حمد صالح - تجليّـات المرأة الجميلة.. قصة قصيرة

( قالتْ أنىّ يكونُ لي غلامٌ ولمْ يمسَسني بشرٌ ولمْ أكُ بغياً )

تتدحرج الشاحنة العسكرية بتثاقل على الطريق الترابي المُتعرج. الموبوء بالصخور المرمرية وعروق الأشجار البرية الجافة.. المُتخشبة. والانعطافات السريعة. والحفر المُفاجئة. تتدحرج مُتباطئة. وفي مُقدمتها علامة ناتئة تنبئ المُسافر العادي بالأهمية البالغة التي تتميز بها هذه الشاحنة على حين جلس ضابط برتبة كبيرة إلى جانب السائق يطل من عينيه الجاحظتين خُبث شرس لا يتلاءم وضخامة جسمه المُترهل. وفي تقاطيع وجهه المُتورم حذلقة مُتزمتة لا تخلو من بلادة. وإلى جانبه جمد السائق العسكري وراء المقود. يشخص ببصره إلى الأمام. أما مؤخرة الشاحنة فمكون من قضبان حديدية مُتقاطعة على امتداد الشاحنة تُشبه في ترتيبها غرفة حديدية مُستطيلة الشكل مُغلفة من الخارج بغلاف معدني رقيق. كثير القرقعة. مُضطرب. خالٍ من النوافذ. مطلٍ بالأصفر الباهت. وفي الداخل المُظلل جلس على مقاعد خشبية صلبة. ليست مُريحة. عدد من الرجال المُتسخين. تفوح من أجسادهم المطمورة الأسمال المُتربة رائحة أصنان عطنة ودبقة. من النظرة الأولى يسهل الحكم عليهم. أنهم أمضوا الكثير من الوقت مُهملين في مكان ناءٍ.. قذر. لحاهم نامية بقدر نمو رؤوسهم المكشوفة وشواربهم مُتهدلة وفي وجوههم المتربة تحدٍ ثابت. ولا مبالاة تشير بما لا يقبل الشك عن عزم مُبيت ليس من السهولة كشف ماهيته. أعينهم الذابلة تدعم هذا الشك. بل تضعه في مصاف الأمر الوشيك الحدوث. وفي المؤخرة. في غرفة صغيرة ومنعزلة يفصلها عن الأولى باب حديدي موصد بواسطة قفل حديدي كبير يتقابل اثنان من الحراس العسكريين. تستقر بأيديهم بنادق سمينوف أوتوماتيكية وفي أحزمتهم النسيجية العريضة تثبت جُعب الأطلاقات. مؤخرة كل بندقية ترتكز بين حذاءين ثقيلين.
الجميع داخل الشاحنة يهتزون بحركات مرجوجة.. عنيفة مُنسجمة إلى حدٍ ما وقرقعة الجدار المعدني المُرتطم بحواف القضبان الحديدية وبينهم على الرغم من الهدوء الظاهري تحفظ مشوب بحيطة وتوثب شديدين. كأرض ملغومة في نقطة مجهولة تشي بها كميات الغبار الخريفي المُثار من الأسفل والمحشور عرضاً في الأنوف. والمُعلق على الأهداب وشعر الرؤوس القصير والنافذ بإصرار في فجوات الآذان حيث يقل السمع. وتعتم الرؤيا. وتتشوه الملامح فيصعب التمييز بين الأشكال المُغبرة.. الذاهلة فيعم في الداخل لغط غير مفهوم مصحوب بقرقعة معدنية وارتطامات جافة.. ثاقبة وانحرافات سريعة مُرعبة وصعود مُفاجئ وهبوط مُرتبك. فتتأرجح الشاحنة بقلق. تندفع بصخب إلى الجانبين مُثيرة الكثير من الغبار وزفرات الدخان ترتفع بسرعة أو تنخفض على نحو أسرع كنفس رجل محموم يُحتضر.. يناهض بإعياء للحيلولة دون الاستسلام لقبضة شبح عملاق... غير مرئي.
ينكفئ رجل ما. بين بقية الرجال. على نفسه متأوهاً بقهر. مُردداً ذات السؤال. وللمرة الألف هذا اليوم. لابد أن هناك خللاً ما. خطأ غامضاً وهائلاً. نجهله نحن مع أننا ندفع ثمنهُ يكمن في حسابات الآخرين.
* * *
على سفوح التلال الكالحة ترقد باطمئنان غريب البيوت الطينة المُتناثرة بخمول ميت تتخللها أشجار الغرب, والتوت, واليوكالبتس, والنخيل, وأحراش القصب المدغلة فتنفرش الظلال على السطوح والجدران والطرقات الخالية, تحركها بين آونة وأخرى نسمة هواء ضالة.. عقيمة, فيولد- كالمعتاد- ذلك الهاجس القابض عبر حركة الرياح الخريفية الجافة, حيث يمتلئ الفم المزموم بطعم سبخ قاحل. ينسل مُتهجداً, وطرياً عبر أنسجة البلعوم, كقطرات ملحية.. نظيفة, تنسكب مدراراً من قامة رجل مُتعب. يدب بأمل وراء محراثه. تتجرعه باشتهاء وتغمض عينيها المُثقلين بنعاس خامل.. مُلتذ. ينبع من المكان الذي تستقر فيه قطرات العرق المالح, فينفرش إلى امتدادات لا متناهية لون لحاء نخلة جافة تعاني مرارة موت بطيء..
كان يعود في مثل هذا الوقت من آخر كل نهار مُمتطياً ظهر بغلتهُ باسطاً أمامه محراث الخشب الموشي بأطر حديدية لامعة. ينفصد العرق بخطوط ترابية على جبينه المُحزز, وصدره الكثيف الشعر, ومحيلاً لحيته النامية إلى بساط من الغبار الباهت هي الأخرى على ما يبدو وغزها الخريف يبدو وهو يعتلي ظهر بغلته المنهكة فحلاً زاخراً بحيوية رجولية نادرة. تتنفس تحت قميصه المخضب بخطوط ملحية بيضاء رطبة أكثر من امرأة جميلة. وما أن يكف عن تناول طعام العشاء حتى يمتطي فوق اللحاف مُتثائباً, وزارعاً بصره في سقف الكوخ المُعتم مُستمعاً إلى أصوات الليل وهي تذبل في الظلام, وراء جدران الطين العتيقة.. المُتصدعة.
- بماذا تفكر ..؟
ترتجف خاصرته الهابطة بجانب صرتها المُتقلصة وهو يجتر نفساً عميقاً.. ذاهلاً, فتمد أصابعها الراجفة مُتخللة غابة الشعر على منبسط صدره الخافق. أرض خصبة تشي لها على نحو هامس ببقايا حياة عامرة, فيتدفق الدم ساخناً في جذعها المُرتعش. غيمة هائمة تجتاح وجه السماء المدلهمة. تزحف بتشنج مُتثاقل عبر أحداق مزروعة في السقوف المُعتمة فتنفجر في نبض الشرايين المشدودة بحار غزيرة من الرغبة المُتصاعدة. قامة رجل مُتعب, يلهث بين تلتي الأثداء الشامختين, غائصاً بتأن نظيم في ظلمات الرحم العميقة الأغوار..
- الأرض لا تموت مع أنها توحي بذلك .. أليس كذلك ؟ !
- أجل , ولكن الخريف قاسٍ
- كم خريف جاء ثم ذهب ؟
ابتسمت بتكلف وهي تعبث بشعر صدره المتشابك
- السيد يقول بأني لست عاقراً . عمل لي حجاباً فأعطيته ثلاث بيضات .
- محصول عام كامل . نذر برقبتي لوجه الـله , وسأفي به .
- متى يجيء مثل هذا اليوم السعيد ؟
أصغى برهة ثم تطلع في وجهها بإمعان, هامساً.
- كريح نقي , يملأ الأحشاء ينتشر فينا , لا نستوعبه , وربما سننكره لأنه أصعب من أن يقال عنه مجرد ولادة على الأرجح أنه سيكون مُخاضاً صعباً , وقاسياً .
طوقت رقبته بفرح غامر ملتصقة بجانبه كما لو أنها تريد أن تغوص فيه .
- هل بدأت تهذي كعادتك . قل لي ماذا سنسميه ؟
- كل الأسماء لائقة يا عزيزتي , المهم أن يملئ فراغ حياتنا ولد .
شخصت ببصرها نحو البيوت الطينية الراقدة باطمئنان على سفوح التلال الكالحة, فكانت ثمة حيوانات مختلفة. أبقار.. حمير.. بغال.. أغنام, تعود عبر الطريق الترابي, ووراءها يتراكض صبية وقحون, يتبادلون الشتائم, والنكات اللاذعة, وأغاني الريف الدارجة وبأصوات ليست مُتناسقة إلا أنها تمنّت من كل قلبها لو أن أحد منهم يقترب منها. يجلس إلى جانبها. يتعرى أمامها لتدقق النظر في تقاسيم وجهه الملفوح بحرارة شمس خريفية ملتهبة, منبثقة من داخلها المُضاء أبداً, غامرة وجه الصبية العائدين نحو ظلمة البيوت الطينية الراقدة باطمئنان غريب على سفح التلال الكالحة ...
* * *
يرتطم الغلاف المعدني بقضبان الحديد مُشكلاً بذلك صوتاً مُميزاً لا يخلو, حين تتأرجح الشاحنة, من صخب وقرقعة جافتين, ومُزعجين, تؤثران على سياق الأحاديث الدائرة بينهم, فيضطرون إلى التزام الصمت إلى حين تستوي الشاحنة في مسيرها المُعتاد على الطريق الصحراوي المليء بالعقبات والحفر والصخور, حيث تقل سرعتها إلى حد التوقف. تستحيل إلى كتلة من الحديد الصاخب, المُتباطئ. تجر نفسها بعسر على وعرة الطريق المترب, حينئذٍ يعاودون أحاديثهم المتفرعة, وثرثرتهم التي تدل على أنهم لا يعنون بها أكثر من قتل الوقت الجاثم فوقهم بكل ما يمتلك من زخم وإرهاق. الزمن- كما هو واضح في عيونهم الذابلة- كابوس ثقيل يمتد مع امتداد حياتهم المحصورة ضمن حدود هذه الغرفة المعدنية الضاجة بالصخب والعويل الأجوف, والتي تعد باستمرارية وجودهم على هذا النحو, وإرغامهم- هكذا- على كبت نوازع ذاتية جبارة تطالب بالظهور. أجنّة مُكتملة النضج تصرخ بوحشية في الرؤوس المُتخمة بالرفض وبالغبار, حيث تواصل الشاحنة مسيرها البطيء على الطريق الصحراوي المُترب باتجاهٍ ما, ليس بالوسع تحديد اتجاه بدا لهم مجهولاً إلا أنه قطعاً ليس بصالحهم, وليس هناك دلائل تشير إلى ماهو أفضل. غموض لا يفهمون منه أكثر من كونهم سجناء بصحبة ضابط كبير, وحارسين مُسلحين بأسلحة حديثة, سريعة الأطلاقات, تحتويهم شاحنة رديئة المسير, تهيم في صحراء موحشة إلى جهة مجهولة, وربما نائية, ومن الحماقة طرح سؤال من نوعية الاستفسار عن المكان الذي يبغون الذهاب إليه, أو عما ينتظرهم من مصير, وحتى التكهن في نتائج هذه الرحلة مهما كانت مقلقة تبدو سابقة لأوانها, وبالتالي, أن كل المسائل المتوالدة في أذهانهم لا تعدو عن كونهم تداعيات ليست منتظمة تفتقر في أفضل مناحيها إلى المنطق, ومحكوم عليها بالعقم, فيلوذون مُكرهين بصمتهم المشحون بالهواجس والاحتمالات والغبار المُتعاظم.
* * *
كلما تلتف بعباءتها السوداء المُرقعة, وتغوص في صمت الليل تدرك بشكل أو بآخر أن الدنيا ليست على ما يرام, ثمة خلل صعب قد حدث ليس بالإمكان تحديده, لكنه موجود بلا أدنى شك. كانت السماء عباءة أخرى, سوداء, تُغلف الكون, مُرقعة بوميض النجوم, وذلك الهاجس القابض مابرح- عبر حركة الرياح الخريفية- يراود مُخيلتها التي تشابكت فيها المسائل إلى حد عدم الوضوح فتعود إلى التأكيد المُعزز بقناعة متواضعة أن خللاً بلا شك قد حدث لهذه الدنيا. شيء ما غير طبيعي مُختبئ في صمت الليل. غير مرئي, يتحكم في الأمور الخارقة, غير المُستحبة, يُديرها على هواه, وبسهولة مُتمكنة, وإلا فكيف يمكن تفسير مثل هذه الأحداث المُتعارضة ؟
مرت بأصابعها على بطنها هامسةً لنفسها, كل شيء ممكن, وكل شيء في الوقت ذاته أصعب من أن تستوعبه العقول, غير أن السيد يفهم-على الأرجح مالا يفهمه الآخرون فضلاً عن كونه لا يبوح بسر من يأتمنه... كان العصر يرتحل في عواء كلاب القرية.وثغاء أغنامها. ويجيء الليل بارداً- كأي ليل آخر- ملئ بالظنون والهواجس والغربة. ليل الخريف كنهاره. كلاهما جاف. ومؤلم, وباعث على التأمل المرير. وكان الفانوس مازال يبعث بقايا هزيلة من نوره المسموح على الجدران الطينية المُتعرجة, كاشفاً عن رماد السقف وغباره المزمن, وآثار بيوت العنكبوت, وكان الجفاف في الداخل ينتشر كما ينتشر في الخارج. جفاف خريفي يتمدد تحت الثوب العريض, وكان الفراش جافاً كذلك حينما أدلهم ضوء الفانوس المُعتم كأنما يد غريبة عبثت به. أنكمش جسدها المطمور تحت اللحاف حينما طالعته كريح رطبة.. عابقة في ليل الغرفة المُعتمة. تشممته بالتذاذ متأوه مُزيحة عن جسدها اللحاف العطن. ملأ تصورها رجل عائد لتوّه من الحقل يحمل العرق السبخ فعادت إلى أنفها الرائحة المألوفة مُهيجة فيها كوامن مُثقلة بشبق الانتظار الطويل. عامود غليظ, أسمر من الخشب الملفوف أبداً برماد الموقد يهبط من السقف نابضاً بأنفاس دافئة. يستقيم مُحملاً بأنين أعوام مُكبلة بالصمت والإهمال, فلا تجد مناصاً من أن تذوب فيه. طرياً يتوهج في جفاف الرحم, وحين ينطبق جفناها الثقيلان تبصران أن ثمة حياة منتظرة.. جديدة تنفصل عن صلب العامود. تتجشأ بتفاقم عند مُلتقى الفخذين, ثم تسري بليونة واجترار دافئين عبر الشرايين المشدودة لتستقر أبداً في الرحم المتقد. كانت مبهورة الأنفاس. تدق في صدرها الخافق مطارق حديدية قاتلة وهي ترنو بأسف إلى الفانوس المُطفأ. وكان الليل ثقيلاً, ولزجاُ في الداخل, والرائحة المألوفة- بـألم- تنسحب من تحت الصُرّة المُسترخية, تاركة مكانها فراغاً مُذهلاً : ترتفع نحو السقف في صمته المظلم, فتواصل مسيرها المُرتبك.. خائفة تلف عباءتها حول جسدها بإحكام, مُتسائلة بخشوع, ما تفسير كل هذا ؟ سأسأل السيد- نطلب بركاته- لعله يعرف ما حدث ؟ وما يلح على الحدوث ؟ ليس من السهولة أن يستوعب كل هذا دفعة واحدة, فأنا- ومنذ ما ينيف عن الخمسة أشهر- مازلت أجد صعوبة في تصديق أن ما يجري تحت ستار الظلمة باستمرار مُجرد أضغاث أحلام عابرة. أنها قطعاً أكثر من هذا, وأصعب..
* * *
عم صمت ثقيل على جوف الشاحنة المظلل, تمزقه عرضاً بدوي رنّان خشخشة الغلاف المعدني, حافرة في الرؤوس المُتمايلة برتابة أميدة فكرة واضحة لا تقبل المواربة, مؤداها أن الشاحنة ما برحت تسير إلى جهة ما.. مُتعثرة, تزدرد الطريق الوعر الذي لا يرون منه سوى كميات الغبار المُتصاعدة من الأسفل, ومن شقوق المشمع الجانبية, بصعوبة واضحة. هذا الطريق الذي أختلط بأذهانهم بطول كائن خرافي أكبر حجماً من الأرض, مازالوا يلهثون تحت قدمه, وربما لن يبتعدوا كثيراً عن هذه النقطة خصوصاً وأنهم متفقون على عدم صلاحيته لمسير العربات, فإن البغال ستسير حتماً على هذا الطريق على نحو أفضل من هذا الأختضاض القاتل, والتأرجح البطيء, غير أن الصمت أفضل الحلول, وأقرب الملاذات إلى النفس, ولهذا استكانوا في أماكنهم بعدم ارتياح يحدق أحدهم بوجه الآخر ببلاده, وفضول ينمان عن عجز شديد في استيضاح ملامح الدقائق المقبلة. كل شيء ثقيل, حتى الصمت ذاته في هذا الترقب ألمأتمي مدخل ليس مُستحباً إلى الأعماق الموبوءة بالاحتمالات المتضاربة, والحساس بالضيق يتفجر في كتل الأجساد المتراصة بتخشب غير متناسق, وليس هناك سوى الخشخشة التي تستحيل إلى قرقعة معدنية لأدنى حركة لا تنسجم وتأرجح الشاحنة التي تدفع نفسها بعسر تذكرهم أن الحياة كما هي. تمضي برتابة قاتلة, وفي ظروف أقل ما يقال عنها أنها ليست لهم. بينها وبينهم جدار من المعدن الملتصق بقضبان الحديد. تبتعد عنهم إلى الحد الذي فيه يقفون بعجز عن استجلاء ولو الشيء الضئيل من ملامحها المُشرقة. أو تقترب منهم إلى الحد الذي فيه يتملكهم فيه أحساس مُباغت أنها أقرب مما ينبغي, وبين هذا القرب والبعد المضجرين كانت الشاحنة حقيقة موجودة لا سبيل إلى إنكارها تسير على طريق صحراوي مهجور وطويل.
* * *
بكف مضموم, ترتجف نقرت باب الصفيح الصدئ وانتظرت مُحدقة في عتمة الباب, مُضطربة الأنفاس, وفي ذهنها يجول بأن سطوح الأبواب الصدئة متشابهة تقريباً بأديم أرضٍ سبخة ترزح تحت وطأة نهار خريفي جاف, فتخيلته مرة أخرى رجلاً زاخراً بالحياة, يعود عند الغروب مُعتلياً ظهر بغلتهُ. تتألق شمس العصر المتوهجة في عينيه القلقتين.
أنزاح أديم الأرض السبخة عن وجهها المُمتقع مُحدثاً صريراً مقززاً عند المحور الحديدي عن وجه مظلم, تؤطره لحية بيضاء.. كثيفة. تمكنت من رؤيته برغم الارتباك وهو يبتسم باندهاش. أزاح جسمه الضخم عن الطريق لتمُر
- مساء الخير يا عمي السيد
- مساء النور يا بنتي .. خيراً إنشاء الله
وهي تدلف همست
- لم أتمكن من المجيء في النهار . أنت تعرف
جاء صوته الثخين مُحشرجاً من الخلف
- خيراً إنشاء الله .. خير
تقدمها بخطى عجلة, واضح عليها الارتباك. انحنى إلى الفانوس مضاعفاً من نوره الباهت فالتمع جبينه المُحزز, وتراءت لحيته البيضاء بوضوح أكثر, وبدا انفراج الدشداشة كمثلث من القماش النظيف بثنيات صغيرة, مُنحسراً عن غابة مدغلة من الشعر الأبيض. تمكنت بعد أن جلست عند الباب مكورة العباءة تحتها من رؤية الجدران الطينية المُتعرجة. والزوايا المُعتمة, وبقايا الثريد, وفُتات الخبز الدهين مُتناثرة حول الموقد المُنطفئ. قال وهو يتربع على الحصير الوحيد المقابل
- لا تؤاخذيني يا بنتي . زيارة غير متوقعة
ابتلعت ريقها بصعوبة
- أجل يا عمي السيد , ولكنك تعرف
- صحيح . هذي دنيا آخر زمان . ولكن ما الخبر ؟
فركت أصابعها بإحراج وهي تجيب بهدوء وتلعثم
- بركاتك يا سيدنا , أنت تعرف , والله يعرف أنني امرأة شريفة .
تنحنح مُعرباً عن تذمره , وتمتم بعدم ارتياح
- أستغفر الله يا بنتي , ومن قال عكس ذلك ؟
لم أجد غيرك أأتمنه ولهذا قصدتك سراً .. بعيداً عن أعين الناس .لم يرني أحد وأنا قادمة إليك
- الله يرى كل شيء يا بنتي
- أريدك أن تكتب رسالة إلى زوجي تخبره فيها أنني حامل
هزت رأسها بقلق , وقد أزداد وجهها شحوباً فيما كان هو يتساءل مصعوقاً
- حامل .. ؟ !!
- بركاتك يا سيدنا , في شهري الخامس
تطلع فيها بإمعان مُتمتماً بتلكؤ
- أعوذ بالله من هواجس الشيطان . يا بنتي اغفري لي , ولكن .. كما تعرفين
ثم عاد إلى صمته المأزوم ماسداً لحيته بأصابع دقيقة . راعشة
- أقسم لك يا سيدنا أنني لم أقم بعمل مُشين يُغضب الله وعباده
همس بفتور
- لا أكذبك , ولكن ... على أية حال , أن بعض الظن أثم
تأوه بإحراج وهو يتساءل
- منذ متى بالضبط أخذوه ؟
لبثت فترة صامتة تتطلع في الوجه الذي اكتسى بطبقة هادئة من الكآبة هازة رأسها المعصوب بمنديل عتيق.. أسود, مُطرز بخرز الشيخ على الجانبين
- لا أدري , منذ فترة طويلة . منذ منتصف الصيف الماضي على ما أعتقد
- وها نحن في أواخر الخريف
عاد الصمت يُخيم على المكان المثقل بالترقب إلا أنه سارع إلى اختراقه مُتلعثماً
- هل أنت متأكدة من الجنين . أعني متأكدة من أبيه ؟
واستعان بكلتا يديه ليوضح قصده. مسحت الأرض بنظرات ذليلة هامسة بفتور
- لا .. لست مُتأكدة , ولكنني يا سيدنا أقسم بالله أنني لم أقم بعمل مُشين
همس بتخاذل ضعيف كمن يخاطب نفسه
- استغفر الله من كل أثم . عاقر , وزوجها غائب , وحـامل ..؟
أرتفع صوته قليلاً وهو يُضيف
- للناس ألسنة لا تكف عن الثرثرة , وأنت تعرفين ذلك
- ولهذا قصدتك يا ســيدنـا ..
- كما وأنك متزوجة منذ فترة طويلة , فكيف لا يحدث هذا إلا الآن ؟
- أنا مثلك يا سيدنا لا أدري ماذا حدث للدنيا . شيء ما فيها بلا شك غير طبيعي .
رفع رأسه الأشيب هامساً.
- أنت متفقة معي على أن الأمر ليس سهلاً تصديقه .
- تملصت عن بصره المُركز في وجهها كازة على شفتها السفلى
- ولكنك سبق أن قلت لي . أنني قد أنجب طفلاً
دمدم من بين أسنانه مُشككاً
- أمر يبعث على الحيرة
تدارك قوله بصوت أكثر وضوحاً
- أرجو مُخلصاً أن لا تكوني مُخطئة
انتفضت بذعر قائلة :
- لا .. أبداً , لست مُخطئة , أنا واثقة من ذلك . صدقني يا عمي الشيخ . لست مُخطئة .
عاد إلى همسه الكئيب
-استغفر الله يا بنتي . أنت بحاجة إلى حجاب
قالت ببرود
- عندي الكثير من الأحجبة
- هذه المرة تبدو المهمة صعبة للغاية
تخللت أصابعه لحيته الكثيفة. متوقفة عند الذقن ببلاهة
- ألم تتوجسي أن شيئاً ما قد حدث لك . أي شيء مُلفت للنظر .. يعني ..
قاطعته بسرعة
- بــلا ...
أصغى بانتباه فيما أضافت وهي ترسم على وجهها المشوب بحمرة خفيفة ابتسامة مُتكلفة
- كان يزورني ليلاً . أتخيله دائماً ينبثق من السقف كعامود خشبي يحمل رائحته المألوفة وهو يعود عند الغروب مُعتلياً ظهر بغلته . أنفتح كلي , وبلهفة لأستقبله . يبدو لي أنه أكثر من رجل . يهبط فوقي كملاك محجوب عن النظر . إلا أن الرائحة تملأ البيت .. تملأ القرية .. تملأ العالم . يُقبلني بشغف على جبيني . يُزيح اللحاف عن جسدي . يتوسد صدري المكشوف , ثم .. بركاتك .. يغفو تحت ثوبي . مجرد ريح تنبض في جسدي , ومازالت , كلما خبط الجنين , تصورت ريحاً مألوفة , ونقية تملأ أحشائي .
هز رأسه باكتئاب وقد زم على شفتيه مُستغرباً
- بلا شك أنه أمر من الصعب استيعابه , ولكنني بتُ أشم رائحة أمرٌ ما , لا أدري بالضبط ماهو , ولكنه أشبه ما يكون ببداية إعلان قطعي لنهايات عديدة , قائمة , زف أوانها . بداية مخاض عظيم وصعب .
أطرق في الأرض هنيهة قبل أن يضيف هامساً .
- بداية دامغة , ستخلفنا وراءها مجرد علامات بشرية هزيلة .. مُلغاة ..
قاطعته بارتباك
- كان يُحدثني هكذا .. مثلك , وكنت أقول له أنك تهذي
أكمل بذات اللهجة المُسترسلة
- بداية تروق في جباهنا بعد أن تنفصل عن رحم امرأة ما , حيث يتحقق الحلم المُعجزة . ما سيحدث يا بنتي أصعب من أن نستوعبه , وهنا لب القضية , فأنت بكنزك الثمين في جهة , والكل وأنا من ضمنهم في الجهة الأخرى , بيننا وبينك بون شاسع من الفراغ المظلم . لا أدري بالضبط كيف أصفه . أنني أراه الآن . ولكن بلا وضوح . أراه في الطرف الآخر . أراه كنزاً قد لا تطوله أيدي الآخرين . أراه ولكنني لا أعرفه , كحلم أسمر تفوح منه رائحة التراب . كإطلالة شمس بعد ليل مليء بالكوابيس .. كشيء ما يفوق التصور ..
تحامل على مرفقيه مُتأوهاً بنزق , وقد أحست من تنفسه المُتحامل أنه كبر في هذه اللحظة كما لو أنه لم يكبر من قبل . كجدار عتيق أنهار نصفه على أثر عاصفة رعدية مُمطرة. هتفت بإنذهال
- يا عمي السيد , ما الذي حدث ؟
ردد بصوت ضعيف
- هــه .. ما الذي حدث . سؤال وجيه . ولكن من الذي سيتحمل عناء الإجابة . أنا مثلك أتساءل ما الذي حدث ؟ وما الذي سيحدث ؟
نهض مُتمالكاً أعصابه وكأنه يتفادى السقوط. أسند ظهره على الجدار ونظره يتوغل في مستطيل ظلام باب الغرفة فقابلته بتوثب مصعوق. وعلى وجهها الشاحب تتكشف ملامح ذعر واندهاش قالت بصوت ضارع
- أريدك أن تكتب له رسالة
أجاب وهو يتطلع في الظلام
- سأكتب له رسالة
- وتخبره بأنني حـامل
- واخبره أنك حـامل
- وأن ما كان يحلم به قد تحقق
- وأن ما كان يحلم به قد تحقق
- وذكره بالنذر الذي قطعه على نفسه
- واذكره بالنذر الذي قطعه على نفسه
- وأنني ما زلت أنتظر عودته برغم كل شيء آخر
- وأنك ما زلت تنتظرين عودته برغم كل شيء آخر
- واسأله متى يعود ؟
- وأسأله متى يعود ؟
لزمت الصمت فترة. وكأنها تتذكر بقية الرسالة. إلا أنها أحست بارتباك مفاجئ. إذ أن السيد لم يكن معها إطلاقاً. تساءلت وهي مزروعة حذاء الباب
- يا عمي السيد . هلا أخبرتني عما يحدث ؟
كانت عيناه الضيقتان طافحتين ببريق حاد وهما يغوصان في الظلام. رأته يخطو إلى الأمام كطفل يتعلم المشي حديثاً. يبتسم بارتباك. ويتمتم بخشوع غريب.
- يا بنتي اعذريني فأن السيد الذي كنت تعرفينه حملته الريح الدائرة في أرجاء هذه القرى المُعتمة. السيد سافر مع الريح بعد أن خلع ملابسه وغاص في حلم المرأة الجميلة. لم يتحمل دوامة حلمها العظيم فظل كبندول ساعة قديمة يتأرجح بين قناعات ماضيه الجليل. وحاضره الصعب. أنظري جيداً. ألا ترين السيد عارياً ؟ !
تقدم بهدوء وثبات نحو الباب كما لو أنه يسير تحت وطئة كابوس مُريع
- هذا ما كان غائباً عن وجه المُعادلة . عليك أن تتجملي بالصبر والكتمان . فكنزك الثمين أمانة عندك . وعليك الحفاظ عليه أما السيد يا بنتي فلم يبق لديه ما يفعله
السيد سافر إلى المكان الوحيد الذي يلمه . الســيـد مـات
* * *
تزفر الشاحنة العسكرية بصعوبة بالغة وهي ترتقي المرتفع المتعرج. يختلط الغبار المُثار من العجلات الدائرة ببطء بتدفقات الدخان المُنبثقة من الخلف والجوانب حيث لا يمكن لمتنبئ أن يجزم فيما إذا كانت الشاحنة تستطيع اجتياز الذروة أم أنها ستستنفذ جهدها كله قبل النهاية كانوا جميعاً في الداخل المظلل المُغبر يلفهم وجوم بارد عصيب. يتناقلون الإيماءات المُبهمة والنظرات المُتسائلة بعدم فهم. تخفق بأعماقهم صدمات الطريق الوعر المحفوف بالمخاطر. فيبدون في كنف الغبار المُتصاعد كما لو أنهم يتواثبون على مقاعدهم الخشبية فترتطم رؤوسهم بالسقف الحديدي ثم يعدون بقوة ليندقوا بالمقاعد ثانية وفي أذهانهم يثقب عنيفاً ارتطام الصفيح بقضبان الحديد. يكفون عن الثرثرة نهائياً بعد أن حُجبت الرؤية حجباً حيث أن ملامحهم أصبحت الآن ليست مُحددة. مُجرد كُتل بشرية من الغبار تتواثب في أماكنها. والحارسان في المؤخرة يدققان النظر بإمعان في مقاعد الجميع بحذر وعدم ارتياح يتهامسون بخفوت وبنادقهم تستقرر مُغبرة أيضاً كالوجوه كالملابس كالأحذية بين أيديهم.
تلمس أحد الرجال صدره فتأوهت تحت يده المفروشة على قماش الخاكي ورقة مدعوكة. تنفست في راحة يده بعمق فأخرجها بأصابع مُرتعشة وفرشها بتأن برغم كثافة الغبار أمام وجهه وغاص بين سطورها المُتراصة العسيرة على القراءة. كل كلمة مُتهيبة تحمل رائحة قادم مُنتظر. تمدد الظل في عينيه المملوءتين بالوحل. وتخدرت من حوله أصنام الغبار المُتراصة استرخت وراءه شاشة رمادية بلون لحاء نخلة جافة تُعاني مرارة موت بطيء. مُجرد حطام موميائي متروك في صحراء واسعة مُلتهبة قضبان حديد وصفائح تنك. وأرجل وعيون وأفواه وأحذية ثقيلة ورؤوس وأشلاء مُبعثرة وأجساد منخورة نتنة وبطون منفوخة متورمة وبقايا بنادق صدئة ومزق أقمشة خاكي. قمامة مختلطة من النفايات المتروكة تنبعث منها رائحة كريهة تزكم الأنوف التي اعتادت على استنشاق رائحة الحقول الندية والسواقي والبقع السبخة. اضمحلت الأصوات المتداخلة مُنسحبة هي الأخرى وراء الشاشة المُرصعة بالحروف الخانقة فاجتاحت المرئيات غمامة كثيفة من المشاعر المُغبرة الطافحة بلذة الغياب فكانت الصحراء امتداداً مُهيلاً يطل من العينين القلقتين المملوءتين بالسبخ ينثال ريحاً ندياً يتغلغل في العروق المُسترخية ويرتحل في فضاء لا متناه يمسح الذروة العالية ويمتد على أديم شاسع. فيهمس بارتياح لكم هي واسعة ورحيبة؟ يندفع إلى الأمام ظلاً رطباً زاحفاً على الأديم المرقع بالحقول الخضراء والسواقي والبيوت الطينية ووجوه النسوة الحالمات تحت السقوف المعتمة. يمتلئ بضوء الشمس الجزيرة المحترقة عند الأفق المتوهج وفي عروقه الخافقة تكشف الأرض المستلقية أمامه بإغراء عن مفاتنها الخصيبة همسات امرأة حالمة. لا تقوى على كبت رغبتها العنيفة في التأوه الشبق. ينساب نفساً من خلال أنفاسها إلى القرية النائية. ترقد باطمئنان غريب على سفوح التلال الكالحة. يخترق السقف ريحاً مخمضاً بأنفاس الحقول المزهرة. يطبع قُبلة مُقتضة على الجبين المنعكس في انحناءاته الخفيفة ضوء الفانوس. وبأصابع ثملة مُتشنجة يزيح اللحاف العطن عن عالم مُتكامل من اللحم الدافئ. يتوسد الصدر الطري بارتياح مُستنشقاً عطر القرنفل الممزوج بعرق الجسد اللزج الذي كلما أقترب من أنفه ذكره بالعديد من الروائح المألوفة. رائحة أرض سبخة. رائحة خبز ساخن. رائحة جسد مطمور. رائحة عشب ظامئ. يرتمي لاهثاً في عمق هذا المزيج الرائع من الروائح المألوفة مُتهالكاً بإعياء بين منفرج الثديين المكتنزين. لافظاً كل عذاباته وهمومه المزمنة في وجهها الكئيب. غافياً وإلى الأبد تحت الثوب العريض.
* * *
على سفوح التلال الكالحة ترقد باطمئنان غريب البيوت الطينية المُتناثرة بخمول ميت تتخللها قامات أشجار الغرب واليوكالبتس والنخيل وأحراش القصب المدغلة. وعلى الطرق التي تبدو بيضاء متلونة في لون الأرض الرمادية تسحب آخر المواشي بدبيب مُتمهل أجسادها الضامرة. ومن نوافذ البيوت تنبثق أعمدة زرقاء فسفورية من دخان المواقد والتنانير. تتمطى إلى الأعلى كزحف ثعابين مُتشابهة تجر نفسها بتثاقل لتغوص في ثقب النور الملتهب والذي لا ينئ هر الآخر يزحف على الأفق الغربي بتأن وتثاقل نظيمين فيرتمي الظل باهتاً من واجهات السفوح التي تكاثفت عتمتها غامراً البيوت المدلهمة وقامات الأشجار مُضيفاً على الأرض المنبسطة لوناً قاتماً كلون شعر الأبط المعروق. لم تكن لترى أي حافز يدفعها إلى النهوض كانت مسترخية عند باب الحوش المُتآكل وظهرها مستند على الحائط الطيني. ترنو بإسهاب إلى حلول الظلام الباهت على ضواحي القرية الملفوفة بصمتها الباعث على القلق وذلك الهاجس القابض مابرح يتوهج في صدرها كأشراقة ضوء خافت يومض في الأحشاء الدفينة. يوم آخر يمر. ثقيل وصعب. وليس هناك من شيء جديد. وما زالت تنتظر وستبقى على حساب كل التوقعات السيئة تنتظر ريحاً ما برح يخفق بين الجلد المقشعر والثوب العريض. سرت في جسدها رعشة خفيفة حينما خبطت في بطنها المرمية أمامها رفسة دقيقة وحادة. تكور بسرعة دائراً حول نفسه بحركة صاعدة حتى خُيل لها أنه يستقر الآن بالضبط بين العنق والحجاب الحاجز ثم لم يلبث أن هوى إلى الأسفل ساحباً عبر فضاء مظلم كطير مطعون هوى في جنح ظلام القرية الساكنة. أرتعد جسدها كله حينما دق جدران الرحم بقبضته المُحكمة انتزعت برغم الألم ابتسامة مواساة ذابلة حينما تصورته رجلاً ينبع من بين فخذيها المكتنزين ملفوفاً بنسيج رقيق من الأغشية الجوفية. يمزقها بعناد طفولي عابث فينبثق باسماً وسط بركة من الدماء القانية فحلاً زاخراً بحيوية رجولية نادرة تتنفس تحت قميصه المخضب بخطوط ملحية بيضاء رطبة أكثر من امرأة معطاء.
يسد الباب بقامته الطويلة وفي عينيه الكابيتين تغرق شمس الصباح المُتألقة. يستفسر عن المحراث ومتاع رحلة اليوم. يتكلم باقتضاب رجولي خشن لا يخلو من أوامر صارمة. يلوح بيديه المعضلتين الملفوفتين بالشعر الفاحم غاضباً لكنه لا يلبث أن يجمد في مكانه مبهوراً كتمثال مُحنط من الملامح المُندهشة وعلى وجهه المرعوب تولد تلك المسحة الغائمة.. المقهورة. كما لو أنه أدرك كل شيء دفعة واحدة. تسأله فلا يُجيب فتشاركه النظر مُتطاولة برأسها من باب الكوخ إلى الجهة التي يترصد بإمعان مندهش. تقف مبهورة مثله. ما الذي حدث؟ تجيء أنة مقهورة. كصرخة مكتومة تنفجر في أعماق بئر عميق. يرنوان معاً في هداة الصمت القاتل بذعر إلى أشجار الغرب والتوت واليوكالبتس والنخيل وأحراش القصب التي كانت قبل لحظات أليفة هادئة. كيف تتوالد.. تتكاثر بسرعة مُذهلة. تخلع قشورها المُتيبسة وترتدي البدلات الخاكي. تنبثق من كل الجهات بوجوه عابسة ومُتربة تنتزع الغصون المجردة من الأوراق من أكتافها لتصوبها بفوهات مظلمة نحو كل الصدور. تقتلع جذورها من الأرض وتركض في طرقات القرية مُهددة بالقتل أو الاستسلام فيتساءلان بصمت. هل بدأنا كالمعتاد نحلم؟ أم هناك خللاً ما قد حدث لهذه الدنيا المجنونة؟ ينفضان رأسيهما بعدم تصديق. تنقض الأشباح النباتية عليهما من كل جانب تسوقه أمامها. تدفعه أشجار الخاكي إلى جوف شاحنة عسكرية وتغلق دونه الأبواب الحديدية. ويظل السؤال المندهش محبوساً بين البلعوم الجاف وجدار الأسنان المنطبقة. في حين كانت الشاحنة تختفي وراء عاصفة هائلة من الغبار. تهب واقفة متشبثة بالباب المفتوح. تحد من نظرها مُستجلية حقيقة الظلام الذي هيمن الآن تماماً على القرية. تتلمس بطنها المنفوخة بتوجس. وريبة. فتتراجع بارتعاب إلى الخلف هازة رأسها بحركات رافضة ومهمومة. توصد الباب ورائها بقوة وتتكئ عليه بظهرها منتظرة أن يتمخض هذا الصمت الليلي المظلم عن صوت ما. عن حركة ما عن نفس ما. وكانت ضرباته الخفيفة المُتثائبة في أحشائها. تتوجسها لكثافة الصمت مسموعة. واضحة كخطى عنيدة. ثابتة. تغتصب عمق السكون.
* * *
تتدحرج الشاحنة العسكرية بتثاقل على الطريق الترابي المُتعرج. الموبوء بالصخور المرمرية وعروق الأشجار البرية المُتخشبة. والانعطافات السريعة. والحفر المُفاجئة معقبة معالم أثرية لطريق صحراوي مهجور ضيق لا يبدو أن شاحنة سابقة قد سلكته. مُثيرة بذلك قرقعة معدنية عالية وزفير مُتوهج.. ثاقب. وأصوات ارتطامات عنيفة فيُثار المزيد من الغبار الممزوج بالدخان فتضيق مجالات التنفس إلى حد الاختناق. وتنعدم الرؤيا تماماً ويلف الجميع صمت بليد. حيث ليس هناك ما يمكن أن يقال بمثل هذا الجو الصاخب. المضطرب..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى