أحمد تسوكي - في إحياء التراث..

ليس من المغالاة في شيء أن نقول بأن ما نعرفه عن تاريخنا وآدابنـا وعلومنا ومعارفنا الحضارية التي يزخر بها تراثنا القديم. ويمثل إلا جزءا يسيرا جدا من ذلك التاريخ ومن تلك الآداب والمعارف والعلوم التي أسهمت في تطوير حياتنا وأضافت إلى الفكر والحضارة الإنسانية رصيدا هائلا ورائعا من الأفكار والثقافات الإنسانية الناضجة.
وأما ما طبع ونشر من ذلك كله. فـلا يمثل إلا أيسر اليسير وأقل القيل مما يجب أن يطبع وينشر منه، بالقياس إلى وفـرة وكثرة ما يختزنه تراثنا من كنوز في التاريخ والآداب والعلوم والفنون وشتى المعارف الإنسانية الأخرى.
ولقد كان من أهداف الاستعمار حين تسلطت علينا أطماعه، وتكالبت علينا مناوراته ودسائسه السياسية وتفاقـم خطره العسكري علينا سواء في الشمال أو في الجنوب أن يطمس آثار حضارتنا ويهيل عليها أكداسا مـن كوم التراب حتى تختفي هذه الحضارة من الوجود الوطني والقومي. وتنمحي آثارها الإيجابية من حياة الأمة، فلا تحس الأمة بعد ذلك لحياتها معنى، ولا تستشعر قوة كيانها وأصالة شخصيتها، ولا تجد إلى تاريخها العريق صلة من الصلات تربطها به وتشدها إليه. ولا تتحسس معالم وملامح شخصيتها التاريخية وهويتها الحضارية ولا تتلمس نفسها الحقيقية ووجدانها العام وضميرها الوطني في ماضيها المجيد الحافل بصفحات مضيئة من الإيداع والابتكار والتجديد الفكري والعلمي والأدبي الزاخر بالمآثر والمفاخر الوطنية والقومية التي حفظت للأمة المغربية كيانها، ورسمت نهجها على طريق الجهاد العلمي والفكري والعقلي والوطني بصفة عامة.
ولقد كان في تصور الاستعمار حين جثم بكابوسه البغيض على بلادنا، أنه إذا تحقق له هذا الهدف الدنئ المستهدف لوجود الأمة وكيانها المتميز، سهل وهان عليه فيما بعد ذلك إلى سائر أهدافه ومراميه الخبيثة. وإذا وجد إلى تحقيق هذا الهدف سبيلا من السبل المشروعـة وغير المشروعة وجـد الطريق بعدئذ أكثر سهـولة ويسرا إلى تحقيق أهـدافه البعيدة الراميـة إلى محـو شخصية الأمـة وطمـس معالمها وآثارها الواضحة والكامنـة. والقضاء على ذاتيتهـا المتميـزة والمنفـردة والإجهاز على وجـودها الخاص والعام.
فالاستعمـار إذن كانـت خططـه وبرامجـه وبرامجـه لا ترمي إلى شئ بقـدرما كانـت ترمي إلى الانقضـاض على فكـر الأمـة وعقيدتها بشتى الوسائـل والأدوات التي تـدل على ذكـاء الاستعمـار ودهائـه وعلى رؤيته الواضحـة والمرسـومة بدقـة إلى البعيـد الذي يتوخـاه ويسعى إليه سعيا دؤوبا.
ولذلك فقد كان من الغايات الأساسية الملحة التي توجهت إليها الدولة بعد استعادة الاستقلال والحرية والسيادة في هذا المضمار بالذات هو التعجيل ببذل الجهد وصرف العناية وتوجيه الاهتمام إلى تراث الأمة التاريخي والأدبي والعلمي والوطني من جميع وجوهه وجوانبه. والتشجيع على جمعه وتصنيفه وفهرسته وتصويره وطبعه ونشره وتحريك عزائم وهمم الباحثين والـدارسين والمتهمين على الوقوف على ذلك التراث في أصوله وفروعه وتحقيقها وتحريرها وتحـري مصادرها الموثوقة واستقصاء مظانهـا وتحليلها ودراستها بمنهاج وأساليب حديثة ومتطورة.
فكان أن تـوسلت الدولة إلى ذلك كله بإحداث مجـلات ودوريات متخصصة ورصـد الجوائز. والبحث عـن نفائس المخطوطات وذخائـر التـراث وتكليف الباحثين والـدارسين ذوي الاختصاص بتحقيقها وطبعهـا ونشرها بين النـاس فأنشأت لهـذا الغـرض بالـذات جائزة الحسـن الثاني للمخطوطات والوثائـق. وجائزة المغرب في الآداب والعلـوم الإنسانية والفنـون والمركز الجامعي للبحث العلمي. وسـوى ذلك مـن الأجهزة والمصالـح والمـرافق الثقافيـة المعنية بهـذا الجانب الخاص مـن تراث الأمة. وقد توجت هـذه الجهود جميعا بإحـداث أكاديمية المملكة المغربية التي تضـم صفـوة من مفكري ومثقفي المغـرب والأقطـار العربية والإسلامية والغـربية والتي تعني مائـدة البحث والـدراسة فيها بالنظر الدائـم والعمـل الدؤوب على إبـراز تـراث الأمـة والكشـف عـن معالمـه وخطوطـه مجهولة أم معروفة.
ولم تدخر جهدا في تكثيف أعمالها من أجل البحث عن المخطوطات والذخائر والتماسها من مظانها القريبة والبعيدة فاتجهت في هذا الباب إلى إحصاء الخزانات الخاصة وجمع كتبها ومجلداتها وأسفارها وإلى الوقوف على التآليف التي تضمها رفوف المكتبات الخاصة والعامة على السواء ووقوفا لا يقتصر على النظر والجمع والإحصاء والترقيم. بل يتجاوز ذلك إلى التحقيق والضبط والمقارنة والقياس والتصنيف العلمي الذي يضع المـادة أو رأي أو مسألة أو قضيـة مما يشغـل بال هؤلاء خلال دراسة وبحث جوانب وآفاق التراث في الماضي والحاضر.
وقد نتج عن تلك الجهود الموصولة في هذا الخصوص أن ظهرت نسخ فريدة من الكتب والمخطوطات النفيسة التي لا يوجد لها نظير إلا في مكتبات المغرب. وبعض هذه الكتب والمخطوطات قامت بتحقيقها وطبعها ونشرها عدة مراكز ودور للنشر في المغرب وفي المشرق أيضا. مثل المطبعة الملكية ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ووزارة الثقافة وجامعة محمد الخامس ومعهد مولاي الحسن بتطوان. ودار المغرب للتأليف والترجمة والنشر بالرباط. وغير ذلك أما في المشرق العربي. فقد أسهمت وزارة الإعلام في العراق الشقيق في نشر كتاب. (بدائع السلك في طبائع الملك) لأبي عبد الله بن الأزرق بتحقيق وتعليق المرحوم علي سامي النشار، في جزأين كبيرين.
هكـذا، إذا وفرت الدولـة على الباحثين والدارسين جهودا كبيـرة كثيـرة أغنتهم عـن مواصلة البحث والتقصي وكفتهم مؤونـة ومشقـة وعناء التنقيـب والتفتيش والمتابعة لمصـادر التـراث المغربي فوضعت بين أيديهم نفائس وذخائر المخطـوطات المتصلة ـ من قريب أو مـن بعيـد ـ بتاريخ المغرب وآدابـه وعلومه ومعـارفه المتعددة التي أسهم بها في تطوير وإغناء الحضارة العـربية والإسلاميـة والإنسانية لهؤلاء الباحثيـن والدارسين آفاقا واسعة وإمكانيات جديـدة وفـرصا سانحة للتحقيق والدراسة والتحري والمقارنة والاطلاع الواسـع. حتى يتوفروا على صـورة شاملة ومتكاملة لهذا الفرع أو ذاك مـن فروع التاريخ والآداب والمعـرفة عمومـا. وحتى يقفوا على المعلـومات والحقائـق الأمينـة والدقيقـة التي تتصـل إما بعصر تاريخي معيـن أو بسيرة شخصية علمية أو أدبيـة معينة أو بتطـور وتجدد علم من العلـوم، أو بكـل ذلك جميعا.
والحق أن هذا التراث الضخم، لولا الجهد الموفور الذي بذلته في سعي دائب وعمل متصل في سبيل جمعه وفهرسته وتصنيفه وطبع ما تيسر منه للطبع والنشر.
على مدى العشرين سنة المنقضية. كان لا قدر الله عرضة للتلف والضياع والتشتت والاندثار ولولا هذه المبادرات الواسعة المحمودة التي قامت بها الدولة لإنقاذ هذا التراث وانتشاله مما كان يعانيه من إهمال لأهمية وغفلة من قيمته وانتقاص لحقه وافتتات على دوره ووظيفته في حياة الأمة حاضرا ومستقبلا لكان هذا التراث التاريخي والأدبي والعلمي والحضاري الذي لا يقدر بثمن قد طوته يد النسيان واندثر من الوجود وعدت عليه غوائل الزمن.
فها هي خزاناتنا العامرة ولله الحمـد في الرباط وفاس وتطـوان ومكناس ومـراكش وغيرها من المدن تفتح أبوابهـا لكل طالب مـن طلاب المعـارف والعلوم. ولكل شـاد مـن شداة الاطلاع والوقوف على حقائق وصفحات مجهولة أو شبـه مجهولة مـن تاريخ الأمة وآدابهـا وثقافاتها وعلومها ومعارفها التي أنتجتها في شتى العصور التاريخية والتي كانت إلى وقت قريب مما يعسـر على هؤلاء وأولئك كافة معرفتها أو الاطلاع والوقـوف عليها تلك الصفحات المشرقة التي تضئ لنا عصـورا وعهـودا مـن تاريخنـا وآدابنا، تألقت فيها أجـيال وأجيـال متعاقبـة متواترة مـن القـادة والعلمـاء والساسـة والأدباء والمفكرين والمؤرخين والشعـراء والفقهاء والرحالة اللامعـين الأفـذاذ الذيـن نـذروا أنفسهم وكرسوا أعمارهم للتأليف والتصنيف والقيـادة والسياسة والدفـاع والحـرب والتدوين والتسجيل... فخلفـوا للأجـيال المتعاقبة تراثا معرفيا غنيا وخصبا بالتجارب والأفكـار والمواقف لتفخر وتعتز به وتحافظ عليه وتنظر فيـه إلى ماضيها المجيد وتاريخها العريق ثم لتهب طائفـة من طوائف هذه الأجيال الحاضرة تمحـص هـذا التراث الإنساني وتستجلي منـه صـورة مـن الصور التي يكتنفها الغمـوض. أو حقبـة مـن الزمـن تلتبس فيها الأحـداث والتحولات أو شخصية لامعة لم تستكمل حولها المعلـومات والعناصـر الدقيقـة بشكـل يفي بالغـرض مـن الدراسـة والبحـث ويفضي إلى القصـد ويـؤدي إلى إثبـات حقيقـة مـن الحقائـق.
ولا يخامرني شك ولا ريب في أننا قد استجمعنا اليـوم في هـذا الباب المهـم، رصيدا ضخما لم يتح إلا للقليل من الأمم والشعـوب الناهضة أن تستجمع مثلـه حـول تراثها التاريخي والأدبي والعلمي والسياسي والحضـاري بوجـه عام، ومـن هنا فإنني أعتقد أن مهمتنا اليوم بالذات يجب أن تنصرف إلى تكوين وتنشئة تلك الطائفـة التي نتجه بجهـودها وطاقاتها العلمية والفكرية إلى استنطـاق هذا التراث المرصود واستحضار صحافته والعمل على تحقيقها وطبعها والقيام بنشرهـا على المهتمين الذيـن يتزايد عددهـم في المعاهد والكليات. وذلك لأن التراث هو حق مـن حقـوق الأمة وصيانته وحمايته وحفظه واجب من أوكد الواجـبات الذي يتعين أن تنهض بـه الجماعات والهيئات والمـؤسسات والأفـراد على السـواء. نهوضا سليمـا من الشوائـب والأغراض. خاليــا من النقائص والمثالب، عاريـا من العيـــوب والهنات. وحين نقـول ذلك، فلكي نجعل الأمــة المغربية متمسكـة بتراثها ومحافظة عليه وحامية له، لأنــه بالنسبة لها مرآة مصقولـة في إجــلاء حقائق ودقائق ماضيها القريب والبعيد، والإفصــاح عن أسرار وأغـوار تاريخها القديــم والحديث، والتبيان عن مكنــون صدرها والمحفوظ في قلبهــا مما يتصل بفن من الفنــون أو علم من العلوم .
وكمـا ذكرت في صدر هـذه الكلمة، فإن الاستعمار قـد حاول جهــده في أن يباعـد بين المغاربة وبين تراثهـم الحضاري العـظيم. وأن يشوه لهم هــذا التراث ويزيفه ويزوره، وقـد كاد أن يفلح في بلـوغ هـذا المرمى الخبيث، لولا أن تداركنــا الله سبحانه وتعالى باستقلالنــا وحريتنا وسيادتنا على أنفسنـا وحاضرنا ومصيرنـا، فأتيح لنـا بفضل ذلك أن نرجع إلى مصادرنــا لندرسها ونبحثها ونحقق الغامــض منها، وأتيح لنا مــن بعد ذلك أن نزداد معرفة بتاريخنــا وماضينا وثقافتنــا وحضارتنا وبمن صنع هــذا التاريخ وأبدع تلك الثقافـة وطـور هذه الحضارة ، وبمن أنجبت بلادنــا طوال تاريخها من أعـلام أفذاذ خلفـوا أعمالا أدبية وتاريخيـة وعلمية وفقهية من الواجـب أن ننفض عنها غبـار الزمن ونظهرها للنـاس ونجلوهـا للمثقفين والمفكريـن والباحثين.
ونريد اليوم، بعــد أن قطعنا هـذا الشوط الصعب والثقيـل في تجميع مصادر التراث وتبويبهــا، أن تتيح لنا معرفتنا بهــذا التراث فرصا أكبـر وأوسع لمعرفـة شيء أهـم من مجرد المعرفة لذاتهــا ألا وهو معـرفة الذات والتعـرف على مكونــات الشخصية الوطنية مواقفها من الحيـاة والكـون والمجتمـع والقضـايا الإنسانيـة الأخرى التي طـرحت نفسهـا بإلحاح شديـد على الذات المغربية.
فإحيـاء التراث لا يراد لذاته قط، وإنمــا يراد أساسا لهذه المعرفة بالذات والحيــاة والمجتمع وقضاياه التي تشغل منه طائفة المفكرين والشعـراء والكتاب في كل لون مـن ألوان المعرفة ، خصوصـا وأننا نمر بفـترة تاريخية وحضاريـة دقيقـة وحاسمة ونجابـه فيها أعداء وخصومـا لا تختلف مقاصدهــم عن مقاصـد الاستعمار بالأمـس القريب، بل هـي امتداد لها واستمرار لكل ما كانت تستهدفه وتسمى إلى تحقيقه بالفكـر والقوة معا، أو بأحدهما، وإحياء تراثنـا هو سـلاح من أمضـى أسلحة المواجهـة والتصدي في المعركـة الحضارية والفكريـة ضد أعدائنـا وخصومنا الذين لم يكن لهم على الإطلاق إسهـام معين في تحريك التاريخ وتوجيـه أحداثه. بل كانوا همــلا غفلا في سجل التاريخ والحضارة، وهـم بدون شك يأكلهم الغيظ ويساور صدروهم الحقد الدفين، حـتى باتـوا لا يرتاحـون إلى جوار، ولا يلتزمــون بمبادئ وعهـود ومواثيق.
وإنني لأومـن بأن إحياء التراث لا تنهـض به فـئة معينة من الشعب، ولكنــه مسؤولية الأمـة بأكملها إلا أن هـذا لا يعني مطلقـا أن إحياء التراث مهمـة متروكـة لمن هب ودب، ولكنه يعني بالأساس ضرورة إحسـاس الأمة بأنهـا مسؤولة في هـذا الإحياء، من قريب أو بعيد، وهـو يعني كذلك أن الإحياء يشكل أمانــة في أعناق الدارسين والباحثين والمحققيـن الذين تمتلئ بهم مدرجـات الكليات والمعاهــد والمدارس المتخصصة، وعلى هؤلاء جميــعا نعتمـد في إحياء تراثنـا، لأنهم الأكثر من غيرهــم المؤهلـون لتحمل هذه الأمانـة الوطنية والفكرية والتاريخيـة والحضارية والوفــاء لها وفاء متصلا لا ينقطـع ولا يتوقف لسبب من الأسباب. وهـؤلاء المؤهلـون، فيهم الأستــاذ المتخصص، وفيهم الطالب الذي يشق طريقه ولا يزال في البدايـة يترقب النصح وينتظـر الدليل ويتطلع إلى من يساعــده ويأخــذ بيده، ولا بـد أن توجـد علاقـة وثيقة ومتينة بين هــذا وذاك وصلة حميمة بينهمــا حتى تؤدى الأمـانة كأحــسن ما يكون الأداء.

أحمد تسوكي

العدد 229 شعبان-رمضان 1403/ ماي-يونيو 1983



أعلى