حاميد اليوسفي - القطط السوداء..

استيقظ من حلم مزعج . ذهب إلى المرحاض . ثم خرج إلى الحوض وغسل وجهه . فتح الهاتف . الساعة تقترب من التاسعة والنصف صباحا . تأخر في النهوض من النوم . فتح الباب ، ونزل السلم . لا يستطيع مقاومة أشعة شمس الصباح . لبس نظارته السوداء ، وركب دراجته متجها إلى المخبزة . امرأة تتشح بالسواد مرت على يساره . تأمل وجهها . رأى فقط بؤبؤا يتراقص بين رموش عينيها . عادت به الصورة سنوات طويلة إلى الوراء .
اللوحة 1
يحكي الناس في مراكش والعهدة على الرواة ، أنه في أواسط التسعينات من القرن الماضي ، ظلت امرأة محجبة تستضيف صديقة لها تشبه القطة السوداء . في الأول بدأت الزيارات في أوقات متفرقة بالنهار ، عندما يخرج الحاج إلى العمل . ثم تطور الأمر إلى المبيت بشكل تدريجي ليلة واحدة ثم ليلتان ثم ثلاثة في الأسبوع . وفي كل مرة تتعلل الزوجة بأنها ستنام مع صديقتها في الغرفة الثانية حتى الصباح . تستيقظ باكرا ، وتهيئ الوضوء لزوجها ، ثم الفطور ، وتعود إلى الغرفة ، وتوقظ صديقتها لأداء صلاة الصبح رفقتها .
في الأسبوع الثالث وقع ما لم يكن في الحسبان . وبينما المرأة قبل أن تنهض من الفراش لتهييء الوضوء ، ثم الفطور لزوجها ، حاولت أيقاظ صديقتها . نادت عليها باسمها بصوت مسموع لإيهام الزوج ، فلم تجب . حركتها من الكتف ، ولم تستجب . بدأ الفأر يلعب في رأسها . أشعلت النور ، حركتها بقوة ، لم تستجب . رفعت يدها إلى أعلى ، وأطلقتها ، فسقطت فوق الفراش . لاحظت بأن اليد لا حرارة فيها ، لمستها من جديد ، فوجدتها باردة مثل الثلج . انفلتت منها صرخة عالية من غير أن تشعر . تلتها صرخات أخرى . تردد الحاج في البداية ، ثم اقتحم الغرفة . تفاجأ بأن الشخص الذي ينام فوق الفراش بشارب ولحية . جر زوجته من شعرها إلى وسط البيت ، وهما يصرخان . أيقظه طرق قوي على الباب ، وأعاده إلى الواقع . طلق شعرها ، ومشى من غير وعي . فتح الباب ، وجلس بجانبه ، وأشار إلى داخل المنزل ، ثم وضع يديه على رأسه . بعض الجارات اقتحمن البيت وأشفقن من حال المرأة ، وهي تبكي ، وشعرها منفوش على وجهها . طلبن منها أن تلعن الشيطان . سحبنها من وسط البيت ، ودخلن الغرفة . وما أن رأين جثة الرجل فوق الفراش حتى عدن مهرولات إلى الوراء . بعد أن انكشف كل شيء . خرج أحد الجيران واستدعى الشرطة .
اللوحة 2 :
صديقة للمرحومة استغلت الحزن الذي يخيم على العزاء وأسرت لبعض قريباتها ، بأن أمنية الفقيدة أن تغسلها يوم مماتها فلانة ، وهي تسكن قريبة من الحي ، فكلفوها بإحضارها . بدت الغسالة امرأة بدينة في سن الأربعينات ، تشبه قطة سوداء ، وتخفي جميع ملامح وجهها بخمار أسود داكن ، تتراقص خلفه عينان لا تتوقفان عن الحركة . أطلق المراكشيون في هذا الوقت على هذا النمط من النساء اللواتي يتشحن بالسواد ، لقب (نينجا) . دخلت الغرفة التي ترقد بها المرحومة .
بعد حوالي نصف ساعة ، أنهت مهمتها ، وخرجت تنتظر أجرها . كمن صفع إحدى القريبات ، فتذكرت الحلي ، دخلت ، وخرجت مسرعة . نادت على أخيها البكر ، وأخبرته بما حصل . طلب من نينجا إخراج الحلي ، وتسليمها لأصحاب البيت . نفت في البداية وجود حلي أصلا . شتمها وهددها باستدعاء الشرطة . تنازلت عن نفيها السابق ، واعتبرت الحلي رزقا ، وهبه الله لها . نزع الحقيبة من يدها بغضب ، وأفرغها من الحلي . ثم رماها في وجهها ، وضربها على مؤخرتها برجله ، وطلب منها أن تنصرف قبل استدعاء الشرطة . خرجت مسرعة من الشقة ، وهي تتمتم بعبارات غير مفهومة . لحسن حظها وجدت طاكسي وقف لبرهة ، فتحت الباب ، ورمت جسدها في المقعد الخلفي ، واختفت .
انتشر الخبر بسرعة بين الحاضرين ، فتعجب الناس مما حصل . واستغربوا كيف تجرؤ امرأة متدينة على سرقة امرأة ميتة ؟
اللوحة 3
مدرس بقطاع التعليم ، يؤطر ويكون القطط السوداء . يتغيب كل جمعة عن العمل . يقضي اليوم ببعض الدواوير المجاورة للقرية ، يعظ ويخطب ويؤم الناس للصلاة ، ويتناول طعام الكسكس . لا يعود إلا بعد صلاة العصر ، محملا بالخضر والفواكه .
جرت العادة في أغلب القرى المغربية أن تظل أبواب المنازل مفتوحة طيلة النهار .
نسبة البيت للمرأة عادة قديمة . سيدة البيت . بعض البيوت مثل العباءات السوداء .
زوجة الفقيه المدرس غريبة عن المنطقة ، تنحدر من بلدة بعيدة ، لا تعرف أحدا . بيتها لا تدخله امرأة ، ولا تخرج منه امرأة . لا يُسمح لها حتى بالذهاب إلى الحمام ، مثل باقي النساء . عليها أن تستحم داخل البيت صيفا وشتاء . لا تزور ولا تُزار .
يُخرج المفتاح من جيبه . يفتح الباب حين يدخل ، أو يغلقه حين يخرج . قد يغيب يوما أو يومين أو أكثر ، لكنه يظل مطمئن البال . الباب مُغلق بالمفتاح . والمفتاح في جيبه .
يأتي ضيوف من الرجال إلى بيته في فترات متباعدة . يستمعون إلى القرآن الكريم ، ويتحدثون بأصوات عالية ، ويضحكون . يشربون الشاي ، ثم يتناولون طعام العشاء وينصرفون .
ظلت الزوجة وحيدة ، لم يمنحها الله طفلا أو طفلة تؤنس وحدتها . لا تعلم إن كان الخلل منها ، أو من زوجها . ربما هذا ما دفع بعض سكان القرية إلى التشكيك في فحولة الفقيه المدرس .
لكنه ظل يبالغ في التعبير عن عكس ذلك . كلما تمر امرأة بالقرب منه ، يتتبعها بعينيه ، يلتفت ، ويفحصها من فوق إلى تحت ، وكأنه يقيس طولها وعرضها وربما حتى وزنها .
اللوحة 4
قط أسود سمين ، وغريب الأطوار . اعتاد في الليل أن يوقط عمته بموائه ، أو بجر ثيابها ، لتفتح الباب لابنها قبل أن يطرقه . عندما يُغلَق عليه الباب وهو خارج البيت ، يمدد جسمه حتى تصل رجلاه الأماميتان إلى (الخرصة) ، ويطرق الباب .
كلاهما يكره الآخر ، كلما وجده في طريقه ضربه برجله ، وكلما ترك باب الصالة مفتوحا ، وجد جواربه متناثرة في السلم .
وهو قادم من السينما في منتصف الليل ، بعد أن شاهد فيلما مرعبا ، يحمل عنوان (طارد الأرواح الشريرة ) ، وضوء الدرب معتم بضباب قطرات مطر خفيف مع انخفاض درجات الحرارة ، ماءت قطة سوداء بالقرب من القمامة ، تداخل صوتها مع أحد مشاهد الفيلم ، فقفز من مكانه مذعورا . كاد قلبه يخرج من صدره . فرك عينيه وفتحهما جيدا . رفع من سرعة خطواته . وقف أمام الباب ، وتنهد حمدا لله على سلامته ، ثم أدار المفتاح.
الخوف من القطط في الليل تسرب إلى وعيه الباطني منذ الطفولة ، عندما سمع الكبار يؤنبون الصغار، بعدم التعرض للقطط السوداء في الليل ، ويؤكدون أنها مسكونة بالأرواح الشريرة .


مراكش 10 فبراير 2020



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى