مريم بن بخثة - على نفسها جنت براقش.. قصة قصيرة

تسلل الفجر فاردا قلوعه عبر الغرفة الواسعة ، و سرى نور الصباح معلنا بداية يوم جديد، كانت الغرفة واسعة جدا ، بلا ملامح ، جدران إسمنتية تتخللها بعض ألوان صباغة زيتية بشكل عشوائي جعلتها تبدو كئيبة، في زاوية منها كانت هناك كراتين متراصة و بقربها موقد غاز صغير و إبريق و مائدة خشبية صغيرة عرجاء قوم اعوجاجها بقطعة خشب صلبة ، و في الزاوية الثانية كان هناك ولدان ، أو بالأحرى طفل و طفلة لم يتجاوزا السابعة بعد ، و تبدو الطفلة أكبر من أخيها ، توسدا بعض الأكياس البلاستيكية مع تغطيتها بثياب بالية تبدو أنها ثيابهما، كانا متلاصقين يحتميان من برد الغرفة و صقيعها ، في الجهة المقابلة لهما ، كانت هناك امهما وزوجها ، كل منهما متكئ على جانب، الأم صوب الأطفال و الرجل في اتجاه الباب،
بعد ليلة حميمية مغتصبة كان لا بد أن يستقبلهما صباح يوم كئيب ككل الأيام التي مرت ، كانت عيناها مفتوحتان لكنها لم تحرك ساكنا و كأنها غائبة عن المكان و الزمان.
ماذا عساها تفعل كي تعيد ترتيب أوراق حياتها ، فالقطار قد انطلق منذ زمن بعيد ، و معابر النزول قد خلفتها وراءها، بين تنهيدة و أخرى تحاول أن تربط جسور التواصل مع ماضيها الآفل ، تعود تلك الصبية الجميلة المتأنقة ، حين كانت الحياة تبدو لها كسمفونية تعشق سماعها، تغيب في دواخل ذاكرتها تستحث اللحظات باشتياق كبير و سعادة تجعل أسارير وجهها تعيد الوضاءة لوجهها الذابل و البريق لعينيها الحزينتين، هاهي تركض في بيتهم تشاكس إخوتها و تستجدي أمها أن تسمح لها باللعب مع بنات الجيران ، تارة تسمح لها و تارة ترفض بحجة أن الحي لم يعد آمنا منذ مدة أو بدون حجة ، كانت شقية في صباها لكنها كانت أيضا طيبة و طيبتها و سذاجتها هي من أوقعتها في حبائل حاضرها.
تحركت ابنتها في فرشتها أرادت أن تقوم ، رمقتها بنظرة محذرة ألجمت الصغيرة و جعلتها تنزوي في مكانها ، ماذا عساها تفعل كي تمنح نفسها و أطفالها حياة أفضل و تعيد مجد ماضيها و حياتها الجميلة ضمن دفء أسرتها المتماسكة لماذا شردت بعيدا عنهم كجمل أجرب.
مرض والدها المفاجئ و إنفاق أمها لكل ما يملكون من أجل إنقاذه من مخالب المرض اللعين الذي كان أسرع لخطفه من بينهم ، تدهور حالتهم الاجتماعية ، استسلام والدتها للحزن و للمرض ، جعلهم يتضورون جوعا و فاقة ، لكنها كانت مصممة أن تعيش بأفضل حال منهم و ظنت الأمر ممكنا مع أول طارق ابتسم لها، غامرت بكل شيء و انطلقت معه ، لم تعر والدتها الكسيحة ولا إخوتها الصغار بالا ، عليها أن تنقذ نفسها أولا و هذا الباسم ثغره وعدها بحياة الجنان حيث هي السلطانة و من حواليها الخدم ، تزوجا بالمدينة بدون فرح و لا مزامير ، كان يعدها بعرس أسطوري ستتحاكى عنه كل نساء الحي ، ستغير منها الفتيات و يتحسرن على حياتهن.
أخذها بعيدا .. بعيدا من مكان لمكان و هو يعدها بالسعادة الأبدية ، لم تكن تعلم عنه أكثر مما أخبرها ، رجل غني يحب التنقل و الترحال، لكن لا شيء يشي بذاك الغنى ، غرف مظلمة في فنادق من الدرجة الثانية ، يتركها تفرك الوحدة بين مخالب التوجس و الخوف ، ساعات و كما يختفي فجأة كان يأتي فجأة يغمرها بعلاقات حميمية جنونية ، قد تذوب لحظات بين ذراعيه و لحظات أخرى تتقزز مما يفعله بها، كانت بريئة أكثر مما ينبغي و لم تعرف شيئا عن العلاقات الحميمية و ممارسة الجنس ، فالجنس مغارة مقفولة على الفتيات في سنها و حديث النساء مع بعضهن عنه لا تغدو سوى همهمات تتبعها ضحكات هستيرية.
الآن الصورة أوضح لكنها مخيبة لآمالها وأحلامها الطفولية عن الفارس المغوار و العاشق الولهان و المحب العطوف.
ظلا يطوفان في أرجاء البلاد لم يستقرا في مدينة أكثر من أسبوع ليغادرا بعده ، كان يسعدها هذا التنقل على الأقل تكتشف مدنا لم تكن تعرف عنها شيئا إلا بالاسم ، الدار البيضاء المدينة الغول أو المدينة الإسمنتية التي يحلو للبعض تسميتها ، هذه المدينة التي لا تنام ، و التي تفتح حضنها لكل الأجناس البشرية على اختلاف ألسنتهم و لهجاتهم ، الجميع يذوب فيها بحثا عن لقمة عيش تسد الرمق ، الرباط العاصمة الإدارية التي لا مجال ان تستمتع فيها ، فالناس فيها لا يجيدون إلا شيئان الذهاب للعمل و العودة منه ، شخصيات مقفلة كأزرار معطف لا تعرف عنهم أكثر مما يظهرون، بين الشمال و الجنوب علاقة عشق مجنون بين أخذ و رد و مد و جزر، انغمست في حياتها الجديدة رغم قلة المتعة التي تجنيها ، فلا يمكن العودة إلى الوراء ، غابت ملامح والدتها و إخوتها ، حين تكون الخيارات خاطئة و قاتلة لا يمكن ان تعود لاسترجاع ما فات.
سمعت صوت حركة بطيئة و تثاؤب خلفها ، أدركت أنه بدأ يستيقظ من نومه ، ركلها برجله : " استيقظي يا امرأة .. كم يطيب لك النوم .. أيتها الخاملة.."
أنا مستيقظة منذ ساعة ، لم أحب أن أزعجك و أوقظك من نومك.
قهقه عاليا :
منذ متى هذا العطف و الحنان أيتها المخادعة ..
فضلت الركون للصمت و قامت من مفرشها قاصدة الحمام أو يمكن القول ما يشبه الحمام في الزاوية الأخيرة من الغرفة ، سطل بلاستيكي فارغ حملت بعض الماء في كوب و شطفت وجهها ، ثم قامت لتعد فطورهما البائس...
السكر و الحشيش أذهب نصف عقله و الباقي سيذهبه الفقر و الجوع ... أما هي فقد حلت عليها سكينة الصبر فلا تشتكي ولا تنوح ما دامت قد جفت مآقيها ، تأملت الغرفة على ضوء النهار الخامل و أحست برغبة في الهروب من كل شيء ، مرت بذهنها فكرة شيطانية أن تحرق الغرفة بمن فيها و هكذا تنهي مأساتها ... كان الغنى و السعادة مجرد سراب و كانت الحقيقة ساطعة مثل شمس نهار صيفي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى