د. نعيمة عبد الجواد - الحرب العالمية الوشيكة تدق طبولها!

يتباهى الإنسان دوماً بعقله، وبكل فخر يكرر «العقل زينة». ولما كان الإنسان في حاجة ملحة لتطوير فكره، وزيادة نسبة ذكائه، استحدث آلات لتعينه أن يكمِّل نواقصه كإنسان، لكنه، في الوقت نفسه، يتباهى بكونه مخترع الآلات، وأن بإمكانه صنع أخرى أفضل منها، أو حتى يدمرها حينما شاء.
تلك النظرة المبجلة لشأن العقل وأهميته، وتميزه كانت في الماضي، إبان الثورات الصناعية الأولى، لكن مع الثورة الصناعية الثانية والثالثة، طمح الإنسان للمزيد، وتزاوج طموحه مع جشع وطمع، جعلاه عازماً على احتكار كل الخير لنفسه. ومن ثم، تشرذم العالم لفرق متناحرة، كل منها يريد تدمير الآخر، واعتلاء عرش الهيمنة. ففي كواليس الحرب العالمية الأولى والثانية، كان المعترك الحقيقي للدول المتصارعة، هو ساحة التقدم العلمي والتكنولوجي، الذي من أجلهما لم تجد الدول أي غضاضة في إزهاق أرواح البشر، لطالما كان ذلك يحقق لها التقدم والهيمنة.
فالحرب العالمية الأولى قامت بعد الثورة الصناعية الثانية، وكانت تسمى بالحرب العظمى، واستمرت لأكثر من أربع سنوات (28 يوليو/تموز 1914- 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918). وانتهت بعقد عدة معاهدات، من أهمها معاهدة فرساي متعددة الأطراف، الموقعة في 28 يونيو/حزيران 1919، والتي كانت موجهة بالأساس إلى ألمانيا؛ لإذلالها، ولتحجيم طفراتها العلمية المذهلة، سواء في المجال الصناعي أو مجال العلوم، ومن أهمها الطب والتكنولوجيا. وتلت تلك المعاهدة معاهدات عدة مثل معاهدة سانت جيرمين (10 سبتمبر/أيلول 1919)، ومعاهدة نويلي سور سين 27 نوفمبر 1919، وجميعها تهدف إلى القضاء على أي شكل من أشكال التحالف بين ألمانيا والنمسا والمجر، مع ملاحظة أن جميع تلك الدول تشترك في شيء واحد في ذاك الوقت، ألا وهو تكريس الجهود لإحداث طفرات علمية، وصناعية، وتكنولوجية. وللقضاء على أي أمل يدعم جميع دول «القوى المركزية» حتى تنهض من كبوتها وتواصل جهودها، تم عقد معاهدات لتدميرها. فتحطمت الامبراطورية الألمانية، والامبراطورية النمساوية – المجرية، وبلغاريا، والدول التي ساندتها، مثل الإمبراطورية العثمانية – التي كانت من أكبر الحلفاء الداعمين لألمانيا ـ والتي تم تفكيكها بموجب معاهدة لوزان الموقعة في 24 يوليو 1923. وسقطت الامبراطورية النمساوية – المجرية، وكذلك سقطت الامبراطورية الروسية، بلا رجعة، على الرغم من كونها تنتمي لكتلة الحلفاء. فبعد الحرب، فجأة مزقتها حرب أهلية من جراء الثورة الروسية، فكانت النتيجة، سقوط الامبراطورية الروسية وتكوين ما يسمى بالاتحاد السوفييتي.
وكأن الهدف كان معاقبة كل الدول الداعمة لألمانيا، أو التي تحقق طفرات تكنولوجية بشكل أو بآخر، حتى لا يعتلي منصة التكنولوجيا الحديثة، أي منهم مرة أخرى. فتقدمهم التكنولوجي يسير بخطى متسارعة، لم يستطع مماراتها سادة العالم القديم، وهما فرنسا وإنكلترا، أو القوى الاقتصادية العظمى الناشئة، مثل الولايات المتحدة. وبسبب أن الدول التي تحالفت مع ألمانيا والمجر والنمسا أصابها التقدم، حرص سادة العالم القديم، والقوى الاقتصادية الناشئة على احتضانها، خاصة طبقة العلماء؛ للاستفادة من إنجازاتهم واكتشافاتهم في مجال العلم والتكنولوجيا. ومن ثم، سجل العالم بعد الحرب العالمية الأولى، طفرات علمية غير مسبوقة، وأغلبها كانت في مجال الطب والتكنولوجيا.
أما الحرب العالمية الثانية، فقد كشفت نتائجها – بلا استحياء – نقاب التناحر العلمي والتكنولوجي، وأكدت أنه السبب الحقيقي لهذا الصراع غير المفهوم، الذي وجدنا فيه دول الحلفاء تنقلب على بعضها بعضا، وتغير معسكرات الانتماء بكل سهولة، وبدون أدنى استحياء، وعلى رأسها كانت الامبراطورية الإيطالية. وكأن الدرس القاسي في الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن مقتل ما يزيد على عشرة ملايين نسمة ـ لم يعتبره أحد. وعلى الرغم من كم المعاهدات غير المسبوقة التي تم عقدها بين الدول، لم يمنع ذلك من قيام الحرب العالمية الثانية، وخرق كل هذه المعاهدات، والسبب أن ألمانيا استطاعت مرة أخرى النهوض من الكبوة المفروضة عليها. أما روسيا التي صارت تعرف بالاتحاد السوفييتي، فأرادت أن تخوض معترك الساحة السياسية مرة أخرى، لتعرض إنجازاتها بين الدول.

في ظل الطفرات العلمية والتكنولوجية التي نعيشها حالياً، يجب أن يتنبه العالم لوجود خطر وشيك يهدد حياتهم، وليس نعيما جارفا كما هو مأمول. فالتقدم يقابله جشع هائل يضع حياة المدنيين في أدنى مرتبة، من أجل تحقيق هدف واحد: «الزعامة».

وبإمعان النظر في الحرب العالمية الثانية، التي استمرت لأكثر من ست سنوات (من 1939- 1946)، نجد أنها قبل أي شيء كانت تقوم على أساس تمركز حول تحقيق طفرات في مجال الدعاية والإعلام، والعلوم، والتكنولوجيا. فتأسيس علم واضح المعالم لمجال الدعاية والإعلام، كان من النتائج البارزة في الحرب العالمية الثانية. ومرة أخرى، تمت معاقبة دول المحور بزعامة ألمانيا النازية في الحرب التي استخدمت جميع وأبشع السبل لتحقيق النصر؛ لدرجة أنها لم تفرق بين ساحة الحرب، وأماكن تمركز المدنيين. ولتمويل الحرب، تم الخلط بين موارد الدولة، والميزانيات المخصصة للعسكريين. أسفرت الحرب العالمية الثانية عن تدمير دول المحور بلا رجعة؛ فسقطت الإمبراطورية اليابانية، وتم تدمير الإمبراطورية الإيطالية، التي غيرت المعسكر الذي اتخذته في الحرب العالمية الأولى مع دول الحلفاء، وانضمت لدول المحور. وجاء العقاب لإيطاليا في هذه المرة في شكل تحويلها من امبراطورية إلى جمهورية. وهذا عقاب هين، مقارنة بالعقاب الذي ألم بكل من اليابان وألمانيا اللتين تم احتلالهما.
وبالنظر لأن ألمانيا صاحبة الطفرات التكنولوجية والعلمية غير المسبوقة، فقد تم تحجيمها للأبد، من خلال تقسيمها لدولتين؛ ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية. وكانت ألمانيا الشرقية من نصيب الاتحاد السوفييتي. أما ألمانيا الغربية، فصارت من نصيب دول الغرب بزعامة الولايات المتحدة. ومن أبشع ما فعله الاحتلال السوفييتي-الغربي، كان السطو قبل أي شيء على معامل، ومستندات، وعلماء ألمانيا الذين حققوا الطفرات العلمية والتكنولوجية لألمانيا النازية، والتي هي بالفعل أساس كل تقدم حتى يومنا هذا. ومن المذهل معرفة أن أي تقدم في مجال الطب، والفضاء، والذرة وصل إليه الغرب الآن، كان بالفعل من ضمن الملفات العلمية المنهوبة من ألمانيا النازية. وبسبب امتلاك الاتحاد السوفييتي للعقول المستنيرة الدؤوبة، القادرة على التطوير والتحديث، وكذلك امتلاك الولايات المتحدة الموارد الاقتصادية الهائلة التي تمكنها من شراء أذكى العقول، واستمالة أفضل العلماء في العالم، خرجت كلا الدولتين من الحرب العالمية الثانية قوة عظمى.
وفي ظل الطفرات العلمية والتكنولوجية التي نعيشها حالياً، يجب أن يتنبه العالم لوجود خطر وشيك يهدد حياتهم، وليس نعيما جارفا كما هو مأمول. فالتقدم يقابله جشع هائل يضع حياة المدنيين في أدنى مرتبة، من أجل تحقيق هدف واحد: «الزعامة». والسؤال الوشيك، ما هي دول معسكر الحلفاء هذه المرة، وما هو المعسكر المعادي، وما هي الدول المراد تدميرها؟ التقدم حالياً، على أشده، والتناحر والصراع وصل أوجه، والحرب ليست بعيدة.

٭ كاتبة مصرية



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى