نهى الطرانيسي - في ظلال الصَّفْصَاف.. قصة قصيرة

القرية تبدو ضئيلة في نظر القادم من بعيد، نُسجت جميعها من لون الحياة الأخضر.. لا تكاد تفرق بين الأرض والشَّبَكة المورقة المتدلية من الشرفات.. مع زوال لهيب الشمس ورضاها عن العالمين تتعالى نغمات لا يَعِيها من بعيد إلا ذوو القلوب الخضراء التي لم تلمَس الدنيا قلوبَهم بأظافرها بعدُ.
(اتفرج يا سلام.. قَرّب أنت وهي) نادى دافعًا أمامه صندوق الحكايا، مسرح على الرغم من ضآلته وضآلة المشاهدة من فوّهة ضيقة، فإن قطع الرسوم تتوالى متزامنة مع سرد المنادي، يرسم لك خيالُكَ مسرحًا أوسع، وأحلامًا لا تفارق روحك.
تتهافت الأرجل الصغيرة وتتعالى الضحكات، يترجى الصغار أمهاتهم للفوز بدراهم معدودة لمشاهدة صندوق الحكايا.
يتسابقون للفوز بالمقعد الأول تحت أشجار الصفصاف التي تتحرك أوراقها لتسمح بمرور نسيم شفاف يروي ظمأ الأطفال قبل بدء الحكاية:
(كان ياما كان.. ولا يطيب الكلام إلا بذكر النبي عليه السلام.. يحكى عن ثلاثة من الفرسان الأشدّاء الشجعان، سيوفهم ذوات نصل شديد الحدة تقسم الشعرة إلى نصفين.. في وقت الحرب والطّعان تُذكر أسماؤهم، فهم حاضرون في الصفوف الأولى دائما.. كم توالت حروب إلى أن عمّ السلام واستقرت الأوطان.. تزوج الفرسان الثلاثة ومُنحوا هبة الدنيا من المال والبنين والبنات.. وفي يوم لم تطلع عليه شمس ضَحوك، ظهر عدوّ غريب.. أعداء وجوههم، وإن عَلَتها بسمة الرياء، إلا أنها تنبئ بما هو أسوأ، وهيئتهم قطع من الليل المظلم، يمشون بانحناء مقيت، لا يُخلفون خطواتهم، يعرفون أين مَوطِئ أقدامهم.. وصلت أخبار ذاك العدو إلى الفرسان الثلاثة، فاجتمعوا بأولادهم حتى يجدوا حلا لدفع هذا العدو الأسْوَد!!
قال الفارس الأول: ننظم جيشًا فنقطع دابر الأعداء. وردّ الثاني: نحاورهم لنعرف ما وراءهم ونجنّبَ بلادنا ويلات الحروب. وأما الثالث فكان صامتًا، وبعد بُرهة قال: سأخبركم بخطتي بعد أن أنتهي منها ...)
صاح المنادي بانتهاء الحكاية وسط امتعاض الأطفال، فقد مرّ الوقت سريعًا، وصاحوا: (ما الخطة؟)
غابت الشمس على استحياء خلف شجرة الصفصاف التي أسدلت أوراقها مُعلنةً وقت التفكير والتأمل..
توالت خُطا منادي (صندوق الحكايات) على القرية، على الرغم من ظهور الشيب الحي بين خصلات شعره، وانحنائه للأمام قليلا.. ما زال يسرد الحكم والعظات بين الحكايات، ويترك للأطفال فرصة إيجاد النهايات! كان يخبرهم أنه كبِر ولم يعد يعرف الحلول.. (أما أنتم فعقولكم فَتِيّة، جِدُوا النهايات وأخبروني).
توالت السنون مثل عشية او ضحاها، فأزهرت العقول الصغيرة عن رجال وفتيات، كلما مروا على صاحب المسرح الصغير تبسموا له حبًّا واحترامًا وشوقًا لزمن الطفولة، كان يمثل لهذه القرية رمز السلام.
خلا مكان صاحب المسرح في ظلال شجرة الصفصاف، وتساءل أهل القرية متعجبين: تُرى هل ذهب بحثًا عن الرزق في القرى المجاورة؟ ام خانته قدماه فسقط ومات غريقًا في مجرى النهر بجانب شجرته المعهودة؟ كثرت التساؤلات، وملأت الحيرة قلوب الأطفال حزنًا، وتملك العجب الكبار.
ظلت ذكرى صاحب المسرح لا تفارق القرية سنين طويلة، لم يستطع أحد ملء هذا المكان خلفه، وكلما حاول أحدهم شغل هذا المكان انفضّ الأطفال عنه لاستخفافه بعقولهم.. كانوا كلما ذكر أمامهم صاحب المسرح الصغير ترحموا على ذكراه العابرة البعيدة، ودعوا له بالحفظ، وتمنوا لو يلقونه قريبا.
أرجُلٌ شاحبةٌ مليئة بالبقع الزرقاء، ولحية تشبه لحى الزاهدين، دل جفاف الشفاه على أنها اتخذت هذا الطابع منذ عهد ليس بالقصير، نحول الوجه تعادل مع عظام الصدر البارزة من الثياب الممزقة.. وُجِد مُلقًىً تحت شجرة الصفصاف العتيقة، فاقدًا لمهارة ترتيب الكلمات، لا يتذكر اسمه، الشيء الوحيد الذي ردده بحروف مقطعة وصوت نم عن إعياء أذهب أحباله الصوتية إلا الضئيل منها كان قوله (هُـ...ـمْ سَـ...وَادْ)!!
لم يعِ أحدٌ من القرية ما يقصده، حملوه وقاموا على رعايته، لم يستعد ذاكرته، ولم يفق لسانه من كبوته، كان صاحبَ المسرح المفقود! تحلّق الشباب حوله، وأخذوا يسترجعون حكاياه، تفتق ذهن أحدهم عن خاطر مفاجئ: تُرى هل يكون الناس ذوو السواد هم ذلك العدو الغريب الذي كان يقصّه علينا في حكاياته القديمة؟!.. لاقى الخاطر موافقة الحاضرين!
كتهافُت أرجلهم في الصغر، وتطايُر ذرات التراب من حولهم، تسارعت الأرجل لإحضار المسرح القديم وإصلاحه.. أجلسُوا صاحب المسرح، وشرعوا في تعليمه الحكمة الذائبة في الحكاية ذاتها التي تغذّوا عليها في الصغر، وإن استعصى عليه النطق باللسان.. يكفي أن عقله قد عاد إلى التفكير والتأمل من جديد.. فذلك هو جهادُه القديم!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى