أحمد تسوكي - النهر.

عبرت خطاي عليه، تجفل كالغريب التائــه
كالخاطر المشبوب، يركض في صدى أصدائه
كالهاجس المصدور، ينضج بالأسى من دائه
متحيرا كالنجم في أفلاكه وسمائــــــه
تترجرج الذكرى على أكداره وصفائــــه
ويحوم الماضي على أحزانه وبكائـــــه
***
يانهر، لا تعجل، فقيك طهارتي وبراءتـــي
أحلامي المتلألآت، ودمعتي وكآبتــــي
وشبابي المنهوم فيك ولوعتي وصبابتـــي
وشعوري الظامي، ونشدة خاطري وهناءتـي
وربيع عمر حالم متناغم بوداعتــــي
وغرام قلب باسم وصدى زمان صامـــت
***
كنت النجي، وكنت إلفي حين تثقلني الهمــوم
وتهدني الأحزان والأشجان في حلك النجــوم
كنت السكينة حين تعروني الكآبة والوجــوم
كنت الظلال الوارفات، وفرحة الأم الــرؤوم
والفجر، والأنداء، في ليل تلفعه الغيــــوم
يفتر موجك عن رضى طلق وعن ألق كتوم
***
كنا نلاعب موجك الوسنان في الشفق الخـلوب
ونبثه الشوق الندي ولوعة الظمأ اللـــعوب
ونشف فيه كالمنى، كالطيف في زهو الغـوب
ونشعشع الأحلام بالألحان والنغم الطــروب
ونضاحك الأشذاء والأنام في ألق الغــروب
ونعانق الأفق القصي، فلا نكل ولا نلـــوب
***
يا أيها النهر الصغيرلكم يعذبنا الحنــــين
ودبيب أشواق مطيبة بأنفاس السنـــــين
ولكم شكونا للحياة وهي من ماء وطــــين
ونسائل الأيام عن حب وعن سر دفيــــن
وارته موجتك الحنون ودفقك العبق الحــزين
أعماق ماض طافح بالدمع والألم السجـــين
***
يا أيها النهر الجميل ! لم التحسر والنحيــب
ولم البكاء؟ لم الأسى؟ في ليلنا الداجي الرهيب
في عمرنا الذاوي، وفي فجر يكفنه النعيــب
ضاعت لنا أحلامنا، وخبا غناء العندليـــب
وذوى الشباب وزهره، في وحشة الحقل الكئيب
لم يبق إلا الشوق منزوفا على الوتر الغريـب
قد كنت ألمح في ضفافك وهي من وهج شذي
أحلامي الخضراء، تسبح في الخيال العبقـري
وتلون الآفاق بالريحان، والعطر السخـــي
وترتل الصلوات في محراب إحساسي البهـي
وتعانق الفرح الوليد وصبحه الغرد الحيــي
آه، لقد أفلت نجومي في دجى ليلي الشقـي
***
يا نهر لا تعجل ولا تنس الأماني المائــــه
أودعتها في موجك ألحاني لحونا هامــــه
رقت ورق لي الهوى في أمياتي الناعســـه
ماذا تبقى فيك منها غير سلوى بائســـــه
وخيال طيف مستنيم في الضفاف الدارســه
ورسوم آمال تجف، وذكريات عابســـــه
***
ماذا تبقى لي سوى جرح وحزن واكتئـــاب
وسآمة تنداح في صدري، وأطياف الســراب
متضاحكات، شاخصات، شاردات في الضباب
تعدي وترجف في خيالي كالعناكب والذئـاب
هي بعض أحلامي، طواها فيك طوفان الشباب
يا نهر لا تعجل، ففي شفتي سؤال لا يجــاب
***
يا نهر لا تعجل، ودعني ألثم الموج الطليــق
وخريره، والزرقة الريا بأنفاس الرحيــــق
وسكونه، وطفولة الأحلام والماضي السحـيق
دعني أغني، ربما تستذكر الأمل الغريـــق
والذكريات الحانيات، ومرتع الحب العميــق
دعني أغني، قبلما أفني وتخطفني الطريــق
***
هل تذكر القمر الخضيل، يرود غابات المحال
هل تذكر الكروان يشدو في السفوح وفي التلال
هل تذكر الريح الندية والسنابل والظـــلال
هل تذكر المطر الشجي يرش أقنان الجبــال
ومفاتن المرج المشعشع بالبراءة والجمـــال
ورؤى الليالي، والسنا الزاهي، وأعراس الخيال
***
قد كنت أنهل من رؤاها الغافيات الحالمـــه
وأعب من أنغامها المترقرقات الفاغمــــه
حتى أذوب وأنتشي من رشرشاتها الباسمــه
وأعود مخمورا بأسراري ونفسي الهائمـــه
أتشرب الإلهام من نعمى خيالاتي الواهمـــه
وأصبه في روحي الظمأى ودنياي الساهمــه
يا نهر لملم ناظري وضمني في موجـــتين
أنا ظامئ متغرب، أخشى ضياعي مرتيـــن
وأخاف تحرقني السنون وألتظي من جـمرتين
قف وانتظر ياسخرا حتى أرجع كلمتــــين
أواه من ذكرى ومن شكوى بلا أرجوحــتين
بيني وبينك-لو تبوح- مواجد في الضفــتين
***
ها قد رجعت من السفار المر، للفيض النقـي
للصمت، تنثره الرؤى في وجودي المرهــق
ها قد رجعت إليك يا نبع الشباب المـــونق
ها قد رجعت، تهيجني ذكرى صباي المشـرق
وتلفني أشباح عربيد ينقر مفرقـــــــي
وأسائل الأيام: أين مراحنا؟ ماذا بقــــي؟
***
يا نهر قد قلقت أحاسيسي وفاض توجـــدي
خلت الدروب وأدلجت، وألم ليل سرمـــدي
ماذا تبى في دمي؟ ماذا تبقى في غــــدي؟
إلا بقايا ثورتي وتشردي وتمــــردي
الأمس قد ولى، وفي الغد ينطوي مني غـدي
ياليتني لم أولد، ياليتني لم أهتــــــد
***
يا نهر، مر أمواجك المترجرجات العاتــيات
أن ينتظرن هنا ... وان يطوين عني الذكريات
في اللانهاية، في الخلود، وفي العصور اللاهثات
مرها تدمر، تندفق، وتلج في جوف الحــياة
أنا من انا؟ ... روح معذبة... شتات في شتات
حس عليل، أبله... محض انفــعالات وذات
***
عبرت خطاي عليه، ليت خطاي لم تعبر عليه
أنا هو، وهو أنا، كلانا قائم في ضفتــــيه
قد كنت أحسب أنني أشكو جراحاتـــي إليه
فإذا به متظلما يفضـــي إلي بما لديـــه
ويمد لي في لهفة ورضى وتحنــان يديــه
لملصت شكواه، ونمت على مواجع عبرتيــه

أحمد تسوكي

العدد 251 ذي الحجة 1405- غشت 1985


أعلى