وئام حمزة - ذكرى لم تحدث.. قصة قصيرة

هزيل وشاحب، له وجه نحيل، عينان كبيرتان. يرتدي نصف ابتسامة، إذا أتمها فزع الناس أو ظنوه شبحا، فلا يجودون له بشيء. يميل إلى جانبه الأيسر، وعلى جيده الصغير آثار عميقة وكأنها آثار حبال، أخبروه أنها ربما وحمة، وهذا يسعده فالوحمة تعني أنه مولود كما بقية البشر والمخلوقات وأن له أما في مكان ما، وإن صعب عليه التخيل. ولولا ذلك لظن نفسه “آدما” مخلوقا بكلمة “كن”! هو كائن ليلي، له في العتمة سيد يستعبده، لا يظهر إلا حين ينتصف الليل، لليل كائناته!

****

خرجت اليوم مبكرا جدا. لديها مقابلة عمل. للصباح الباكر أيضا أشخاصه وكائناته. الغريب أنه كان من كائنات الصباح التي تتجنبها، أو لنقل أنه بقايا كائنات الليل.

حاولت تجاوزه. تجنبت النظر إليه، كما تفعل دائما. يفتش في صناديق القمامة، يغوص فيها حتى ركبتيه، يحمل كيسا يجمع به ما يصلح للبيع أو للأكل.

شاحب جدا، وهزيل جدا. ليتها التزمت خوفها، ولم تخرج مبكرا اليوم! لم تستطع ألّا تنتبه، ألّا تكترث، فهذا الخائض في القمائم، في برد الشتاء، كان يحمل وجهها. وجهها كما تعرفه، كما تحبه، وكما تكرهه!

****

كان يحمل وجهي! نعم يحمل وجهي؛ يجوب به الطرقات مستجديا.

لطالما تجنبت النظر في وجوه المتسولين. تجنبت رؤيته يفتش صناديق القمامة، ويخبئ الخبز الناشف في جيبه. تجنبتُ أن أنظر إلى قدميه الحافيتين، في قيظ الظهيرة، وجسده بالكاد مستتر في عز البرد والريح.

باغتني وجهي، وجهي أعلى كتفيه! كيف وصل إليه! أيحمل آخرون وجهي يستجدون به! عاودتني حينها ذكرى شيء لم يحدث، لم يحدث أبدا.

ماذا لو أنه وجهي فعلا؟ ماذا لو أن الكون فكاهي لهذا الحد؟ ماذا لو أن ما لم يحدث، حدث بالفعل؟

لم أعد أقوى على النوم، أو التفكير سوى به، يخبئ الخبز الناشف ويبحث بين القمائم.

هل يكفي ما أعطيه من العملات، من الملابس، من شعور لحظي بالاهتمام؟

النوم تعذيب. والسؤال مرسوم على وجهي طوال الوقت.

****

يحبها وهي تمعن النظر إليه، وتمسك يده أحيانا، تتأمل الوحمة على جانب عنقه، في عينيها اعتذار يشبه اعتذار البسطاء؛ حين يعطوننا أقل مما يرغبون، أو مما يظنون أننا نرغب.

كانت حنونة كما يفهم الحنان؛ عملات ورقية وخبز طري.

****

حتى حين أوقفها، يستجديها، لم تلتفت إليه. هي لا تهتم، كائنات كثيرة لا تشبهنا، ليس علينا أن نرهق ضمائرنا بعذاباتها. وبنا فائض عذابات.

****

تجنبته تماما. حتى حين وقف أمامي، حين مد يده؛ ومددت يدي له بعملة معدنية: تجنبت أن ألمسه، أن أُحس خشونة جلده وهو بعد طفل. عيناه الكبيرتان، نصف ابتسامته، الأنف والأذنان، تجنبته تماما.

****

لم تتمكن من النوم إلا حين أخبرها أنهم ينامون في مكان دافئ، لا يضيرهم البرد ولا الحر، قدمت خيارا أفضل: شارعا كبيرا متسعا، يزداد فيه مدخوله.

حين انتصف الليل، قادت سيارتها. وصلت إليه. كان ممددا على الطريق. كانت مسرعة، تأكدت أنه هو، رجعت بسيارتها، زادت سرعتها. دهست الفتى جيئة وذهابا. تأكدت أنه لم يفتح عينيه، لم يرها، تأكدت أن أنفاسه توقفت. وفي الذكرى عنق صغير منكسر، يعود للحياة.

****

رب إنها وضعتها أنثى!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى