أحمد تسوكي - الصحوة الإسلامية بين الأصالة والتغريب..

يجري منذ سنوات، تعبير "الصحوة الإسلامية، للدلالة على يقظة العالم الإسلامي وعلى وثبته التي اتجهت إلى الجانب السياسي كما اتجهت إلى الجوانب الدينية، وهي الجوانب الغالبة على الفهم. وفي المدة الأخيرة، عرف العبير توسعا أخذ في الدلالة التدريجية على نفس اليقظة في الجانبين الاجتماعي والاقتصادي، وذلك في مواجهة التفسخ الذي أصاب الهيكل الهش للعلاقات الاجتماعية التي أسستها الإيديولوجيات والمذاهب والمدارس الفكرية الوضعية، وفي مواجهة الإفلاس والانهيار والتصدع الذي لحق – أو كاد – الأنظمة الاقتصادية وأنماط التسيير والتصرف المالي والتجاري الذي جرت عليه هذه المدارس والمذاهب واتجاهاتها المختلفة في عالمنا المعاصر.
وعلى أي حال، بدأ اصطلاح "الصحوة الإسلامية" يأخذ عبر السنوات التي امتلأت بالأفكار والإيجابيات، وبالتفاعلات والممارسات، مضمونه الشمولي، كما بجب أن يكون عليه الأمر وكما يجب أن يكون عليه تصورنا لهذه الصحوة ولنتائجها ومارها المرجوة.
إذن، كانت هناك عوامل موضوعية وذاتية أدت إلى استقرار الفهم والوعي بحقيقة المصطلح كما أدت إلى دلالاته الشمولية. لقد نضجت الفكرة ومفهومها في الأذهان، واتضحت الرؤية إلى العقيدة وتجلى انفتاح هذه الرؤية على الآفاق الحقيقة للحصول التي أصبحت رمزا لدعوة إنسانية موجهة إلى الناس كافة، وفي مقابل ذلك، فضلت وانغلقت التيارات الفكرية الوضعية على نفسها، فكان ذلك بمثابة الإعلان المباشر عن تحجر هذه التيارات ودعاتها، وعن عدم قدرتها على الصحوة في وجه القابلية الخالدة التي أظهرها وأبان عنها الإسلام كمنهج للحياة البشرية، يوجهها إلى الخير والأمان، ويهديها إلى السلام والكرامة، ويدلها على سبل الرشاد والهداية.
ومع أن المجتمعات الإسلامية نفسها، لا تزال مختبرا غير دقيق، إن لم نقل غير صالح، للتدليل وللتأكيد على عقلانية الصحوة، وذلك نتيجة لهيمنة التراكمات الاستعمارية والصهيونية والشيوعية على هذه المجتمعات، ونتيجة لسيطرة وتحكم روح الاستلاب والغزو الفكري على العقل الإسلامية، ونتيجة كذلك للتبعية النفسية والأخلاقية والسلوكية التي أطرتها وعمقتها سنوات الاحتلال وأعوام الاستعمار، وهو أمر قيد كثيرا حركية الصحوة في الاتجاه المطلوب، إلا أن مجرد انطلاق الشرارة الحقيقية للصحوة من صميم هذه المجتمعات، بل ومن صميم محاورها وأقطابها وفعاليتها التي تتحمل مسؤولية القيادة السياسية أو الدينية أو الفكرية أو الثقافية والعقلية، شكل أمرا له دلالالته الكثيرة على المستويين الكمي والكيفي، لأنه يعني أنه هذه المجتمعات، كيفما كانت ظروفها وأبعادها، وكيفما كانت اتجاهات تفاعلها في التاريخ الإسلامي المعاصر، ستكون – ولعلها كائنة بالفعل – البيئة الطبيعية للارتقاء بالصحوة إلى أفقها الحقيقي، وللسمو بمبادئها ومفاهيمها، على الصعيد العملي، إلى الوجه الصحيح والمأمول وفي غياب أي توجيه لا ينبثق من الفعالية الإسلامية ومن صحوتها الحضارية بالذات.
لقد استطاع الإسلام – بهداية من الله سبحانه –أن يعاون شق طريقه وتعبيدها ليصل بسهولة ويسر وشفافية إلى قلب الإنسان الحديث الذي سيطرت على مزاجه الحضاري توترات الكآبة وأفكار القلق على الواقع والمآل، والذي أخفق تماما عندما حاول أن ينتصر وينجح في صراعه اللامتكافئ ضد الكون والمطلق الروحي واللانهاية والغيب (المستقبل الذي لا نراه)، والذي جدد حربه العنيفة والشاقة ضد قيم الحرية والمسؤولية والانتماء من زاوية ضيقه، جعل التفكير البشري فيها أداة للتضليل ولقيادة الإنسانية إلى حافة الدمار والحروب، ووسيلة لإضعاف الإيمان والتشكيك في أهميته للإنسان، والأمر في النهاية، لم سكن سوى خطـأ في القيادة، أثمر هذا التمزق الروحي الذي كاد يوقع الإنسانية في خط اللاعودة إلى الصواب وإلى اليقين.
إن هذه الخطوة الإيجابية الجديدة التي أنجزها الإسلام على طريق تحقيق المطلق في عالمنا المعاصر، قاد إليها التفكير النزيه في الواقع الإنساني، والتأمل العقلاني والمتبصر في الذات البشرية وحدودها المعرفية بعد فترات من المعاناة القاسية، وبعد سنوات من الجهد والعنف والمخاض الذي أجهضت فيه الحضارة البشرية الراهنة كل آمال الإنسان في لحياة والتقدم والتطور صوب الآفاق التي حقق منها الإنسان – في مبدأ الأمر – انطلاقته في اتجاه السعادة والصفاء والتساكن الخلاق الذي أعطى الحضارة للبشرية.
وإلى جانب ذلك، كان هناك الأمل في إيمان أفضل، وحياة أفضل، ودين أفضل، وكذلك الأمل في تحقيق واقع بشرية جديد، يتم فيه تجاوز السلبيان والضغوط المادية والذهنية المؤلمة على الضمير الإنساني، هذا الضمير الذي وجد نفسه، بعد سلسلة طويلة من الأزمات والمآزق والاختبارت الروحية الفاشلة، ضميرا ممزقا ويائسا ومحبطا وبدون قدرة على تحليل الماضين ورؤية الحاضر، وبدون قدرة على استشفاف حسابات المستقبل من خلال رؤية روحانية تتغلب على حواجز المادة، وتقهر حوافز التعلق بالملذات التي خلفتها وأوجدتها توجهات الإنسان إلى ذاته: جسدا، وإلى ما حوله: طبيعة، هذه لتوجهات كانت – بدون شك – بداية السقوط في الأنانية التي سينتصر شيطانها فيما بعد وسيتمثل في العلمانية، والإلحادية، والتكنولوجيا، والتي من خلالها سيحقق الإنسان تواصله مع الفضاء وانفصاله من الروح، التحامه بجزء من العلم المطلق وفصامه من اليقين المطلق الذي كان وسيظل مبدأ البشرية في بناء عالمها الحقيقي على الأرض.
إن الخلفية التاريخية للصحوة، تقول إن العالم الإسلامي لم يكن بمعزل عن العوامل الذاتية والموضوعية التي صهرت المجتمعات الإسلامية على مستويات عديدة لكي تتهيأ فعليا لمبادئ الصحوة ولتقبل منطلقاتها ومعطياتها التي لم تكن قطعا جديدة عليها، وتقول كذلك إن عصور الانحطاط الذي عانى منه المسلمون، كان له دوره الأساسي في جعل المبادئ تختمر وتتكون بالتدريج في الاتجاه الذي نراه اليوم ونتلمس معالمه وملامحه، والذي سيتطور إيجابيا في المستقبل إذا لم يجابه بالموانع التي تعطل حركيته الذاتية في مجاله الحيوي، وهو مجال الفعل والممارسة، ومجال العمل بالشريعة وفق الضوابط والروابط التي نص عليها الكتاب والسنة.
غير أن الخلفية التاريخية لا تفسر لنا وحدها أحدثا الحاضر، ولا تضع أمامنا وجه الحقيقة كاملا، وإن كانت تساهم مع غيرها من الخلفيات في تجلية الأسباب الكامنة التي ولدت لنا وقاعنا اليوم، بل إن الاعتماد على الخلفية التاريخية دون سواها، ونحن نبحث في نشأة الصحوة الإسلامية باعتبارها فعلا ذاتيا محضا أنجبه التفكير الإسلامي المتطور مع الحياة، سيقف بنا عن تلمس الطريق الصحيح للفهم، وسيجعلنا غير قادرين على استيعاب نتائج الماضي ومقدمات الحاضر وإرهاصات المستقبل استيعابا نمحص به الرؤية والنظرة التحليلية إلى الأمور وإلى احتمالاتها الماثلة والمرتقبة.
إن حقيقة الإسلام الكبرى، هو أنه دين تطلبه المجتمعات في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة، وعقيدة يلتمسها العقل، والوجدان، والفطرة والسليقة، ويجد فيها الإحساس والتفكير والإلهام والاستقراء والاجتهاد والفكرة العبرة، ولذلك أعتبر من سوء التعبير وعدم ملاءمته للحقيقة، القول والحكم بوجود "صحوة إسلامية"، لأن الأمر يتعلق فعلا بصحوة بشرية إلى الإسلام، تنقذ الإنسان واقع الجهالة والجاهلية والضلالة والتيه، فالواقع الذي نشاهده اليوم ونحيا فيه، يثبت أن المجتمع البشري، وهو في خضم الأزمة الروحية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والعقائدية التي تتقاذفه وتتجاذبه تياراتها بعنف صاخب وصخب عنيف، هو العنصر الذي يبحث عن ذاته، وعن وجوده وهويته، وعن استمراريته في التاريخ والمطلق والحضارة، وهو العنصر الذي يفتش عن معقل للهداية يشرح صدره للحقيقة والإيمان والصوابية، وهو العنصر الذي يلتمس الخطوة السليمة التي ستقوده حتما إلى طريق التحرر الإنساني، وإلى أفق الانعتاق من العبودية البشرية التي كانت السبب المباشر في تحطم الإنسان وانهيار كيانه النفسي وتذبذب عقيدته الروحية، وهو تذبذب كان في مقدور البشرية أن تتجنبه لو عرفت، منذ قرنين من الزمن فقط، كيف تلائم بين نزعتها إلى الحرية التي أفطرت في ممارستها إلى حد أفق الإنسان كل قدرة على استكشاف المغامرة وتجربتها الروحية المشرقة، وبين واقعها المادي الذي أصبحت فيه الطبيعة ذاتا أخرى منفصلة عن الإنسان وغير مندمجة فيه، وبين مبادئ الإنسان وقيمه التي حولتها تلك الحرية على ممارسات شهوانية، تفضح أنانية البشر وعبوديتهم للآلة والمادة والطبيعة.
من الممكن ومن الجائز إذن، أن نتحدث عن صحوة بشرية إلى الإسلام، صحوة يتطلع بها الإنسان بجرأة وشجاعة إلى أفقه المستقبلي، بعد أن رانت عليه الشكوك والمخاوف والأطماع، وبعد أن تسلطت عليه عبودية المادة ومادة العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، فالشكوك جاءت نتاج الفرار من الإيمان والهروب من قلعته الحصينة، والمخاوف جاءت نتاج التقوقع الذاتي في الأفكار والوساوس التسلطية التي ولدها إيمان الإنسان بنفسه تعلقه بذاته وسكونه داخل كيانه، والأطماع جاءت نتاج الطموح المادي الذي أغرى البشرية وبعض عقولها السخيفة بأحلام السيطرة على الكون ومغريات التحكم المطلق في قوانين الطبيعة، وبشهوات أثارت النزاع المفتعل بين الإنسان والكون، وغرست في تاريخه بذور التطاحن والقطيعة بين الإنسانية والإيمان كحقيقة قائمة الذات في الوجود وفي جدلية استمراره.
صحوة بشرية إلى الإسلام...من يقودها وسط التناقضات الإيديولوجية الحالية؟ ما هو مجالها الحيوي في الحاضر وفي المستقبل وتحت ضغوط البيئة التي ملأتها الصراعات المذهبية والفكرية الزائفة لفرض الهيمنة العقائدية على الإنسان؟ وما هي تطبيقات الصحة الإسلامية وكيفيتها على الواقع البشري المسحوق تحت وطأة النظريات الوضعية المقلة؟ وما هي احتمالات التقدم أو الارتداد والانتكاس والتجمد؟ وما هي الحسابات التي وضعها، عن دراسة وتخطيط، خصوم الصحوة الإسلامية لإسقاطها وإجهاضها؟ وما هي القوى التي هيأها لها أصحابها والدعاة إليها لاستمرارها حية ونابضة بالالتزام بالواقع البشرية وبما فيه من صراع فكري ومذهبي، ستدلل فيه الصحوة الإسلامية، عن طريق الكتابات الواعية والأقلام المسؤولة والأفكار المؤمنة، على حيويتها ونشاطها في مواجهة غارات التخريب والتحريف والتزييف والتشكيك؟
إن الواقع الإنساني في وضعه الحالي، هو بشهادة الصفوة من أبنائه الذي يمثلون الفكر والوعي والمسؤولية والفلسفة والعلوم والتنظير والثقافة، فيعبرون بصدق وحرارة عن أزمة العصر، ومحنة الحضارة، ومأزق التاريخ، وسخافة التقدم وتفاهة التطور الذي وصل إليه المنتمون إلى العصر والتاريخ والحضارة، والممثلون الحقيقيون للانهيار والسقوط والتشقق الذي أصاب صميم العلاقات الدولية القائمة على حتمية الهيمنة لمصلحة الرأسمالية والشيوعية والصهيونية، رغم التحالفات والمهادنات التي يقعدها زعماء وقادة هذه القوى فيما بينهم..
الواقع الإنسان اليوم، هو واقع التمزق والحيرة والانغماس في الفكر السوداوي الذي قاد حضارة وتاريخ وثقافة وعلوم العصر إلى الانتحار ومحاولة قتل الذات، وهو واقع الكآبة والقلق والضجر الروحي والنفسي والترف المادي الذي قتل في الإنسان إنسانيته، وجرده من كل قيم الخير والفضيلة والتسامح والأخوة، رمى به إلى الأرض الخراب، وهو واقع الفقر الداخلي الذي أحال النفس البشرية إلى كهف مظلم ترين عليه مشاعر الانحلال والفصام الحضاري الذي هيأت له "العصور الإنسانية" عقب ظهور ما يسمى بعصر التنوير والثورة الصناعية في أوروبا..
هذا الواقع، هو الآن الأرضية التي تنتظر الصحوة وبشائرها، وبمعنى آخر، هو واقع الجاهلية الدولية الجديدة الذي يتطلع إلى الصحوة، ومنه إليه ستنطلق صحوة قوية، تبعث الأمل في الضمير الإنساني، وتقود الوعي إلى آفاق الهداية والاستقامة والتقوى كما رسمها وحددها الإسلام، وتشد مشيرة الحضارة والعصر والتاريخ والتطور المادي إلى طريق الالتزام بمبادئ الإنسانية التي عبر عنها الإسلام وجسدها في تعاليمه ورسالته، والتي كان الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم رزمها الحي الذي رفع المثل الأخلاقية للبشر إلى مرتبة السلوك والعمل والممارسة، وانفلات زمام هذه المسيرة من يد الإنسان، يعبر عنه هذا الانهيار الأخلاقي والديني الذي نراه اليوم على الصعيد العالمي كله، ولن يعيد الزمام إلى اليد الإنسانية، لكي تقود به مسيرتها في التاريخ والحضارة والتقدم، إلا تلك الصحوة التي تصحح المفاهيم وتقوم الإعوجاجات.


أحمد تسوكي

العدد 240 ذو الحجة 1404/ شتنبر 1984



أعلى