محمد مندور - أسرار الكتابة و هِبة الأسلوب

سئل يوماً كاتب كبير عن العلاقة بين اللفظ والمعنى، وأيهما أجدر بالعناية وأخلق بالتقدير، فلم يجد جواباً خيراً من أن يسأل هو الآخر بدوره: وأيهما أفعل في القطع من شفرتي المقص: السفلى أم العليا؟

وليس من شك في أن هذه الإجابة بالغة اللباقة، لكنها في الحق لا تفصح عن العلاقة الدفينة بين اللفظ والمعنى، كما أنها لا توضح شيئاً من أسرار الكتابة وهبة الأسلوب.

اللغة هي المادة الأولية للفكر والإحساس، وهي بمثابة الألوان للتصوير، والرخام للنحت، بل لا شك أنها ألصق بموضوع الكتابة من هذه المواد الأولية بموضوع فنونها، وذلك لأن الفكرة أو الإحساس لا يبرزان إلى الوجود حتى يسكنا إلى اللفظ، وكثيراً ما تكون المشقة في إخضاعهما له. وكم من مرة نلمح المعنى، أو نرهص بالإحساس، ثم لا نزال نشقى بهما حتى نستطيع أن نصوغهما في ألفاظ، فتوضح من معالمهما، وتخرجهما من الضباب إلى الضوء.

على أن هيمنة الكاتب على الفكر والإحساس، وقدرته على إخضاعهما للفظ لا يعطياننا أسرار الكتابة، وخصائص هبة الأسلوب، وإنما هما نقطة البدء.

فالكاتب الجيد يمزج بين مادة الفكر ومادة الإحساس، ولايجعل منهما مصدرين مختلفين: إذ يمر عنده الفكر بالإحساس، والإحساس بالفكر حتى ليصح أن يقال: إنه يفكر بقلبه ويحس بعقله، وإذا كان هناك خطر على الكاتب من جفاف الفكر، فإن هناك أيضاً خطراً جسيماً من (طرطشة) العاطفة، وإلى جوار منطق العقل يجب أن نذكر منطق الشعور، وإن يكن المنطقان متفاوتين في الروابط والنسب.

والكاتب الجيد لا يسعى إلى الإفحام، ولا الإثارة العاطفية الموقوتة، وإنما يسعی إلى الإقناع، فباستطاعتك أن تلزم الغير الحجة ، وأن تفحمه بالصمت، ولكن دون أن تقنعه، وباستطاعتك أن تثير مشاعره، وتلهب عاطفته، ولكن دون أن تخلف في نفسه أثراً باقياً، أو أن تبعث حركة تنمو مع الزمن، وعلى العكس من ذلك يستطيع الكاتب الجيد أن يقنع، فإذا به قد استحوذ على ثقة القارئ، وإذا به قد أعطاه مادة باقية يزكي بها تفكيره، ويجدد إحساسه. والكاتب الجيد يصل إلى هذا الإقناع بأن يشعر القارئ أنه قد أضاء في نفسه مظلماً، أو أعانه على اكتشاف مخبوء فيها، وأنه لم يلقنه شيئاً، ولا أقحم عليه شيئاً، حتى تراه يصيح جهراً أو همساً بما يفيد أنه قد كان يحس في غمض بما يقول.

والكاتب الجيد لابد من أن يمتلك إحدى صفتين، إذا فقدهما معاً فقد هبة الأسلوب. وهاتان الصفتان هما: روح الشعر وروح الدعابة، وروح الشعر هي ذلك الأثير الذي يجري في مادة الفكر والإحساس، فإذا بها في خفة القطن المندوف وأما روح الدعابة فأشق إدراكاً، وذلك لأنها غير الإضحاك وغير السخرية وغير التهكم؛ فالإضحاك لعب بالألفاظ وجمع للمتناقضات، ومصادمة بالمفاجآت، وصرف للفكر عن مجراه العادي، وبالجملة خروج على آلية التفكير، وهدفه تقويم ذلك الخروج، والسخرية انتقام من الحياة تجنح إليها النفوس عندما يعوزها الانتقام السافر، أو نحس فيها سلاحاً أمضى، وبلسماً أشفى، وكم تخفي السخرية من دموع، وكم تقطر مرارة. والتهكم هجوم جارح مجابه، سهامه التحقير والحط من القيم وقلب النسب والأوضاع - وأما الهيومر فروح دعابة لطيفة نافذة قد نستطيع تقريبها إلى القارئ بأن نضرب لها مثلاً ما قاله «فيجاورو» في رواية الكاتب الفرنسي الشهير «بومارشيه» عندما أخذ يقص تاريخ حياته البائسة منذ أن كان خادماً إلى أن أصبح حلاقاً فقال: «وأخيراً حملت على كتفي «عدة الحلاقة» وطرحت الخجل في عرض الطريق؛ إذ رأيته ثقيلاً على من يمشي على قدميه»، فهذه الروح اللطيفة التي تعبر على هذا النحو عن المعنى الشعبي المعروف القائل بأنه لا عيب ولا خجل من مزاولة أي عمل كان، وإنما العيب والخجل من أن نعيش عالة على الغير، أو أن نلجأ إلى طرق غير شريفة - هذه الروح هي التي تسمى في اللغات الأوروبية بالهيومر، وفي اللغة العربية يمكن ترجمتها بروح الدعابة التي تكسب الأسلوب نفاذاً أمضى من الضوء، وأخف من الحرارة.

هذه هي الخصائص النفسية لهبة الأسلوب، ومن البيِّن أن تحقيقها يتطلب ملكة لغوية لا تقف عند الإلمام بمعاني الألفاظ وتراكيب الجمل، بل تمتد إلى الإحساس باللغة، وذلك لأن للألفاظ أرواحاً يجب أن تدرك ولعل هذا الإحساس يتضح بنوع خاص في اختيار الصفات، وفي طريقة استخدامها إن قسطاً وإن إسرافاً، والكاتب الفج محمول على المبالغة، بينما النضوج اتزان من غير ضعف، وقوة من غير إسراف لفظي، كما أن من الصفات ما يستعمل لا لتمييز شيء عن شيء كالأبيض والأسود، بل لإظهار خصائص الموصوف كقولنا: الله الخالد الباقي؛ إذ لا نقصد بهاتين الصفتين تمييزه جلّ جلاله عن إله غير خالد ولا باق، وإنما نقصد إيضاح خصائصه، كما أن من الصفات ما استعمل لمجرد إظهار الدرجة، حتى لنراها تجتمع إلى أضدادها في نحو قولنا: جميل جمالاً بشعاً أو مخيفاً.

ومقياس الجودة في صناعة الكتابة، لأن الكتابة صناعة كغيرها من الصناعات - هو أن تكون الصنعة محكمة إلى حد الخفاء حتى لتلوح طبيعية، وهذا معنى السهل الممتنع، وأوضح ما يكون ذلك في موسيقى الجمل، فهناك موسيقى واضحة كاللون الفاقع تسهل محاكاتها وهذه ليست بأعمق الموسيقى ولا خيرها، ولا أشدها أصالة، بدليل أن محاكاتها سهلة ميسورة على نحو ما نرى في السجع، وأما الموسيقى العميقة فهي موسيقى النفس لا موسيقى اللفظ، وهي كثيراً ما تخفى على القارئ العادي ولكنها دائماً أصيلة تعز محاكاتها، وتفعل في النفس فعلاً لا يعيه غير القليل من القراء. وليس من شك في أن للنثر وزناً وإيقاعاً مادام الكلام لابد أن ينقسم بطبيعته إلى وحدات، وهم يدرسون في أوروبا موسيقى النثر، كما يدرسون أوزان الشعر ويرجعون تلك الموسيقى إلى الكم والإيقاع والانسجامات الصوتية.

ومن البديهي أن كل هذه الخصائص النفسية واللغوية تتطلب من الكاتب الجيد أصالة عميقة؛ ومن هنا يتضح إلى أي حد يبعد أسلوب الذاكرة عن الجودة، ومن الملاحظ أن كتاب الذاكرة لا يفقدون الأصالة فحسب، بل يذهبون برونق التعبير إذ تراهم يتعاملون بالألفاظ الناصلة، وكأنها العملة طمسها التحات من كثرة التداول، وأخطر من كل ذلك انحرافهم بالفكر والإحساس عن مجراهما الطبيعي تمهيداً للجملة المحفوظة أو بيت الشعر المروي اللذين يريدون إقحامهما فيما يكتبون، وتلك آفة يجب أن تحارب.

* من كتاب معارك أدبية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى