ابن دراج القسطلي - أوجفت خيلي في الهوى وركابي

أَوْجَفْتُ خَيْلِي فِي الهوى ورِكابي
وَقَذَفْتُ نَبْلي بالصِّبا وحِرَابي
وسَلَلْتُ فِي سُبُلِ الغِوايَةِ صارِماً
عَضْباً تَرَقْرَقَ فِيهِ مَاءُ شَبابِي
ورَفَعْتُ لِلشَّوْقِ المُبَرِّحِ رايَةً
خَفَّاقَةً بِهَوَائِجِ الأَطْرَابِ
ولَبِسْتُ لِلُّوَّامِ لأْمَةَ خالِعٍ
مَسْرُودَةً بِصَبابَةٍ وتَصابِ
وبَرَزْتُ لِلشَّكْوَى بِشِكَّةِ مُعْلَمٍ
نَكَصَ الملامُ بِهَا عَلَى الأَعقابِ
فاسْأَلْ كمِيَّ الوَجْدِ كيْفَ أَثَرْتُهُ
بِغُرُوبِ دَمْعٍ صائِبِ التَّسكابِ
واسْأَلْ جُنُودَ العَذْلِ كيْفَ لَقِيتُها
فِي جَحْفَلِ البُرَحاءِ والأَوْصابِ
ولَقَدْ كَرَرْتُ عَلَى الملامِ بِزَفْرَةٍ
ذَهَلَ العِتَابُ بِهَا عَنِ الإِعْتَابِ
حتى تركْتُ العاذِلِينَ لِما بِهِمْ
شَغْفاً بِحُبِّ التَّارِكيَّ لِما بِي
من كُلِّ مَمْنُوعِ اللِّقاءِ اغْتالَهُ
صَرْفُ النَّوى فَنأَى بِهِ وَدَنَا بي
في لَيْلَةٍ لُقِّيتُ من تِلْقائِهِ
دَعْوى مُجِيبٍ للمَزَارِ مُجابِ
سِرٌّ سَرى لِجَوانِحي فَسَرى بِهَا
وهَوىً هَوَيْتُ لطَوْعِهِ فَهَوى بِي
فكَسَوْتُ خَيْلَ الشَّوْقِ لَيْلَ مُخالِسٍ
مَا كاد يَشْعُرُ أَنَّهُ جِلْبابِي
وهَتَفْتُ فِي جُنْدِ الصَّبا فأَجَابَني
فِي كُلِّ صَبٍّ بالأَحِبَّةِ صَابِ
فَزَحَفْتُ والإِقْدَامُ يَحْمِلُ رَايَتِي
وخَوَاطِرُ الإِحْجَامِ تَحْتَ رِكابِي
وحَمائِلي تَهْفُو بِلُحْمَةٍ بارِقٍ
لولا الوفاءُ بِذِمَّتِي لَوَشى بي
وكِنَانَتي مَا شِئْتُ فِي إِكْنانِها
منْ مُلتَظى جَمْرٍ وحَرِّ شِهابِ
كُلٌّ يشاكِهُ مَا وَرَاءَ جوانِحِي
للشَّوْقِ من ضَرَمٍ ومن إِلْهَابِ
حَتَّى افْتَتَحْتُ عَنِ الأَحِبَّةِ مَعْقِلاً
وَعْر المسالِكِ مُبْهَم الأَبْوَابِ
ووقَفْتُ مَوْقِفَ عاشِقٍ حَلَّتْ لَهُ
فِيهِ غنيمةُ كاعِبٍ وكَعَابِ
بِحَدَائِقِ الحَدَقِ الَّتِي لاقَيْنَنِي
بأَحَدَّ من سيفي ومن نُشَّابِي
في تُرْبَةٍ جادَ النَّعِيمُ رِياضَها
فَتَفَتَّحَتْ بِنَوَاعِمٍ أَتْرَابِ
من كُلِّ مَغْنُومٍ لِقَلْبِيَ غانِمٍ
عِشْقاً ومَسْبيٍّ لِعَقْلِي سابِ
في جُنْحِ لَيْلٍ كالغُرَابِ أَطارَ لِي
عن مُلتَقى الأَحْبابِ كُلَّ غُرَابِ
وجَلا لِعَيْنيَ كُلَّ بَدْرٍ طالِعٍ
قَمِنٍ بِهَتْكِ حِجابِهِ وحِجابِي
جابَ الظَّلامَ فَلَمْ يَدَعْ من دَجْنِهِ
إِلّا غَدَائِرَ شَعْرِهِ المُنْجابِ
فَغَنِيتَ بَيْنَ ضِيائِهِ وظلامِهِ
مُغْرى الجفونِ بِطَرْفِهِ المُغْرى بِي
فإِذا كَتَبْتُ بناظِرِي في قَلبِهِ
أَخْفى فخطَّ بناظِرَيْهِ جَوَابِي
وإِذا سَقَاني من عُقارِ جُفُونِهِ
أَبْقى عليَّ فَشَجَّها بِرُضَابِ
وسُلافَةُ الأَعْنابِ تُشْعِلُ نارُها
تُهْدى إِلَيَّ بيانِعِ العُنَّابِ
فَسَكِرْتُ والأَيَّامُ تسلُبُ جِدَّتِي
والدَّهْرُ ينسِجُ لي ثِيابَ سِلابِي
سُكْرَيْنِ من خمْرَيْنِ كَانَ خُمارُها
فَقْدَ الشَّبابِ وفرْقَةَ الأَحبابِ
لِمَدىً تَنَاهى فِي الغِوَايَةِ فانْتَهى
فِينا إِلَى أَمَدٍ لَهُ وكِتَابِ
وهَوًى تقاصَرَ بالمُنى فأَطالَ بِي
هَمَّاً إِلَى قَلْبِي سَرى فَسَرى بي
في جاهِلِيَّةِ فِتْنَةٍ عُبِدَتْ بِهَا
دُونَ الإِلهِ مَضَلَّةُ الأَرْبابِ
تُسْتَقْسَمُ الأَزْلامُ فِي مُهَجَاتِنا
وتسيلُ أنْفُسُنا عَلَى الأَنْصابِ
غِيَراً من الأَيَّامِ أَصْبَحَ ماؤُها
غَوْراً وأُعْقِبَ صَفْوُها بِعِقابِ
وبوارِقاً للغَيِّ أُضْرِمَ نُورُها
ناراً وصابَ غَمَامُها بالصَّابِ
فلها فَقَدْتُ النَّفْسَ إِلّا قَدْرَ مَا
أَشْجى بِهِ لِحُلُولِ كُلِّ مُصابِ
وبها رَزَيْتُ الأَهْلَ إِلّا لابِساً
بُؤْساً يَزِيدُ بِهِ أَلِيمُ عَذَابِي
وبها رَفَعْتُ حِجابَ سِتْرِي عَنْ مَهاً
تَرَكَتْ شبا قلْبي بِغَيْرِ حِجابِ
وجَلَوْتُ فِي خَطْبِ الجَلاءِ عقائلاً
قَصَّرْتُ عَنْها هِمَّةَ الخُطَّابِ
سِرْبُ المُقاصِرِ والمَلاعِبِ صُنْتُهُ
فأَطَرْتُهُنَّ مع القَطَا الأَسْرابِ
ذُعِرَتْ بِحِسِّ الإِنْسِ تَحْتَ حِجالِها
واسْتَأْنَسَتْ بِضَرَاغِمٍ وذِئَابِ
وَنَزَتْ بِهِنَّ عن الآرائِكِ رَوْعَةٌ
مَهَدَتْ لَهُنَّ حُزُونَ كُلِّ يَبابِ
فَطَوَيْنَ آفاقَ البِلادِ لِطِيَّةٍ
تأْبى لَهَا الأَيَّامُ يَوْمَ إِيَابِ
وإِلَيْكَ يَا مَنْصُورُ حَطَّ رِحالَها
دَأْبُ السَّرى واليَعْمَلاتِ وَدَابِي
وبُحُورُ هَمٍّ كَمْ وَكَمْ دَاوَيْتُها
بِبحُورِ يَمٍّ أَوْ بُحُورِ سَرَابِ
وشبابُ لَيْلٍ طالَمَا بَلَّغْتُهُ
تَخْطِيطَ شَيْبٍ أَوْ نُصُولَ خِضَابِ
فَوَصَلْتَ يَا مَنْصُورُ مِنَّا غُرْبَةً
مَقْطُوعَةَ الأَنْسابِ والأَسْبابِ
ووَقَيْتَني رَيْبَ الخُطُوبِ بِمِنَّةٍ
جَلَتِ اليَقِينَ لِظَنِّيَ المُرْتابِ
وكَفَيْتَني لَوْمَ الزَّمَانِ بأَنْعُمٍ
كَفَتِ الزَّمَانَ ملامَتي وعِتابي
وشَمِلْتَني بشَمائِلٍ ذَكَّرْنَنِي
فِي طِيبِها طُوبى وحُسْنَ مآبِ
وأَقَمْتَ لي سُوقَ المكارِمِ مُغْلِياً
بِجَوَاهِرِ الإِبْداعِ والإِغْرابِ
ورِضَاكَ رَدَّ لِيَ الرِّضا فِي أَوْجُهٍ
من خُزْرِ أَيَّامٍ عَلَيَّ غِضابِ
وهُدَاكَ أَشْرَقَ لي ولَيْلِيَ مُظْلِمٌ
وسَناكَ أَبْرَقَ لي وَزَنْدِيَ كابِ
وَجَدَاكَ داوَاني وَدَائيَ مُعْضِلٌ
وذرَاكَ آوَانِي وَرَحْلِي نَابِ
فَحَلَلْتُ مِنْهُ خَيْرَ دارِ مُقامَةٍ
وَثَوَيْتُ مِنْهُ فِي أَعَزِّ جَنابِ
وأَسَمْتُ فِي أَزْكَى البِقاعِ صَوَافِني
وَضَرَبْتُ فِي أَعلى اليَفَاعِ قِبابي
وشَوَيْتُ للأَضْيافِ لَحْمَ رَكائِبي
فِي نارِ أَحْلاسِي وَفِي أَقْتابي
عِوَضاً مِنَ الْوَطَنِ الَّذِي أَصْبَحْتُ مِنْ
أَسْلابِهِ إِذْ كَانَ مِنْ أَسْلابي
ولَقَدْ جَبَرْتَ بِرَغْمِ دَهْرٍ ضامَني
مَا أَخْلَقَتْ عَصْرَاهُ مِنْ أَثْوَابِي
خِلَعاً رَفَعْتَ بِفَخْرِها وسَنائِها
مَا ضاعَ من قَدْرِي ومِنْ آدابِي
كُلٌّ ينادي فِي البَرِيَّةِ مُعْلِناً
هَذِي مواهِبُ مُنْذِر الوَهَّابِ
فَلأَهْدِيَنْ مِن طِيبِ ذِكْرِكَ فِي الوَرى
وَقْرَ الرِّكَابِ وذُخرَةَ الرُّكَّابِ
ولأَكْتُبَنْ منها عَلَى صُحُفِ العُلا
غُرَرَ الكِتابِ وغُرَّةَ الكُتَّابِ
ولأَجْلُوَنْ منها لأَبصارِ النُّهى
حُرَّ الخِطابِ وحُرَّةَ الخُطَّابِ
ولأَجْعَلَنَّ ثناءها وجَزاءها
أَبَدَ الأَبِيدِ وعاقِبَ الأَعْقابِ
ولأَتْرُكَنَّ خُلُودَها ونَشِيدَها
دِينَ العَصُورِ ومِلَّةَ الأَحْقابِ
حَتَّى يَعُودَ الدَّهرُ بِدْعَ شَرِيعَةٍ
بِعُلاكَ والأَيَّامُ أَهْلَ كِتابِ
وتَرَاكَ بَعْدَكَ أمَّةٌ لَمْ تَلْقَها
عَيْنَ اليَقِينِ وجَهْرَةَ الأَلْبابِ
حَتَّى يَرَوْا كَرَّاتِ خَيْلِكَ فِي الوغَى
لِوَحى طِعانٍ أَوْ وَحِيِّ ضِرَابِ
ويَرَوا سُيُوفَكَ فِي الجَمَاجِمِ والطُّلى
وسَنا جَبينِكَ فِي العَجَاجِ الهابي
ويَرَوْا إِلَى الأَقْرانِ مِنْكَ مُنازِلاً
إِقْدَامَ لَيْثٍ وانْقِضَاضَ عُقابِ
ويَرَوْكَ حِزْبُ اللهِ حِزْبُكَ والعِدى
بِسُيُوفِهِ مَفْلُولَةُ الأَحْزَابِ
هَذَا وكَمْ أَعْزَزْتَ فِي دِينِ الهُدى
من مِنْبَرٍ وحَمَيْتَ من مِحْرَابِ
ومعادِ عيدٍ عُدْتَ فِي إِغْبابِهِ
بِمكارِمٍ كَرُمَتْ عنِ الإِغْبابِ
فكَسَوْتَ فِيهِ الأَرْضَ سابِغَ حُلَّةٍ
نُسِجَتْ بأُسْدِ شَرىً ومَأْشَبِ غابِ
وسوابِقٍ رَدَّ الجِهادُ جِيادَها
قُبَّ البُطُونِ لَوَاحِقَ الأَقْرابِ
ولوامِعٍ أَشْرَعْتَهُنَّ فأَشْرَقَتْ
إِشراقَ مُلْكِكَ فِي سَنا الأحْسابِ
وخَوافِقٍ حَفَّتْ بوجهِكَ فاحْتَذَتْ
شَمْسَ النهارِ تَجَلَّلَتْ بسحابِ
حَتَّى انْتَهَيْتَ إِلَى المُصَلَّى لابساً
عِزَّ المليكِ ورِقَّةَ الأَوَّابِ
في مَنْظَرٍ عَجَبٍ وأَعْجَبُ شَأْنِهِ
مَا ذُمَّ من كِبرٍ ومن إِعْجابِ
وهُدىً لِمَنْ صَلَّى وضَحّى واتَّقى
وزَكَا فَكُنْتَ لَهُ أَجَلَّ ثوابِ
فاللهُ يَرْزُقُنا بقاءَكَ سالِماً
رِزْقاً نُوَفَّاهُ بغيرِ حِسابِ
وانْصُرْ وَمَنْ والاكَ حِلْفُ كَرَامَةٍ
واقْهَرْ ومَنْ عَادَاكَ رَهْنُ تَبابِ
أعلى