أمل الكردفاني - السجناء؛ حكاية حقيقية

▪كان الخريف يمسد السماء برمادية مرتعشة كقلب حبيب تجاوره حبيبته. الأجواء تتقلب بين برودة وقليل من الفتور، والكثير من برق بلا رعد، وزخات متفرقة من ديم الغيوم الكالحة. لقد إنتابني شعور جميل في ذلك الوقت، وراودتني عن نفسي فكرة تجارية، ليس لتدر بعض المال، وإنما لتتوسع وتنتشر. كما حدث لفكرة فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرهم. لم تكن الفكرة عبقرية بأي حال، ولكنها كانت كذلك بفضل خمر الأجواء الخريفية، فشرعت فيها.
كانت ببساطة، انشاء قروب لتبادل السلع على الواتس. انشأت القروب، واضفت القليل ممن أعرفهم، ولكن خلال أسبوع فقط بلغ أعضاء القروب اكثر من مائة وثلاثين عضواً، وأصبحت أتلقى طلبات الضم من هنا وهناك. تحرك القروب بسرعة، وتحول كالعادة إلى القفشات والنكات، والقليل من تبادل السلع بالبيع والشراء، قليل من الإعلانات وكثير من صور جمعة مباركة ونكات وفيديوهات. وتعرف الكثير من الاعضاء على بعضهم البعض.
لسبب لا أعرفه حتى الآن، قمت بوضع سيدة عجوز كمشرفة، وهي امراة لا علاقة لها بالتكنولوجيا إلا ما ندر، وتكاد لا تدخل أبداً إلى القروب. ربما كزعيم دكتاتوري لم أشا تعيين نائب لي قد يتآمر لينقلب على حكمي..، لا أعرف ولا أتذكر السبب وراء عدم تعييني لمشرف.
قبل الثورة ببضعة أسابيع، انهار هاتفي الجوال فجأة. وبطريقة أو بأخرى أصبحت خارج القروب، وأصبح القروب بلا مشرف.
وهكذا بدأت حكاية السجناء.
حاولت كثيراً ان اتصل بتلك المرأة، لكنني لم اوفق، فنسيت امر القروب تماماً، ولكن الموضوع لم يكن بتلك البساطة. فإبان الثورة، وما حصل من انقسامات سياسية، دخل أعضاء القروب في صراعات محتدمة. بدأت الشجارات ولم تنتهِ. ولا أحد يستطيع طرد الآخر من القروب. فخرج العديد من الأعضاء من تلقاء أنفسهم، وبقى عدد آخر منهم. لا أعرف تحديدا كم عددهم الآن، لكن الصراعات احتدمت وبدأ البحث عن كردفاني، تلقيت رسالة تطلب مني العودة للقروب لأنه أصبح مولد وصاحبه غائب. فأخبرت المرسل بأنني لست مشرفاً ولا أستطيع إضافة نفسي. ولكن هناك سيدة كانت معي في الإشراف. حاول اعضاء القروب الإتصال بتلك السيدة، لكن يبدو انهت لم تهتم بالرد. وتحول القروب لهايدبارك، اختلط فيه الحابل بالنابل. وأصبح المسجونون فيه بلا سجان، ولا حارس، ويبدو أن العالم من حول ذلك السجن قد ضرب بقنبلة نووية ولا زالوا حتى اليوم في صراعات داخل القروب.
لقد تخيلت لو أن واقعنا لا يختلف البتة عن وضع المسجونين داخل ذلك القروب.
إنني اتخيلهم صغار الحجم بمقاس علبة كبريت، هم داخل القروب، يختزلون صراع الدولة داخله، ويمثلون شرائح لكل العينات الثقافية والسياسية والمجتمعية والمهنية المحتملة..
نحن سجناء في هذا العالم، ورغم ضيق حيز وجودنا، فنحن لا نلاحظ ذلك، لأننا نرى السماء ممتدة بلا نهاية، والأرض لا يمكن حفرها حتى مركزها ونواتها...لكننا بالفعل نعيش في حيز ضيق حقيقي وهو أجسادنا، وحيز إفتراضي أوسع وهو كل ما هو خارج أجسادنا...
وددت لو انشأت قروباً آخر بذات الإسم ليخرج جميع الأعضاء من القروب القديم ويدخلوا في القروب الجديد، لكنني متأكد أنهم لن يفعلوا...فرغم ما تبدوا عليه بساطة الفكرة، لكنها تتجاهل ارتباط الإنسان بالمكان، ذلك الإرتباط النفسي، الذي يجعل ممن أُطلق سراحه بعد عشرين سنة من السجن، يلتفت ناحيته كلما مر به وهو داخل سيارة...إنه الحنين..الحنين حتى إلى السجن القديم..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى