ،فالصّيد في تلك المنطقة محجّر وقد يتعرّض إلى مشاكل لا تحصى ولا تعدّ، إذا ما خضع إلى مراقبة من قبل حرّاس الغاب أو ضبط لحظة الصّيد. فهو لا يملك الترخيص الّذي يمنحه حمل السّلاح واستعماله، ومازالت المسافة الّتي تفصل الغاب عن قمّة الجبل بعيدة.

لقد طالت عليه المدّة منذ آخر مرّة زار فيها المكان . كان "يحي" آنذاك شابّا يرافق "نور الدين" غير مدرك لمخاطر المغامرة و محظوراتها . يومها، صعدا الجبل معا إلى أن بلغا قمّته مع طلوع الشّمس ، سمع نور الدين يقول له : "بعد حين ستغادر الطّيور أوكارها، فلا بدّ من التّركيز حتّى نتابع معا اتّجاه تحليقها ،ستنطلق من كلّ الجهات ،فتأهّب يا "يحي" لإطلاق النّار عليها .هيّا انتبه جيّدا لكلّ ما أفعل وحين يأتي دورك، اطلق النّار عليها، ستغمرك نشوة كبيرة حين تراها تسقط أمامك فجأة ، كأنّ يديك استطاعتا أن تبلغ السّماء كي تطال تلك الطّيور المحلّقة فيها وتستحوذا عليها فتسقطانها أرضا. ستسمعها تنتفض وهي تتخبّط في دمائها ثم تستسلم للموت وستشاهد الرّصّاص يخترق مساحات الفضاء فيصيب الطّير المحلّق فيها، كيف أصف لك ذلك؟ ستتملكك حينئذ نخوة لا مثيل لها، فنخوة الصّيّادين "يا يحي" لا تضاهيها نخوة، هيّا اتبعني وكن منتبها إلى كلّ حركة تصدرعنّي."

اقتفى خطى "نور الدين" صامتا، ثم رآه يصوّب بندقيّته ويغيّرمن اتّجاهها متابعا تحليق الطّيور، أزعجه يومئذ دويّ الرّصّاص ، تراجع، لكنّه بقي منتبها لحركات "نورالدين" ، تردّد قبل أن يبادر بالقول : "جاء دوري ، سأحاول ،فقد أصيب الهدف . "

-لا تفعل أترك لي الفرصة مرة أخرى حتّى ترى، ما أنا فاعل.

رأى "يحي" الطّيور تفرّ يمنة ويسرة دون أن تتّخذ وجهة معينّة، كأنّها أدركت بالفطرة الخطر المحدّق بها .

ثم سمع تتالي إطلاق النّار في ذلك الغاب المهجور، فإذا بالطّيور تتساقط الطائر تلو الآخر، كيف حدث ذلك؟ لا يعلم، فهو لا يتذّكر تلك اللّحظة الدقيقة الفاصلة بين التصويب ثمّ حركة أصابع "نور الدين" وهي تضغط على زناد البندقيّة ثمّ إطلاق النّار فسقوط الطّير، إذ لم تستغرق حركاته غير لحظة قصيرة عابرة.

التفت إلى نورالدين رآه مبتسما، ثم سمعه يقول: " جاء دورك الآن يا "يحي"، هيّا صوّب ".

ارتجفت أصابعه وهي تضغط على زناد البندقيّة ، لم يصب حينها غير ورق الشّجر العالي. رأى الطّيور تفرّ من بين فجواته، أعاد الكرّة لكن دون جدوى،عندئذ سمع نور الدين يقول له :" لست في المكان المناسب ، تقدّم ، لا تطلق النّار في الحين ، تريّث تابع الطّير، تابعه قبل التصويب ."

شعرأنّ إطلاق النّار لا يزعجه ولا يخيفه ، فجلس على ركبة واحدة ورفع بندقيّته ثانية وصوّب وهو يتابع تحليق الطّيور، فإذا بالطّير يسقط بين الاشجار بعيدا عنه ، فأعاد الكرّة وقد تملّكه إحساس عميق بالنّصر،ثمّ أسرع إليه ليشاهد دماءه تروي الأرض كي تصبح قربانا يوهب للغاب ليخلّصه من مخاوفه وشكوكه و من كلّ ذلك الضّجر وذلك القلق والغضب والعنف التي كانت تسكنه في ذلك الزّمن البعيد. حدث ذلك منذ خمسة عشر سنة خلت ، قبل وفاة "نور الدين" وقبل زواجه وقبل أن تنقطع جميع الرّوابط التي كانت تجمعه بأخوته إثر نشوب خلافات بينه وبينهم حول قسمة الارث.

وانقطع حبل أفكاره حين سمع ضجيجا غريبا ينطلق من محرّك السيّارة . سرّح "يحي" نظره ،فإذا بقمّة الجبل مازالت بعيدة عنه بضعة كيلومترات ، تردّد قبل أن يتوقّف، احتارفي أمره متسائلا : "ماذا لو لحق بسيّارته عطب وتعطّلت عن السّير دون أن يفلح في إصلاحها ؟ ".

وازداد أزيز المحرّك ارتفاعا، فانتشرت داخل السيّارة رائحة البنزين، عندئذ اضطرّ الى التوقّف ثم نزل ليتبيّن الأمر. فتح غطاءها الأماميّ، فلمح دخانا يتسرّب من داخله ، لمس موزّع الماء ، فإذا به شديد الحرارة ،فأدرك أنّه لن يعرف أسباب العطب إلاّ بعد انخفاض حرارة المحرّك .

لبث "يحي" فترة من الزّمن حائرا، ثمّ عنّ له أن يركب سيّارته وأن يمكث داخلها في انتظار برودة المحرّك، وبعد لحظة أدار مفتاحها، إلاّ أنّه لم يسمع ضجيج اندفاعها من جديد .أخفى بندقيّته ثم أغلق السيّارة .

أسرع الخطى وهو يخترق مسالك الغاب دون أن يلتفت يمنة ولا يسرة، آملا أن يصل سريعا إلى منتهاه وتناسى بل حاول أن يتناسى الأخطار المحدّقة به . مرّت ساعة ثمّ ساعتان ،فبدأ يشعر بالعطش بعد أن سها عن أن يأخذ معه الماء والغذاء، كم كان متسرّعا غير متيقّظ ساعة مغادرة المكان ! سيبتلعه هذا الغاب الأصمّ المهجور، فيسقط من شدّة العطش والجوع .

ودار بخلده أن لا أحد سيسمعه إن صاح أو استنجد .واصل طريقه دون أن يدرك وجهته ، وكان يأمل بلوغ الجهة اليسرى لسواحل البحر، حيث يوجد البيت الصّغير المطلّ على البحر عسى أن يكون آهلا ، فيستنجد بمن فيه ،لكنّه لم يكن واثقا من تحقيق مبتغاه ،فدروب الغاب متشعبّة ومساحتها شاسعة وقد يجد نفسه في أمكنة أخرى غير تلك الّتي يقصدها.

ها، قد أرهقه التّعب لن يستطيع الرجوع إلى سيّارته، ليأخذ معه قارورة الماء والغذاء . سيجلس هناك تحت تلك الشّجرة ليستريح قليلا.

أغمض "يحي" عينيه بعد أن خارت قواه واستبدّ به العطش ثم استسلم للرّاحة برهة من الزّمن. في تلك اللّحظة سمع زقزقة العصافير تملأ الجوّ ،زقزقة تملأ الفضاء المحيط به ، تملأ كيانه وجدانه ،وتغنّي ، تغنّي، تغنّي ، دون أن تكترث بمتاهات الغاب ولا بما حلّ به، إنّها تغنّي بشدّة وبقوّة ، حتّى لكأنّها استحوذت على كيانه .....

ماذا يقول شدوها ياترى ؟ وما هي معانى الألحان التي كانت تبعثها بين لحظة استرسالها وانقطاعها ثم استمراره ؟ على من تنادي ؟ لمن كانت تغنّي والغاب خال من البشر ؟ إنّها تغنّي فتنتشر زقزقتها في جميع الافضية والجهات المحيطة بها، كأنّها تجابه الرّيح بحناجرها الصّغيرة وبغنائها المستمرّ،إنها تجابه الفضاء و الخلاء . أيكون غناؤها مقتصرا على هيام الذّكور منها بالإناث ؟ لم هو متغيّر موزّع ، شبيه بالاحاديث المتفرّقة يتجاوب بعضها مع البعض؟ ماذا كانت تقول الطّيور يا ترى ؟ ولمن كانت تبعث بمراسيلها ؟وكيف كانت تدرك الجهات فتخترق السّماوات وتجوب البحار والأقطار ثم تعود إلى أوكارها ؟

كيف استطاعت مقاومة الريّاح والعواصف وحرّ الشّمس ورحابة الفضاء، كيف كانت تحصل على رزقها من ماء وقوت ؟ سيتبع غناءها، لعلّها ترشده إلى سرّ نجاتها وصمودها سيتبع غناءها حيث ما انتشر.

نهض "يحي" من مكانه ومشى دون أن يعلم إلى أين ستحمله رجلاه ، هل إلى "مرسى الامير" حيث البيت الصّغير المطلّ على البحر أم إلى قلب الغاب؟ وراودته أسئلة عديدة لم يطرحها على نفسه قطّ : ما الّذي دفعه إلى خوض هذه المغامرة باصطياد الطّير المحلّق في السّماء ؟ أيّ شيطان سكن روحه حتّى يعود إلى هذا المكان ليرى دماءها تسيل ؟ أ تكون الرّغبة في الانتقام من أهله وذويه ؟ وما ذنب هذا الطّير الّذي يغنّي في السّماء في ما يرتكبه أهل الأرض من جرائم ومظالم ؟ما ذنبها حتى تقتل بالرّصّاص الحيّ ؟

واصل المشي لمدة ساعات طويلة وكان في كلّ مرّة يستنشق الهواء النقيّ ملأ رئتيه حتّى يستمّد القوّة الكافية ليكمل طريقه، وكانت ترافقه في رحلته تلك ، رياح الغاب وحفيف أوراق الشّجر وهدير البحر قبل بلوغه الوجهة المقصودة .

وعند العصر، وجد نفسه مرّة أخرى وسط الغاب، لا شكّ أنّه تاه عن الطّريق المؤدية إلى سواحل البحر، جلس تحت شجرة عالية وخلد للراحة برهة من الزّمن، فبعد قليل سيحلّ اللّيل ولن يستطيع لا بلوغ الشواطئ ولا الرجوع إلى سيّارته.

لم يعد يعنيه ما سيحلّ به ،وقد انتابته حالة غريبة شبيهة بالغيبوبة لشدّة شعوره بالجوع والعطش والتعب ،استلقى على أديم الارض وغاب بعيدا بعيدا وراء الافق، حتّى أنّه لم يعد مدركا لوجوده الحسّيّ الجسديّ في حضرة الغاب المهجور، زقزقة الطّيور عادت مرّة أخرى لتحتلّ كيانه المهزوم المرهق، زقزقة بعيدة ، بعيدة بعد السمّاء تحتلّ فضاء روحه ووجدانه، كأنّها تغتاله فجأة ، تتربّع على مساحات وعيه ، زقزقة لطيرلا يستطيع أن يراه ولا أن يدركه ولا أن يصطاده ، هي الاغنية بل الانشودة الوحيدة الّتي بات يردّد صداها الغاب في تلك الاونة ، زقزقة ترتفع ، تنخفض ، تزول ،تسترسل فيزداد ارتفاعها حتّى بلوغها قمّة لم يدرك "يحي" حدودها .

إنّه يسمعها الآن داخله ،حتّى لكأنّها تملّكت روحه ، فإذا بذاته المنهكة تعبا وجوعا وعطشا تتحوّل الى فضاء يتمدّد ثم يتّسع الى ما لا نهاية له ،ليستقطب صداها.

ترى أتكون ساعته الاخيرة قد حلّت بعد أن اكتشف كل ذلك الفراغ الذي يملأ كيانه ؟ كيف تبخّرت كلّ تلك الأفكار والذّكريات التي دفعته الى أن يعود الى هذا المكان ، كي اضمحلّت فجأة مثل السرّاب؟ سيلقى حتفه في هذا الغاب المهجور، إن عاجلا أم آجلا، لا شكّ في ذلك إذا لم يجد الى النجاة سبيلا، لن يستسلم ،إنّه يشعر بجسده المرهق خفيفا كالظّل بعد أن تخلّص من كل ثقله وآهاته، مازالت قوّة خفيّة تحرّكه وتدفعه إلى أن ينهض وأن يقاوم إلى آخر لحظة.

استجمع قواه فغادر مكانه كالمخمور يرنو الى إدراك ذلك العلوّ الذي كانت تتغنّى به الطّيور، أمسك بأقرب غصن للشّجرة التي استلقى تحتها، ثمّ بدأ يتسلّق جذعها حتّى بلغ أغصانها الاخرى ،فتمكّن من رؤية الغاب عند بلوغ عليائها . وما إن امتدّ نظره حتّى لاح له البحر على بعد بضعة أميال منه ثمّ طيف رجل يتمشّى قرب الشواطيء . أيكون ذلك ما أوحى به إليه شدو الطّيور حين اخترق أعماق روحه التائهة في تلك الغفوة العابرة ، فأنقذه من الهلاك ؟ ربّما ،لا يدري ، قطعا لا يدري .....



كاهنة عباس



كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى