د. عبد الباسط مراشدة - الوجودية في قصص أحمد الزعبي القصيرة

مقدمة
لا ينفك الأدب والنقد يتطور مع محاور الحياة ارتقاءً وهبوطاً، إذ يشكل حلقة في سلسلة معقدة مع الظروف المكونة لسيرورة الحياة بمجملها، فللأدب والنقد علاقة بالفلسفة والعلوم الإنسانية كافة، فله علاقة بالنظرية السياسية والاجتماعية والفكرية والحروب وغيرها الكثير.
ولا يحد الأدب حدود سياسية أو جغرافية فهو كمثل العلم الإنساني له حضور تراكمي وله حضور في مفهوم التأثر والتأثير ابتداءً مما قبل الميلاد وحضور المحاكاة في الفلسفة والأدب وانتهاءً بعصرنا مروراً به إلى المستقبل.
ولعل القصة القصيرة والتي تشكل جانباً من الأجناس الأدبية لعلها تشكل حضوراً مماثلاً في تطورها وتأثرها بظروف الحياة المتنوعة، وقد ظهرت القصة في الأردن في مراحل الولادة والريادة ثم انتقل بظروف سياسية وظروف حرب 67 وظروف التثاقف مع الغرب والشرق انتقلت من بنيتها الفكرية والفنية إلى تطور تقني فني وظهرت متأثرة بحركة الحداثة مما جعلها تتكئ على أساليب فيها تجديد وقامت فيما يعرف باسم التجريب.
ويعد القاص أحمد محمد منصور الزعبي من رواد حركة التجديد في القصة القصيرة في الأردن، إذ قامت قصصه ومجموعاته بطرح نفسها في سيرورة القصة في الأردن على الأقل، وتعد مجموعاته القصصية من مثل البطيخة، والبحث عن قطعة صابون، وعود الكبريت، وشيبوب، وخيل الحكومة وغيرها تعد أساسية في حركة إظهار جوانب فكرية وفنية متميزة ويعد معمار النص القصصي عنده له ميزة خاصة يعرف لديه ضمن أسلوب خاص وطرائق معمارية فنية وتقنية وفكرية خاصة أيضاً.
وستقوم هذه الورقة بإلقاء الضوء على بعض قصصه القصيرة التي تظهر الجانب الفلسفي والإنساني الخاص بكثير من أعماله القصصية، إذ ستركز على محورية البعد الفلسفي الإنساني المعروف بالوجودية.
الوجودية: التأصيل والمفهوم:
دخلت الوجودية إلى العالم العربي بعد حضور لها في أوروبا وأمريكيا، وقد ظهر أعلام أجانب كثر لهم أسماء شهيرة فيها مثل: جون بول سارتر وألبير كامو وهنري ميشو ودوستوفسكي وغيرهم.
ثم انتقلت العدوى لأسباب كثيرة إلى الواقع العربي فظهرت الوجودية إذ "أسست مدرسة وجودية عربية حديثة ورؤية التنظير والتطبيق في غمار تأصيل الحداثة في الأدب والشعر العربي، وما ورائيات الحداثة (للتأسلف والتمغرب) شيدت البناء العلوي والسفلي للأدب الوجودي العربي الذي تتبلور فيه المفاهيم الوجودية، مثل الفراغ والعبث والملل والخوف والقرف واللامعقول والتوتر والتمزق والاستلاب وهدم وتوكيد الذات وتأصيل الوجود والاختيار الحر والحرية النهائية"(1).
والوجودية عند سارتر هي "عبارة عن خروج الفرد من حالة الخمول البدائي بواسطة الثورة النفسية الناتجة عن القلق واليأس إلى جو من الحرية المطلقة يستطيع فيه أن يشكل حياته بمحض إرادته متحملاً المسؤولية كاملة"(2).
وهي عنده أيضاً تعمل على فهم الإنسان... وهي تملك إرادة تعمل جهد الإمكان لإدراك الحقائق الذاتية الإنسانية ووضع الإنسان أمام مصيره وجهاً لوجه وعدم ربطه بأية قيود تحد إنسانية... (3).
إن مفهوم الوجودية هو مفهوم قائم على إطلاق إنسانية الإنسان كاملة دون أي قيد ديني أو أخلاقي وإنما يواجه الإنسان وجوده بردة فعل مطلقة الحرية والإنسان وفق هذه الرؤية "هو مشروع يعيش بذاته ولذاته"(4).
والوجودي في ممارسة وجوده يتبين ألواناً من الأحوال الوجودية: اليأس والقلق والتوتر والقرف والغثيان والملل والاستسلام (مما اعتاد المثاليون لتسميته بالرؤية الشيطانية)... (5).
وهذه الأحوال وغيرها تظهر بشكل واضح في الأعمال الإبداعية التي تتخذ الوجودية محورية فيها، إذ تحضر هذه الألوان من الأحول فيها كما يظهر العبث والسخرية واضحة أيضاً فيها، وكأن العبث والسخرية يشكل محورية أيضاً.
وجاء العبث بمفهوم اللعب وعدم الجدية(6) أو العمل غير المجدي وقد جاء بهذا المعنى في القرآن الكريم (أفحسبتم أنا خلقناكم عبثا) والعبث في المعاجم العربية يتاقطع مع معناه ودلالته الوجودية، وقد يكون القول بعبثية الحياة وتجرد الكون من كل مغزى شيئاً قديماً عرفه الحكماء ورددوه الفلاسفة ولكن هذه الحكمة غالباً ما كانت تتخذ صورة النهاية التي ينتهي عندها الفكر أو الخاتمة التي ترسو على شاطئها التجارب، أما البيركامي فيعدها بداية المعركة الفلسفية أو مطلع الفكر الحر(7).
وكأن مفهوم العبث وخاصة حرية الفرد في مواجهة مصيره تعد جزءاً أساسياً في المفهوم الوجودي للإنسان ووجوده ذلك الوجود المحايد عن مفهوم الالتزام الكلاسيكي أو مفهوم الالتزام بالديانات والمجتمع، "فلا رسالة للإنسان ولا هدف يسعى إليه، النظام والفوضى سيان..." (8)، فما دام أن مصير الإنسان آيل إلى الزوال فنهايته الحتمية هي الموت.
لذلك فقد عر الوجوديون عبر عبثهم بإطار السخرية لأنهم غير قادرين على مواجهة الواقع الذي حتميته الموت بشكل جاد، فقد جاءت السخرية والعبث وجهان لمضمون أو دلالة واحدة، فقلق الإنسان من تحرك الزمن ومصير الموت مدعاة لعدم قدرة إيقافه بشكل جاد ملتزم، لذلك نجد العبث والسخرية أساسية في الأعمال الإبداعية الوجودية، والسخرية تتخذ أشكالاً متنوعة على مستوى تشكيل النصوص. وتعد السخرية أو الكوميديا السوداء في بعض المرات من طرائق أو تقنيات النصوص لديهم.
الوجودية وقصص الزعبي:
تعد مؤلفات أحمد الزعبي الدرامية الرواية والقصة من الأعمال الإبداعية التي تتكئ في جانب واسع منها على مفاهيم الوجودية وامتداداتها وممارساتها. وإن كانت لا تعدم الحضور الاجتماعي والسياسي وغيرها من المحاور الإنسانية الواقعية أيضاً، غير أن البعد الوجودي والسخرية والعبث الوجه الأوضح في كثير من رواياته ومجموعاته القصصية، وقد حظيت أعمال الزعبي القصصية خاصة عناية بعض الباحثين الذين ركزوا قراءتهم النقدية عليها وخاصة على مجموعته المعنونة بالبطيخة. وقد حضيت هذه المجموعة بإشارات واضحة إلى إتكائها على الوجودية يقول باسل رفايعة معلقاً عليها "الإنسان في هذه الحياة لا يعرف شيئاً، جاء إلى هلامية من الطلاسم واحترق في مجرة التيه وانسدلت عليه منافذ الرؤية ووجد أنه محض فكرة ومجرد فكرة لا يعرف المشيمة التي تحيط به كيف يأتيه الغذاء؟ ما محددات وجوده؟ وما هي الأبعاد الديناميكية لمحركته واتجاهاته؟ ... كل هذه الرؤى الضاربة في الضباب ملامح عامة في مجموعة الزعبي (البطيخة)" (9).
وهي الملامح ذاتها التي تشكل القصة القصيرة في المجموعة التي عنوانها – أيضاً – البطيخة(10) إذ تثير هذه القصة أبعاداً وجودية متنوعة وتظهر من خلال تقنيات القص وأساليب سردية وفنية واضحة. يقول السارد فيها:
"بلا هدف كنا نتمشى في شوارع المدينة الواسعة، نتأمل الإعلانات ذات الأحرف الأنيقة اللامعة الضخمة المرتفعة في السماء، والبناينات الشاهقة والسيول البشرية التي يغص بها قلب المدينة الكبيرة، كنا مجموعة من الشباب والبنات تسير ببطء كصائم يقتل الوقت، ورغم أننا لم نكن متجهين إلى مكان محدد فقد كنا نمضي في اتجاه واحد. كانت جماهير المارة المزدحمة تختلط بنا حيناً وتفرقنا حيناً آخر ونتصادم في أحيان أخرى. كانت فرصتنا للتجمع معاً وتبادل نوع من الحوار المتقطع أو التعليقات الطارئة هي إشارات المرور، حيث كنا نقف ويقف كل الناس معنا أيضاً للحظات قصيرة ثم ننطلق إلى الجهة الأخرى من الشارع دون أن ننهي نقاش أي موضوع طرحناه أو تعليق استجد في الطريق. في تلك اللحظات، في قلب المدينة، وفي الشارع الرئيسي الواسع شاهدنا بطيخة ضخمة تتدحرج ببطء وقد لفتت انتباهنا وانتباه الجمهور المزدحم حولنا، توقفنا قليلاً...
ونظرنا إلى البطيخة المتدحرجة فوجدنا أن حركتها تزداد سرعة ثم رأينا بضعة أفراد من الناس يغذون الخطى ثم يهرولون وراءها. وكلما ازدادت سرعة البطيخة ازدادت حركة الناس وازداد ركضهم. كنا نراقب المشهد بدقة واستغراب، بعد قليل وصلت البطيخة والناس وراءها إلى انحدار حاد في الشارع الواسع فازدادت تدحرجاً وتضاعف جري الناس. انضم أناس آخرون من المارة إلى الراكضين وراء البطيخة وراحوا يتسابقون نحوها في المنحدر الطويل. لمحنا أمراً غريباً في تلك اللحظات في الشارع المزدحم إذ اتجه كثيرون من المارة إلى حيث تتدحرج البطيخة ثم غير آخرون وجهتهم واستداروا ليركضوا وراء البطيخة التي أصيبت في هذه اللحظات بمس من الجنون وغدت تتدحرج في المنحدر بسرعة فائقة. أخذ الحماس بعضنا فركضنا مع الراكضين وراء البطيخة الطائرة.
ولعل العتبة الأولى(11) للقصة توقض هذا الحس المصاحب لدلالات وجودية في النص، البطيخة التي شكلها كروي يشبه الأرض أو ربما يشبه الكون، هذه الإستدارة التي لا بداية لها إلا نهايتها وكأنها إيماءة إلى الدلالة الكلية والمحتوى المحوري للمضمون الوجودي وهو الوجود.
البطيخة التي لا يعرف ما في داخلها لها حضور في القشرة غير أن لبها يترك المتلقي باحتمالات متنوعة تشبه الحياة التي يقع فيها الإنسان نهباً أمام حضور مغلق مريب يتوه في معرفته الإنسان بين درجات لونها وطعمها ومضمونها...إلخ. تماماً كأنه يتحدث عن المضمون الوجودي الذي يشكل المحور الأساسي في القصة.
البطيخة المعرفة بأل التعريف وكأننا نعرفها كلنا لكننا لا نعرفها في الوقت نفسه فأي بطيخة تلك التي لا يمكن أن تعرف، فهي نكرة في مضمونها معرفة بأل العهدية. حيث تترك المتلقي (الإنسان) في حيرة ما بين التعريف والتنكير. إذن هذا الشكل للعنوان لا ينفك يتعالق مع الدلالة العامة للنص القصصي.
يبدأ النص باللاجدوى والعبث وحضور اللاجدوى في المفتتح، يشد المتلقي للولوج إلى النص وهذا الحضور هو حضور عبثي وجودي يقول: "بلا جدوى كنا نمشي في شوارع المدينة الواسعة، نتأمل الإعلانات ذات الحروف الأنيقة اللامعة الضخمة المرتفعة إلى السماء والبنايات الشاهقة والسيول البشرية التي يغص بها قلب المدينة الكبيرة".
هذا التأمل غير المجدي وحركة البطل (المجموعة) والإطالة في وصف الحروف والبنايات إشارة إلى لا جدوى الأشياء فما قيمة أن يتابع باهتمام السارد والمجموعة (لأنه يسرد باسم الجماعة) الحروف والبنايات الشاهقة والسيول البشرية. هذا السرد يتعاضد مع قوله في الجملة الأولى في القصة بلا هدف... فإحساس الضياع والقرف والغربة واضح في دلالات الجمل.
وتجدر الإشارة إلى أن المكان (المدينة) تكاد تكون أساسية في الحيز من أعماله القصصية بشكل عام إذ يظهر الضياع في غير قصة في أن يجعل المكان في عمومية كالمدينة الكبيرة والشارع العام والساحة العامة.
وقد ظهر المكان باتساعه ودون أن يحدد أي مدينة أو أي شارع أو أي ساحة مؤسساً لمفهوم الضياع والغربة، يقول في قصته (البحث عن قطعة صابون) (12): نزلنا من القطار قبل قليل في محطة وسط المدينة الكبيرة.
وقد ظهر المكان الذي لا يُحد في قصته (انتحار علني) من المجموعة نفسها، إذ يشير إلى مكان الانتحار بقوله: انتشرت الجريدة الرسمية الصادرة في صباح اليوم السبت بتاريخ 1/4/1988م الإعلان/ النبأ التالي بخط كبير وعلى الصفحة الأولى:
"أعلن أن المدعو فلان بن فلان... إلخ أنني سأقدم على الانتحار ظهر اليوم، السبت الموافق 1/4/1988م... أرجو حضوركم في الموعد والمكان المحددين:
المكان: الساحة العامة/ الشارع الرئيسي/ وسط العاصمة.
ملاحظة عامة: أسباب الانتحار تعلن في حينها(13).
ومع أن مقدمات النص وعتباته تومئ إلى العبث والسخرية في جانب والمأساة في جانب آخر إلا أن مكان الانتحار العلني هو المدينة (العاصمة) الساحة العامة... إلخ.
وهناك كثير من نصوصه تجعل المكان بمثل ما تقدم من نصوصه القصصية مازجاً إياها بأحاسيس الغربة والاستهجان والسخرية أو ربما الكوميديا السوداء.
والزمان في قصة البطيخة زمان لا حضور له وكأنه غير مهم ولعله أراد أن يعمم التجربة الوجودية على كل الأزمان فأغفلت القصة الزمان إلا في إشارة عابثة إلى الزمن الذي نرغب بإضافته كقتل الزمن في رمضان.
البطيخة القصة تظهر جوانب متنوعة في تشكيلها. وربما يظهر الإنسان فيها بغير إرادة أو ربما يسير بشكل قطيع، فالسارد هو سارد باسم المجموعة ووصفه للإنسان وصف لا حضور للفرد فيه وإنما الهم ربما هو هم الإنسان لذلك لا وجود للأسماء أو الملامح الواضحة، ففي البطيخة هناك سيول بشرية بمعنى الكثرة ولكن لا ملامح لها لا أشكال وحاضرة بشكل هلامي دون وصف. ثم يقول: كانت جماهير المارة المزدحمة تختلط بنا حيناً وتفرقنا حيناً آخر. كانت فرصتنا للتجمع معاً وتبادل نوع من الحوار المتقطع أو التعليقات الطارئة هي إشارات المرور، حيث كنا نقف ويقف الجميع... إذن الإنسان يعيش بقطيع توقفه ليس بإرادته وسيرانه ليس بإرادته وإنما إحساس الغربة هو القائم بين أفراد القطيع، حتى إن الحوار لا يظهر أيضاً على الإطلاق يعمق مفهوم الغربة ويعمق مفهوم الحدث المذهل وهو اللحاق بالبطيخة.
كانت البطيخة المتدحرجة قد انطلقت بأقصى سرعة حتى إن لونها الأخضر قد اختفى وصرنا نلمح شيئاً مدوراً يطير فوق الشارع الطويل المنحدر. كان الناس في أحياء المدينة المختلفة يهبون للركض وينضمون إلى الحشود الطائرة كلما اقترب المشهد من حيهم ورأوا الدنيا كلها تجري وراء البطيخة، وهكذا بدا المنظر كشريط سينمائي: بطيخة مجنونة طائرة بلا لون وبحار من البشر تطير وراءها. شعرت بالتعب من شدة الجري وتلفت حولي فلم أر أحداً من مجموعتي، ولم يطل بحثي عن أفرادها فقد تلقيت دفعة شديدة من أحد الراكضين ثم اصطدمت بآخر، وكنت احتك واصطدم بأجناس مختلفة من البشر.
تتحول البطيخة إلى شيء مجرد لا يعرف لونه لكن الناس ما زالت تركض خلفه فإلى أين سيذهبون وأي مرارة تفضي بالإنسان الذي لا يعلم إلى أين يتجه. ويبدو أن قمة الأحداث هنا تسير وفق تدرج يبدأ ببساطة كمثل كثير من قصصه وينتهي بحدث معقد لا يمكن حله وعلى ما يبدو أن هذا الحدث الذي بدأ ببساطة نوعاً ما قد تحول إلى إشكالية وجودية تثير قلق الإنسان من اندفاعه خلف اللاشيء أو خلف شيء لا يعرف ما هو ولا يعرف أن يتوقف عنه أو ربما لا يمكن أن يتوقف أمام حركة الإنسان القطيع.
وتجدر الإشارة إلى الحركة في النص إذ إن البطيخة متدحرجة على الدوام وكذلك الركض لا يتوقف من قطيع بشري، وكأن النص كله قائم على الاستمرار بالحركة واللهاث حتى أن الفرد (الإنسان) لا يستطيع أن يتوقف أو يلتقط أنفاسه، وكأن الحركة الدؤوبة في القصة تثير مفهوم القلق إذ الحركة لا سكون فيها من بداية القصة إلى نهايتها المفتوحة، ويبدو أن المكان، الشارع أو المنحدر أو المدينة يومئ إلى مفهوم الغربة لأن المكان هنا يشبه الحركة في النص إذ لا يمكن أن يؤدي المكان إلى الراحة أو الاستقرار أو العيش المطمئن.
ومن ملامح الوجودية في أثناء الكتاب الوجوديين هو حدث اللامعقول الذي يعد جزءاً مما يعرف باسم الحدث الغرائبي العجائبي(14).
يقول علي المومني معلقاً على تدحرج البطيخة والحدث: "إن جري البطيخة بسرعة هائلة وجري الناس وراءها يعد غرائبياً وقد أمأ الكاتب إلى أن الناس أخذوا يتدافعون بحماس وإصرار للإمساك بها، مع أن الكثير منهم كانوا يقعون جثثاً بلا حراك... إن الجري وراء البطيخة ما هو إلا جري وراء الحياة فتتحول الحياة إلى طاحونة تصهر كل من يجري وراءها... إن أحمد الزعبي يدين الواقع الذي يحول الإنسان عن إنسانيته فمصير آلة صماء مسولب الإرادة فيما يفعل..." (15).
وهذا الحدث موجود أيضاً في قصته (انتحار علني) حيث يقول الإعلان أو العنوان إلى استهجان طريقة الانتحار يقول السارد: "يتحدث بأعلى صوته: إني قد دعوتكم هنا لأمر هام وهو أمر انتحاري. لم يعتذر أحد هاتفياً وهذا أفرحني، كما أن حضوركم المذهل هذا أسعدني... خلع الرجل حذاءه... شك رجال الأمن بالأمر لكنه قذف بالحذاء فوق الرؤوس المكتظة وتابع الحديث وسط دهشة وهمهمهة الحشود... أما وقد وعدتكم وأتيتم أنتم وأتيت أنا... خلع الرجل نظارته ورمى بها بعيداً فوق الرؤوس... فإني أرى الأمر أصبح في حيز... خلع الرجل كفه اليسرى وقذف بها نحو الناس... في حيز التنفيذ... خلع الرجل ساقه اليمنى وطوح بها بعيداً فوق الرؤوس... ولأن الأمر في حيز التنفيذ... خلع الرجل ذراعه الأيسر ورمى به ... فإني سأقول كلمتي... خلع الرجل أنفه وأسنانه وتفاحة آدمه... ورمى بها... تسمر رجال الأمن في أماكنهم... ذهل الناس وهم يردون عن رؤوسهم ووجوهم الأشياء التي يقذفها الرجل الغريب الأسطوري".
ويظهر الحدث اللامعقول أو الخوارقي كما يسميه كمال أبو ديب في جل أعمال القاص ومن ذلك ما جاء أيضاً في نصه (عود الكبريت) من مجموعته عود الكبريت(16)، إذ يشتعل عود الكبريت ويلتهم كل الأشياء ولم يستطع الطلبة في الجامعة أو في المحافظة من إطفائه، يقول القاص في نهاية قصته: "الآن وقد انقضت نصف ساعة على موضوع الحريق، فإن الجهات المختصة قد أبلغت جهات أكثر اختصاصاً منها بالأمر، وقد طلب من كل الإطفائيات في المحافظة وفي محافظات أخرى أن تهرع بالسرعة القصوى إلى مكان الحادث، بسبب خطورة الأمر واستفحال الحريق، وصدرت الأوامر بإبعاد الناس عن مكان النيران، واتخذت الاحتياطات اللازمة لمنع انتشار النار في مرافق الجامعة والمدينة. وفي هذه اللحظة ما تزال الحشود ترتقب وتنظر بخوف واستغراب ما سينتج عن هذا الأمر. وما تزال النيران أيضاً متشعلة بشكل مخيف".
وتأتي نهاية البطيخة القصة مفتوحة لتتناسب والمعمار الفني والفكري للنص القصصي ولتشكل إشارة في دلالات النص التي تومئ إلى رمزية البطيخة تلك الكرة المستديرة التي لا يعرف لونها وما كنهها وتجعلنا ننطلق خلفها وكأنها تشبه الدنيا التي لا نتوقف بملاحقتها يقول السارد: "كان العالم يركض والبطيخة تركض، يسقط أناس ويبدأ آخرون من جديد ولم يكن يلوح في الأفق أن الناس سيتوقفون عن الركض أو أن البطيخة ستخفف من دحرجتها أو أن هناك محطة للراحة أو التوقف أو التنفس".
خاتمـــة
لقد حضرت عناصر القص في إطار من العلاقات الداخلية ضمن بنية وتشكيل داعم للدلالة العامة لنص القصة (البطيخة)؛ فحضور المكان والزمان: المكان المدينة والضياع والزمان المفتوح غير المحدد الذي يعضد المفهوم الوجودي كان حضور ضمن دلالة فيها إشارة إلى الفكر الوجودي المحوري في النص.
وقد ظهرت الشخصيات الهلامية التي لا تملك أسماء ولا ملامح وتتحرك بشكل قطيع ومجبورة على التحرك وليس لها إرادة في التوقف جاءت مشاركة للمفهوم الوجودي وتتعلق مع بيئة النص (الزمكان).
ولم يكن الحدث الخوارقي بأبعد من هذا التعالق حيث حضر وهو سمة مصاحبة للوجودة ظهر وفق قلق وأزمة تشكلت في إطار إظهار أزمة الإنسان وفق بنية أسماها الندوي بالرؤية الشيطانية, ثم جاءت النهاية المفتوحة لتجعل الحدث مستمراً مومئة بذلك إلى واقع الإنسان ومعاناته التي لا تنتهي. ولم تكن الحركة للبطيخة والإنسان وهي أساسية في الحدث إلا إشارة أخرى تومئ إلى الدلالة العامة المفعمة بالقلق.
إن تشكيل النص عند الزعبي في بطيخته يقود بعضه إلى بعضه وفق لغة بعيدة عن الشعرية إلا أنها لغة تحمل طاقة تعبيرية موحية، فيها من الترميز والإيحاء ما فيها.

الهوامش:
(1) الندوي، محمد ثناء الله، الاتجاهات الوجودية في الشعر العربي الحديث، مطبعة جامعة عليكرة الإسلامية، الهند، 2007م، ص(7).
(2) سارتر، الوجودية، مذهب إنساني، ترجمة كمال الحاج، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، 1983م، ص(14).
(3) سارتر، ما الأدب، ترجمة محمد غنيمي هلال، دار العودة، بيروت، 1984م، ص(132).
(4) الأحمدي، غازي، الوجودية فلسفة الواقع الإنساني، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1964م.
(5) الندوي، محمد ثناء الله، الاتجاهات الوجودية في الشعر العربي، ص(IV). وفي الكتاب المذكور تنظير وافٍ لمفهوم الوجودية بأنواعها.
(6) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، د.ت، مادة (ع ب ث).
(7) كروشكانك، جون، البيركامي وأدب التمرد، ترجمة جلال العشري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م، ص(14).
(8) عبود، حنا، مسرح الدوائر المغلقة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1978م، ص(139).
* كل ما تقدم يبني بناءً مضاداً للفكر الإسلامي القائم على الجدية في مواقف الحياة ولعل قوله تعالى يؤكد هذا المعنى، قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني".
(9) الرفايعة، باسل، نافذة على الأدب (بطيخة) الزعبي، صحافة اليرموك 14/3/1987م إربد- الأردن. وقد علق سمير استيتية أيضاً على المجموعة بمثل هذه الملامح إذ قال: "إن هذه المجموعة تعالج قضية وجود الإنسان أولاً وأخيراً فهي لا تعالج قضية بمعنى معين أو فرد معين بقدر ما تعالج صورة الإنسان من جميع جوانبه السلوكية والنفسية وبما أنها كذلك فقد انعدمت الشخصيات في هذه المجمنعة". وانظر أيضاً قلعجي، إنصاف، تأملات في البطيخة، جريدة الدستور، 20/3/1987م، عمان – الأردن.
(10) الزعبي، أحمد، البطيخة، مجموعة قصصية، مكتبة الكتاني، إربد، 1987م، ص(5-8).
(11) البطيخة، ص(5). ومفهوم العتبات هي ما يسمى أيضاً بالنص الموازي الذي يتصدر الأعمال الإبداعية ابتداءً من العنوان وما قبل العنوان ما يمكن أن يكون في صفحة الغلاف وانتهاءً بصفحة الغلاف الخلفية وهناك مصطلحات متشابهة له "مثل المطلع الافتتاحية والمقدمة والتنبيه والتوطئة والتمهيد والمدخل والإهداء والشكر..." وهي عند جيرار جانيت وياكبسون من النصوص الموازية". انظر: لحميدان، حميد، عتبات النص الأدبي، مجلة علامات، م2، ج46، 2002م، ص(8). وانظر أيضاً، ياكبسون، رومان، القضايا الشعرية، ترجمة محمد مبارك، الدار البيضاء، دار توبقال، 1998م، ص(93).
(12) الزعبي، أحمد، البحث عن قطعة صابون (مجموعة قصصية)، مكتبة كتاني، إربد، 1987م، ص(50).
(13) الزعبي، أحمد، انتحار علني، ص(16).
(14) الغرائبي والعجائبي، يؤكد الباحث أن العجائبي هو التردد الذي يحسه كائن لا يعرف غير القوانين الطبيعية، فيما بالنسبة إلى مفهومين آخرين هي الواقعي والمتخيل، تزفين، تورودون، مدخل إلى العالم العجائبي، ترجمة الصديق بو علام، مراجعة أحمد برادة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 1994م، ص(19). وانظر أيضاً علام، حسن، العجائبي في الأدب من منظور شعرية السرد، الدار العربية للعلوم ناشرون، عين التينة، بيروت، ط1، 2010م، ص(32-33)، "العجيب: وهو ذلك النوع من الأدب يقدم لنا كائنات وظواهر فوق طبيعية تتدخل في السير العادي للحياة اليومية فتغير مجراه تماماً. وهو يشتمل على حياة الأبطال الخرافيين الذين يشكلون مادة للطقوس والإيمان الديني مثل أبطال الأساطير...". وهناك كتب كثيرة تحدثت عن مفهوم الغرائبي والعجائبي.
(15) المومني، علي محمد، الحداثة والتجريب في القصة القصيرة الأردنية، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2009م، ص(183).
(16) الزعبي، أحمد، عود الكبريت (مجموعة قصصية)، منشورات مكتبة عمان، 1985م، ص(44).

قائمة المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
1- المصادر:
الزعبي، أحمد، عود الكبريت (مجموعة قصصية)، منشورات مكتبة عمان، 1985م.
ــــــ البحث عن قطعة صابون (مجموعة قصصية)، مكتبة كتاني، إربد، 1987م.
ــــــ البطيخة (مجموعة قصصية)، مكتبة كتاني، إربد، 1987م.
2- المراجع:
ــــــ تزفين، تورودون، مدخل إلى العالم العجائبي، ترجمة الصديق بو علام، مراجعة محمد برادة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 1994م.
ــــــ سارتر، ما الأدب، ترجمة محمد غنيمي هلال، دار العودة، بيروت، 1964م.
ــــــ الوجودية مذهب إنساني، ترجمة كمال الحاج، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، 1983م.
ــــــ عبود، حنا، مسرح الدوائر المغلقة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1978م.
ــــــ علام، حسن، العجائبي في الأدب من منظور شعرية السرد، الدار العربية للعلوم ناشرون، عين التينة، بيروت، ط1، 2010م.
ــــــ كروشكانك، جون، البيركامي وأدب التمرد، ترجمة جلال العشري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م.
ــــــ ابن منظور، لسان العرب، دار صادرن بيروت، د.ت
ــــــ المومني، علي محمد، الحداثة والتجريب في القصة القصيرة الأردنية، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2009م.
ــــــ الندوي، محمد ثناء الله، الاتجاهات الوجودية في الشعر العربي الحديث، مطبعة جامعة عليكرة الإسلامية، الهند، 2007م.
ــــــ ياكبسون، رومان، القضايا الشعرية، ترجمة محمد مبارك، الدار البيضاء، دار توبقال، 1998م.
الدوريات والصحف:
ــــــ لحميداني، حميد، عتبات النص الأدبي، مجلة علامات، م2، ج46، 2002م.
ــــــ استيتية، سمير، مناقشة المجموعة القصصية (البطيخة)، صحافة اليرموك، إربد، 7/3/1987م.
ــــــ الرفايعة، باسل، نافذة على الأدب (بطيخة)، الزعبي، صحافة اليرموك، 14/3/1987م.
ــــــ قلعجي، إنصاف، تأملات في البطيخة (مجموعة قصصية)، جريدة الدستور، 20/3/1987م.



د. عبد الباسط مراشدة
قسم اللغة العربية ـ جامعة آل البيت


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى