رولا حسينات - كيمياء الحب

الشخرة التي أطلقها في منتصف الليل مرت في أذنها، ووقعت كدوي رصاصة ارتج لها قلبها لم تستطع بعدها النوم أو إرخاء جفنيها ،وقد أدارت ظهرها لزوجها تارة ثم وجهها تارة أخرى من غير أن يغيّر من شخيره المتواصل، رغم التعب الذي شق طريقه إليها اليوم وتسبب فيه... وجعلها تشعر بهبوط قلبها من مكانه، وارتمائها لأقرب مقعد إلى جانبها، لم تكن لتسمع منه سوى: أنا في المستشفى، ربما لن أعود.
وانقطع الخط... الأفكار التي ارتجت داخل قلبها، وعصفت بها وجعلتها تهوي بثباتها المعروف بصلابتها، بشخصيتها التي تحكم بها البيت كله، صورتها لدى أبنائها بالأم الصارمة وصورة زوجها لديها الطفل الوديع... قلبها الذي يرق وتسبقها عيناها بالدموع، عندما أعادتها صديقتها إلى المنزل كان كل شيء في عينيها شاحبا حزينا، لم تعد تعجبها وظيفتها في لحظات...
فهي لا تحب أن تنشر المحبة وهي ستفقدها... ستعتزل كل الحياة، صنوفها، توعكاتها... ما قدر لها فيها...
سترسم قلبا يجمعها بمن تحب، فصول السنة الأربع لم تعد سوى فصلا واحدا شتويا باردا يثلج أوصالها فيجعلها ترتجف...تحزن... من أعماقها... أصاب حطب قلبها البلل، فلم يعد قادرا على أن يشتعل...
ماذا ستفعل؟ لقد أخبرها أنه لن يعود، لن يعود كافية بأن تجعلها تهيم على وجهها، فهو نبض قلبها، والدقات التي تقرع طبولها ليل نهار، فهو أول إطلالتها على الدنيا ...نعم تذكر ذلك التشرين الدافئ، لقد كان دافئا رغم الوشاح الأبيض الذي كسا الشرفات والأسيجة والطرقات وكل شيء أمامها...
وقتها كانت طالبة جديدة ارتحلت من بلادها لتدرس في الخارج، لم تكن قد عرفت البرد بعد، لم يكن قد تغلغل إلى مفاصلها فقد استخدمت كل وسائل التدفئة الممكنة، وأهمها الأردية الثقيلة والحذاء الطويل... كل ما يمكنها من تخطي الأجواء الباردة حتى تعتادها، ولكنها كانت تحتاج إلى وقت طويل لتفعل ذلك بهدوء على ما يبدو، برجل ممدة أمامها، وجبيرة بيضاء، وعشرات من تواقيع الأصدقاء والمعارف، حتى أصبحت خريطة لعالمها الذي تنظر إليه من خلال نافذتها الصغيرة، والموقد في الحائط بمستطيله المربع الصغير، وغرفته الصغيرة المسيجة والمليئة بالأخشاب وألسنة اللهب، ورائحة الدفء المحشور في أنفاسها وكأس القهوة بالقشدة الحليبية على السطح التي عشقت تدويرها بإصبعها مذ عرفته ...
عيناها التي تتنقل بين النافذة والكأس في يدها، وتستقر على قدمها المكسورة، وتدقق في تلك التواقيع، الكثير ما يعنيها توقيع واحد وقلب واحد، قلب نبضت له، واستقر فيها...
هي لا تدري أنها تلك المعادلة الغريبة التي لا تعرف ما هي؟ وما هي خصائص كيميائيتها والعناصر الداخلة في التركيبة العجيبة التي جمعت قلبيهما معا، دون أن تنشد رائحة الخوف وقد أذابت قرص الطمأنينة إليه.
كان أول لقاء يجمعهما وفي أول ذهاب لها إلى الجامعة، كتلتها من فر،و فلا تبين سوى عينيها وكانت الأخيرة على ما يبدو حتى 21 يوما...
منذ أن سقطت... لقد تزحلقت قدمها، وصرختها المليئة بالألم فغدت كفرخ بط لم يعرف السباحة فغرق، الكثير من الأرجل قدمت إليها والأيدي، ولكن يده كانت الأسرع كان على مقربة منها، مندفع إلى الجامعة حاملا كتبه الكثيرة التي وضعها جانبا فوق تلة من ثلج أبيض فتقاسمت معها الألوان...
وهدأها لم ينظر لعينيها بقدر ما اهتم بساقها الممدوة، كلماته التي طمأنها بها كانت نفس الكلمات التي تبدأ بها المسلسلات الأجنبية، ولوحات التعارف بين البطلين، لكنها لم تسمع كلماته بل التقمتها كالمشتهي للماء من الظمأ...
أي قدرة عجيبة له على لئم جرحها وجبر كسرها دون أن تشعر بألم؟ ما الذي حدث؟
لن تستطيع أبدا فهم الكيمياء التي تحدث في العلاقات الإنسانية، لأنها لبست ضمن موازيين محددة...
الفشل والنجاح ليست لهما أي نسبة، يمكن احتسابها ...قوانين العواطف تختلف تماما لها مقايس أخرى جله داخل القلب والروح ورعشات الجسد، وذبول العينين، واحمرار الوجه وترقرق الدموع في المقل...
للحب سيناريوهات كثيرة، لن تقف عند أي منها ولن تقرأا عن تجارب الآخرين، لأن لكل منها تجربة، والتجربة الأجمل أن تنازل الصبر فيها... فلا تقبض سوى على جمره ...وتبقي على أنينها الخافت في داخلها، وتنصت لسيمفونية الكون، وتصغي لرعشات الوقت...
نعم كل هذا مرَّ في ذاكرتها، وأبقى على عينيها وقبض قلبها المعلق على ذلك التوقيع على جبيرتها، وباقات الورد وعليها اسمه، صورته التي تروح وتجيء أصبحت نديمها ليل نهار أصبجت قهوتها ذات القشرة القشدية...
كم من الوقت عليها أن تصبر دون أن تراه؟ ودون أن تلقي بالا لتلك الجبيرة، 21يوما مرت بجبيرتها العرجاء، عندما دخلت الجامعة بعد طول غياب كانت تبحث عنه، كانت تريد أن تقول له مرحبا بكل لغات العالم... تريد أن تقولها باليابانية وبالإنجليزية وبالإيطالية وبالفرنسية وبكل أوان الطيف، كانت تريد أن ترسم صورته التي حفظتها عن ظهر قلب ولم تفارقها ..ثم ارتبطا معا، وبقيا معا، درسا معا، وأفضيا بسرهما لحفرة صغيرة في أعماق كل منهما...
أنهما لن يفترقا... سيتحايلا على قوانين الطبيعة، ويكتشفان سر الحياة الأبدية ليكونا معا. وأنجبا صغارا... علمتهم أن الحب هو القنديل، وهو لحن الحياة... هو القانون الطبيعي للإنسان، بأن تحب وتصنع ينبوع الحياة... حياتهما التي مرت بعد الواحد والعشرين يوما لن تنساها ولن تتوقف يوما عن دعك أقمشة الحب بعناية فائقة، دون أن تعرضها للشمس أو الريح أو للقلويات... تريد أن تجعلها نضرة كما كانت يوم التقيا، دون فواتير إضافية تثقل عليهما الوجود، وهذا ما كان...
فلم يصر محمود على رفض ذلك الميثاق بينهما؟ لم يصر على أن يفارقها ؟ لم اتخذ القرار دون أن يخبرها ؟؟؟
اتخذه ومضى وأخبرها بأنه لن يعود ولم تره، لن يعود... إن ذهب فستذهب... لن تبقى على زمانها وقد توقفت العقارب، تريد أن تنسج الحكاية كل مرة، وكل دقيقة من حياتها ...الساعات الثلاث مرت ثقيلة، لم تتحرك عقاربها ... لم تسمع تكاتها ونبضها المتوقف كما روحها التي تسرق أنفاسها وتنقطها بالتنقيط...
كم من الوقت سيمر حتى تبدأ رحلة البحث، البحث عن حبيبها حتى تجده ....
من الشق الرفيع للنور المنسل من النافذة رأت صورتها معتمة كشبح مر فوق أرض هجرها ساكنوها، فأنصتت لأناشيد المفارقين ورسائل الأحبة ...
حتى غفت...
أقفلت عينيها ونامت دون أن تقلق، تريد أن تسترجع كل الذكريات وتضعها في قوارير من زجاج وتركنها إلى ركن آمن ...بعيدا عن أشعة الشمس كي لا تتبخر... وبعيدا عن أيدي صغارها كي لا تنكسر... وبعيدا عن الرطوبة حتى لا يصيبها العفن...
لن تسمح للذكريات بالفرار...
أغلقت عينيها ونامت، رائحة عطره المميزة، فتحت عينيها ببطء لتراه خيالا واقفا أمامها أعادت إقفالهما ثانيةـ وفتحتهما فأبصرته بشحمه ولحمه بكامل حيويته، أبصرته ارتمت في أحضانه وهي تجذبه إليها بكل قوتها...
- لا تذهب ثانية... لا تذهب...
ربت بحنان على ظهرها وهو يقول: عزيزتي كنت مع صديق ...الحمد لله...
أخذت تنصت لشخيره وكأنها تسمع موسيقى تحبها، عزفاً سيعجز الكون فهمه...



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى