خالد جودة - “كورال الدمي”: منعطف السرد .. الغمر بالمجاز

“كورال الدمي”: منعطف السرد .. الغمر بالمجاز – بقلم: أ. خالد جودة
د.محروس بريك 17 أغسطس، 20180340
شارك على فيسبوك
شارك على تويتر

كورال الدمى

التخصيب المجازي بالصور اللونية:

مثلت قصص (كورال الدمي) للقاصة (نهى الطرانيسى) لون القصص التي تحقق (تمنع النص متعة القارئ لا المتلقي)، أي تحتاج حالة واعية للتلقي، وإعادة القراءة وتدوير المعني، حيث الحدوتة ليست أساسًا، وحيث تفتيت الحدث القصصي، ومثول “حالة” تستحوذ علي الشخوص الرئيسة بالقصص، فالمعني لا يسلم ذاته للقارئ بيسر، حتى يتحقق التأويل القرائي عبر مفاتيح هادية بين سطور القصص، وتسبب في تجذير هذا الشأن تلك اللغة الإيحائية القائمة علي التخصيب البياني، بالاعتماد علي الصور المجازية البلاغية، خاصة اللونية منها، لدرجة تصل أحيانًا للنثر الشاعري، بهيمنة تلك الصور اللونية في المجاز الذي يغمر القصص، بحيث لا تمضي صفحة في الكتاب الإبداعي دون أن تمهرها الألوان بدوالها عبر ثيمات القصص الموضوعية، بل قد تتعدد الألوان في السطر الواحد: (من لوحة أرجوانية اللون بدأ يتسلل من أطرافها خيوط برتقالية صفراء مخترقة الغمامات القطنية)، وقصة العطر القاتل تشتمل (شرفة خضراء / صور سوداء / حمام أزرق / غمامات حمراء / حجر برتقالي)

المجاز القصصي في القصص “قصة الكناية”:

حيث اعتماد الرمز الفني في القصص، والذى تحدث عنه النقد أنه بطبيعته يقترب من طبيعة الشعر، ويرى د. عبد القادر القط انه عندما يزيد نصيب القصة من التخيل وتتبلور فيها الحكمة والمعاني الإنسانية فيتحول حينها الرمز إلى كناية كبيرة ذات مغزى، ويرى نقاد أنها تسمى القصة “الأمثولة” حيث القصة ذات الأحداث الخيالية، شخصياتها غالبًا من الطير أو الحيوان وتشتمل مغزي وفكرة مركزية. ويرى باحث أن القصة في حقيقتها حركة مجاز مستمرة (استعارية وكنائية) تقلب مألوف الرؤية ومألوف التسمية، أما “رولان بارت” فيحرر ثلاثة نماذج كبرى للخطاب منها الكنائي “سرد”، والاستعارى “شعر غنائي”، مما يعني مفارقة مجازية القصة عن مجازية الشعر في إحدى الرؤى. لكن هناك ترحيب حول (أن المجاز ليس فقط يقوم بوظيفية تحسينية تزينية في اللغة، بل يشكل نمطَ حياة ومنهجَ تفكير، وأساسًا متينًا من أسس البناء اللغوي وديمومته).

وتعددت قصص الكناية بالمجموعة، أهمها قصة (العين لا تبصر الأهداب) حيث الطائر المغرد الحبيس خلف (أعمدة متراصة صلبة باردة سلطت جبروتها)، ُيطلب منه الاستسلام لتنعم السيدة المخملية بألوان الطائر الزاهية، والطائر المسكين يسقط في فك ظلمات في طيها ظلمات بين السيدة والقط المتخايل في تقزز، وسلبية الآخر، ورؤية العبيد (طعامك وشرابك محضر وبيت آمن جميل بعيدًا عن الصيادين والطيور الجارحة). ومثلت القصة “أيقونة الحرية” والرحلة إلى السماء: (.. بيتي هو السماء بقبتها الواسعة التي لا حدود لها هكذا يكون بيتي)، (أريد أن أسبح بين طيات السماء لأغرد ..)، فدائمًا الفن وثيق الصلة بالصعود إلى السماء من أرض القفص “الواقع” الكريهة، أما الخاتمة فجاءت ملخصة تحمل بشائر التغيير بإسداء النصح حول التنقيب في الذات وتثوير الباحة الخاصة.

ومنها قصة (أخف من حبة رمل) حيث حكي يوحي بمستعمرة نمل مكافح يسوى غرور الأقدام الكبيرة كوخه بالأرض بينما هو يبحث عن غذاء كحبة الرمل.

وقصة (ميلاد) حيث السارد الجنين يصف بلورته العازلة، ورحلة تشققها، وخوف الميلاد، لكنه يؤثر الخروج ليحقق التواصل مع الأم، وتنتشي خاتمة القصة بالأمومة.

لحظات الاشتعال القصصي “منعطف السرد”:

تبدو مقولة “الأدب حمال أوجه” حاكمة في شأن توافر التعريف المانع الجامع لفن القصة القصيرة، حيث تباينت الرؤي حول أهم خصائصها، لكن يظل الاعتبار للحظة القصصية الفارقة المنتقاة بعناية، والتي تمثل المتكأ في هذا الفن الصعب، فلحظة التحول أو الإبدال هي لحظة إشعال الفتيل القصصي، لكونها لحظة كاشفة، فعند منعطف الطريق تتسع الرؤية، وكما يقال (إذا اتسعت الرؤية .. ضاقت العبارة)، مما يعني أن خاصية التقطير السردي ترتبط بلحظات الاشتعال القصصية، وفي مجموعة قصص (كورال الدمي)، نجد تمثل هذه الفكرة عبر (16) قصة قصيرة جدًا ضمن عدد (28) قصة تمثل مجموع الكتاب القصصي، وبعضها قصة الومضة التي لا تزيد عن سطور قليلة.

فقصة (حين لا ينفع الوصل) نجد مرارة الحرمان، وحرارة الفقد، تتحدث عن فوات التوقيت الصحيح للقاء بين حبيبين، فكانت المأساة، تقول الساردة: (وعندما أحس بالحب يتسلل إلى نفسه ذهب وتركه جريحًا)، نجد المنعطف السردي عبر لحظة الفراق المتوترة الدامية، لنكتشف مغزى القصة، حيث احتفظ الحبيب بمنديل حبيبته (مبللا بدموع الفقيدة التي قتلها القطع)، لنجد الإبدال في الموقف بين قطبي القصة بتوريث الانتظار والدموع: (وكأنه استلم الأمور من بعدي .. عسى أن يجد الحب كما وجدته).

وفي قصة (عندما يزهر الأمل) نجد المفارقة في استعمال اللون الأبيض: (بدأت حياتي كالنجمة اللامعة تضيء للآخرين .. لكن بارتدائك الأبيض انطفأت شمعتي)، وشكلت المفارقة “الساعة النفسية” أي انصرف الوقت سريعًا، ووافق المبنى المعنى، فكانت العبارة مكثفة ناجزة، ووضح منعطف السرد (التغيير) عبر لحظة التوهج والإبدال من الحزن إلي الأفراح: (في ظل الحزن الهائل خرجت أناجي الله، لك الحكمة يا إلهي)، وعقب اللحظة الفارقة كان الإبدال إلى عذوبة وخيوط نور وبعث لروح الأمل، وحقق العنوان دعمًا للفكرة.

وقصة (واستقرت لوحتي علي الجدار) تشكل منعطف السرد بصيحة الطفل (أمي .. أبي هنا يلوح لنا)، وزوج مبتسم واكتشاف النعمة، فامرأة تصحب طفلها في قطار، كانت قد عانت في رحلة قطار حياتها تجربة مرة ومحنة نفسية مضنية ثم تلتقي بمن يحبها الزوج المنتظر في محطة الوصول، وأثناء الرحلة كان الواقع والأسى، حتى الرصد للتباين الطبقي من نافذة القطار: (تتدرج البيوت من غرف السطوح البائسة، وما تحويه من شقاء إلى الفيلات/ إلى النائمين تحت الكباري)، وذكريات عاصفة مرة تدمر الذات، ثم الخاتمة بالحكم: (التغيير من داخلنا)، ليبزغ فجر الحل: (تسير سفينة حياتنا متزنة، حتى إذا شابها عائق أو كادت تميل، أسرعنا ولحقنا بها لنتابع المسير). ومثلت القصة صورة مبهجة: (تناثر ورد الإكليل الأبيض على شرفة قلبي المكسور)، كما حققت فكرة “التماثل السردي”، فحركة خارجية (صوت عجلات القطار وهي تصطك بالقضبان في المحطات المتتالية)، وحركة نفسية بمحطات حياة الساردة في حياتها.

بل مثلت تلك اللحظات الحلم المنتظر، ففي قصة مناجاة الصورة على الحائط للأب البعيد: (ما زال قلبي أجوف فارغًا ينتظرك لتتربعي فيه، وتنثري بين أرجائه سحرك، لتزهر الروح بداخله).

الفنون ولحظات الإبدال:

ونجد الحضور القوي للفنون باعتبارها وسيلة للتغيير المنشود، والعزاء عن قسوة الواقع، فهي في ذاتها لحظات اشتعال قصصية، ومنعطفات سردية محورية في القصص.

ففي قصة (أفول الكلمات) تقدم لنا معاناة لحظة الإضاءة (هي ذاتها لحظة تحول)، فنجد تعبيرات طريفة حول: نذالة الكلمات الراحلة وفوهة الفراغ القابعة بعقل المبدع حين تعانده تلك اللحظة الذهبية: (أين تذهب الكلمات حين تنساها عقولنا؟ ألها مخبأ داخلنا لا نعلمه، أم أنها تعاقبنا برحيلها إلى مكان غير معلوم)، (تركتني الكلمات وحملت معها الصور والخيال بجعبتها دون وداع)، واقتنت القصة فكرة “الفنتزة” بلقاء شخصيات القصص.

ونجد الشوق الدائم للكتابة: (لا أدري ما الذي دفعني للكتابة الآن؟ أحنين لها؟ أم مشاعري ضاقت بصدري، فاشتاقت لنسمة هواء باردة)، ثم متابعة “التوريق” في الصورة فالمشاعر تهدد القاصة وتحرضها وتسجنها، وفي الوقت نفسه تختنق بداخلها.

وقصة (ضوء القمر) تقوم حول فن الرسم، وعزلة الفنان سبيل التغيير (هربت إلى كواليسي الخاصة بغرفتي … لأكون بطلة لجمهور ذاتي)، وفي قصة أخرى: (أحيانًا جلسات الإنسان بمفرده تكشف له ما يريد .. ما يحب .. ما يكره)، (هى: سيدى انظر داخلك وأصغ إلى نفسك قبل أن يأتي شخص آخر لتشكو إليه)، حيث الواقع انقراض الورد الجميل الخيالي، وحيث القلوب الذابلة من الأوجاع، والقلب الذي يرتشف من حنين الصور للأحبة ليبقي هذا الحنين صامدًا، ثم لحظة التحول بالفن فالمنهج قائمًا حول القلب “البلورة” تاجًا يصاحب العقل “المصباح”، والفن كان إبدالاً حيث ترسم الفنانة بطلة القصة ألوانًا أخرى تخالف الألوان الكئيبة خارج النافذة “الواقع”: (ترسم الألوان كؤوسًا هنية تمنح القدرة والأمل).

التعدين القصصي والعنوان:

ويقترن بشأن حضور الفن في القصص قضية التعدين القصصي وعنوان الكتاب الإبداعي، حيث لا توجد قصة تحمل هذا العنوان، بل لا تحمل قصة في متنها هذا التعبير، مما يمنح علي الفور فكرة “جماعية القصص”، والقيمة المضافة لمجاورة القصص لبعضها البعض بالتشغيل القصصي إضافة لقيمتها الذاتية، إضافة إلي نفي تثمين قصة واحدة واستحواذها علي الاهتمام النقدي باعتبارها ممثلة النضج الفني، وهذا الاتجاه في صناعة العنوان موفق ومثمر وأؤيده. ولأنها دمى فهي مسلوبة الإرادة بفعل خارجي حيث تنتظم كورالا يعزف النغم الموجوع، هنا تمنح القصص “معًا” دال الشيئية مثيرة لفداحة القهر العصري للإنسانية.

الشيئية والأنسنة والتغيير:

ونجد بالقصص فكرة الآلية أو الشيئية التي تندحر إليها الإنسانية بتصحر التواصل الإنساني، فالوحدة رفي فبتعبير القصص، والهم الشاغل البحث عن الأمل والدفء (فألتقط الحب والعطف من نظرات الناس)، فأسست القصص الفكرة البديلة عن الفقد بالأنسنة للأشياء والكائنات للتعزي عن مادية الإنسان، فنجد الإشارات الكثيفة حول (صبر الكرسي ومده أياديه الخشبية لإزالة عناء الجمود / وفي قصة (الطريق) نجد الكرسي الخشبي الذي يشتكي والآخر المهمل في الزاوية / الصور علي الحائط للأحباب الراحلين “مروري عليه” في القصص يشارك البوح والذكريات لأبطالها / فنجان القهوة لا يهدأ ولا يصبر ويطلق زفراته الشفافة / …).

ومثلت قصة (الشريدة) الإنسان روبوتًا يابس الوجه ساردًا بالقصة عن يوم ممل اعتيادي آخر له خطوات بطيئة مضجرة مثل “سجن الواقع”، وشخصيات “دمى” عاجزة عن الفعل يتلاعب بخيوطها الروتين والسكون المميت، وشحوب الحلم: (كأننا في يوم المحشر العظيم، تسوقنا الأحلام الواهنة المتواضعة)، والقصة تشتمل في جدل (الشيئية / الأنسنة) لحظة إشعال الفتيل بالإبدال، ففي أحد الأيام جرى كسر للروتين والحياة مع الطبيعة بالبكور حيث “زقزقة العصافير” واستعارة فرحتها، وبدت لحظة التواصل الإنساني في القصة مهددة تحت أثقال الرماد والخيبة وشحوب الحلم وتدهور صحة الأمل، وثقل الاعتياد، حيث الروبوت لا يسمح له بالتواصل الإنساني أو التأمل في تفاصيل الملامح أو الالتفات: (.. أظنني كنت أشبه بتمثال الشمع الذي أخذ يتصبب عرقًا مع تزايد الحرارة)، والقصة كان يمكن أن يتم ختامها بهذا النسق النابه، ليكون المغزى حاضرًا، ولكن آثرت القاصة إشباع لحظة الاشتعال القصصي وتجذيرها: (يا له من يوم غريب)، (حتى استجمعت سمعي وعقلي المعطل)، (تملكتني طاقة سحرية، فتحت نافذتي لأطل على عصافير آوت إلى أعشاشها بسلام)، ومع التغيير حضرت الساعة النفسية: (تتابعت الأيام سريعًا على غير عادتها)، وحضرت فكرة الرحيل إلى جنة السماء كعادة القصص في المجموعة: (أخذتني السماء إليها في حفلة راقصة، وعادت بي مثل وردة فضية)، بل رحلة أخرى بالإياب للأرض “الواقع” حيث خاتمة القصة: (لأولى خطوات الألم والاختبار الحقيقي لهذا الحب).

والقصص في رحلتها ومتنها الموضوعي تنشد التغيير وإضاءة أيقونات الحرية علي المستويين الذاتي والجماعي، لذلك نجد الحركة الدائمة، فالقصص مترعة بتلك الحركة؛ فالسماء تعزف ألحانًا، ومفردات الأفول والرحيل والفراق والطريق والاستقرار، وفكرة الصعود من الأرض للسماء، والصخب الداخلي بالخواطر والأسى، لكنها تنزع لحلم التحرير: (وأصررت علي تحطيم حصن الأشواك حول زمردة القلب الذي يأبى الخفقان).

المناجاة الدرامية بالقصص:

تنوعت طريقة القص بين هيمنة السرد الذاتي المنوع بتقنيات ناجزة بين المناجاة الدرامية، وسيرة شخصية القصة الذاتية، والاستمداد من خبرات وتجارب تمثل معاناة خاصة، وتقترب للهامش الاجتماعي وهموم إنسانية كونية لإنسان أُهدرت حقوقه لجعلها متنًا سرديًا، ووجهة النظر الغالبة في القصص مثلت “المناجاة الدرامية” وذلك بالعرض إلى شخص يتحدث إلى شخص آخر، حديث يتسم بالتلقائية، وهو مثيل للمناجاة “المونولوج الداخلي” للكشف عن مكنون الصدر، حيث تناجي شخصيات قصصية الأحباب الراحلين بعيدًا، ومناجاة البحر في قصة (إكسير الحياة)، حتى الحوار يغلب عليه ذات الأسلوب، قصة (الأشباح لا تفشي الأسرار) قصة صوتية تغلب عليها تقنية الحوار الممسرح، لكنها في حقيقتها مناجاة بتقنية الانقسام على الذات “التشظي”.

ويقارب المناجاة فكرة “التماثل السردي” حيث نجد حركة في الخارج، يصاحبها حركة نفسية، فحركة طبيعية مثل (البحر أسد هصور) صاخب بالموج، تصاحبها حركة نفسية (وبداخلنا أيضًا مد بحر غاضب).

أما المركزية الموضوعية للقصص في تأويلي فتتمثل في ثنائية (الضباب “الواقع” / الطبيعة “المثال”) والصعود إلي السماء، وهي ذاتها ثنائية (الأرض / السماء):

حيث القاموس القصصي البلاغي الأثير يقوم علي تكرار مفردات ذات حقول دلالية تنتمي إلي تلك الثنائية، فمفردات الشمس الحارقة والضباب والدخان والرمادية المقيتة والأتربة والأرض، يناظرها مفردات الضوء والنور والصفاء والأمل والسماء، والشواهد النصية وافرة: (لا تتركي ضباب الخوف يسطر الفزع بسمائك، بدديه بالأمل واسطري أول كلماتك)، بما يمنح دال: “رهبة السطر الأول”، وتقول في دال تلك الرهبة: (ولا أعلم لم أمسك بيدي قلمًا وورقة طوال الوقت دون أن أخط كلمة واحدة)، (التراب خفيفًا جافًا يخنق الأنفاس مشبعًا بالعرق والدماء)، (غدا علي عيني ضباب)، (ونظرت إلى السماء، سرت .. أمشي وأمشي، لا تعب ولا ملل، وكأني أردت كسر الأرض بخطواتي، لعلي أستطيع التنفس بعد قليلاً)، (والأرض سوداء)، وواقع (يعج بالاختناق والدخان)، (الوجوه الصاخبة بالضيق يكاد يكفنها الغم) في مقابل: (بعيدًا في الأعلي دنيا لها ما لها من أنوار هادئة متقاربة)، مما يعني أن فكرة التغيير ماثلة رومانسيًا عبر رحلة الصعود من الأرض “الواقع” إلى “السماء”: (السماء في الأفق البعيد مع ملتقي البحر تغمز لي: أنا ملجؤك هدئ من روعك، وأزح الهم عن فؤادك .. احك واسرد)، واحك واسرد دال الفن للتغيير المنشود، (وكادت الأرض تصرخ وتضج من كثرة ما ألقي عليها)، أما (السماء صفحة هائة نرسل إليها ابتسامات الأمل والحب)، ورحلة الصعود تمثل “أيقونة الحرية” والتغيير المنشود.

والخواتيم من لون التي تقوم بتلخيص وإعادة تقديم المقولة القصصية:

وتتعدد المقولات القصصية: ففي القصة القصيرة جدًا (وأغمضت عيني) ينهمر سيل الطالبات الصغيرات الذي يكتسي الأزرق الداكن، حيث تحلم فتاة بفارس الأحلام: (أغزل معه عباءة الحب لتحمينا من طلقات الحقد)، فالقصة لحظة بسيطة حول شاب حسن المظهر قبيح العبارة “مسكن حسن وفيه ساكن نذل”: (كم هي خادعة تلك المظاهر البراقة)، وتقتني الحكمة حيث الحياء هو الجمال، وإغماض العين في خاتمة وعنوان القصة كان لإطلاق البصيرة والسكينة الداخلية لاستكناه هذا الجوهر خلف ستار المظهر الخادع.

وخاتمة قصة (إكسير الحياة) التى تمثل حوار الذات والبحر قامت علي التناص المضمر مع النص الشريف (ظهر الفساد في البر والبحر)، فجاءت الحكم: (كله بأيدينا، ما نبرئ أنفسنا).

وقصة (إكليل من البنفسج) والتي تمثل سيرة ذاتية لشخصية الصحافي الذي يحمل صندوقه الأسود من المآسي ليلتقط صورًا لمشاهد مروعة، لمدينة صورها بامراة جميلة يُسكب على وجهها الحسن ماء حارق: (السماء اتشحت بالسواد كالثكلى)، فالقصة مشهدية صاخبة تضج بالألم والأهوال، وشحن المشهد بكل موجبات التأثير لوخز القارئ، فطفلة مغبرة مروعة بجانب أمها الشهيدة، ثم تقتل أيضًا دامعة العينيين، وجاءت خاتمة القصة لتعيد إنتاج المقولة القصصية: (دم الطفلة القاني المتخثر يخضب وجه مباني الأمم المتحدة والإنسانية).

وقصة (أشجار الأشباح) استشرافية عن الحرب العالمية الثالثة، حيث بطلة القصص (ليزا) تسعف الجرحى في غرفة شاحبة الضوء، ولقاؤها مع مواطنها الجريح (جاك)، ونفهم أنه جريح جيش مخرب غاصب، وتطرح القصة بالحوار بينهما وجهة نظر منطقة مثلتها (ليزا): (إن الازدراء والقمع يولدان الانفجار)، وجاءت الصورة بأن مقولتها (طعنة لجاك بخنجر صدئ)، الذي يجادلها. والقصة مثلت تناصًّا مضمرًا مع النص الشريف (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون)، كما حققت مقولتها الناجزة بتحرير المفهوم: (كيف؟ دلني .. كيف؟ بالاعتقالات .. والقتل .. والشوارع المكدسة بالجثث ودموع الأطفال .. بالنساء يلاحقن رجالهن وهم مكبلون؟!)، حيث وصت السلوك البدائي للمستخرب، وأنهم يغرسون في أهل البلاد المكنوبة بهم بذرة الخوف والألم: (نحارب وحشنًا خلقناه بأيدينا)، وجاء تحرير مفهوم الإرهاب: (أن تغرس ألمًا وحقدًا في نفس ضعيفة لا تقدر علي شيء، وتثقل عليها من قسوتك)، ويحضر الفن وقوة التعبير الجمالي في خاتمة القصة (كل ما أستطيع فعله أخذ القلم ورسم الجنة التي أتمني الرجوع إليها).

وقصة (شمع عيد الميلاد) حيث (الأسير في بيتي أسير) الشاب الغزاوي الشهيد، وحكي عن حلم (السحاب بروح النقاء، تسبح في الفضاء)، وخاتمة عن زمن مضمر من رحلة الميلاد الأول إلى الميلاد الكبير بفكرة الثبات على المبدأ وهو قمة النصر: (لن أذهب، بل سأستقر في أسر مولدي إلى حرية آخرتي).

وقصة (كسرة خبز) القصيرة جدًا مثلت الهامش الاجتماعي، الذي جرى سحقه حتى يلتقط قوته من المزابل، فالسارد المكتئب يركل حصاة يصيب بها أحد البائسين، ويحضر المجاز: (أمسكها بعينين ملؤهما الحزن)، حيث يظنها طعامًا، فلما حاول أن يعتذر إليه جاءت الخاتمة لتشكل قوة المتن الإبداعي بصمت السارد وبلاغة الهامش، عبر التناص المضمر مع النص الشريف: (وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف): (ما عدت أبالي بما يلقي إلى، إن كان “سلام” أو “لا سلام”).

ويبقي أن نشير أن هناك –لا شك- شغف كبير بالقصة القصيرة، لكن كانت البراعة أوفر في السرد القصير جدًا، للتقطير الشاعري، وإصابة المغزى المرتجى، ولا يمنع هذا أن التوريق في الصور، وتكثيف دوال كثر في قصص أخرى، وتفتيت الحدث القصصي، كان سبيلًا لرحابة التأويل.


1603140581869.png


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى