عصمت محمد بدل - الفخ.. قصة قصيرة من الأدب الكردي المعاصر - ترجمة: ماجد الحيدر

لم تبقَ غير مائة خطوة كي يصل الى مقصده. أفكاره تتضارب وتذهب كل مذهب، ثم تثبت أنظاره باتجاه واحد وتشرع قدماه الخفيفتان مثل السنجاب باجتياز تلكم الخطوات المائة، وتدنوان من باب البناية التي يجتمعون فيها، كان قد هيأ كل شيء في ذهنه، واختار كلماته كلها، وتدرب عشرات المرات على طريقة تقديمها؛ فاليوم هو دوره في إلقاء محاضرته أمام رفاق الدرب.
مضى زمن طويل وهو يستعد للأمر. قلّبَ العشرات من الكتب والجرائد والمجلات حتى يتمكن من تقديم محاضرة قيّمة ينير فيها بعض الزوايا والثغرات المعتمة في مسيرتهم المقدسة، ويقترح خلالها طرقاً جديدة في أساليب النضال. إنه يدرك أنها فرصته الذهبية كي يحزم أمره ويتخلص من تردده هذا. إنه يشعر منذ بعض الوقت باغترابه عن هذه المجموعة، وكان يجد نفسه، في بعض الأحيان التي يطرح فيها رفاقه مثل هذه المواضيع، المنصتَ الوحيد، ويشارك أحياناً في المناقشات. ولقد أفاد، خلال إعداده لموضوعه، من كل تلك المواضيع والمناقشات التي دارت حولها.
لم يكن، في كثير من الأحيان، يتفق في مداخلاته مع آراء وأفكار العديد من رفاقه؛ الأمر الذي عرّضه للعتاب واللوم. كانوا أناساً متصلبين، ينظرون الى نصوص القادة بتقديس مطلق، ويحفظون كلماتهم مثل قوالب يابسة ويرددونها بمناسبة ودون مناسبة. لكنه، في محاضرته التي أعدها وسيلقيها اليوم، لن يستشهد بنصوص من أحاديث أي من القادة، فكل ما كتبه عصارة لفكره الحر، بعد فهم متعمق للأوضاع وقراءة للكثير من النظريات والمعلومات. إنه يدرك مقدار الدهشة التي سيسببها لهم. ولا يستبعد اتهامهم له بالانحراف عن خط التنظيم المقدس ولا إدانتهم له بالخيانة، ولكن فليكن ما يكون. إنه، من الآن فصاعداً، لن يتبنى إلا ما يؤمن به، وهو مؤمن بأن مسيرتهم سيكتب لها النجاح عندما يفكر الجميع بطريقة متحررة لا يحدّها إطار إلا استعادة كرامة الإنسان وإقرار المساواة والعدالة الاجتماعية والقضاء على الظلم والجور بجميع أشكالهما.
خلال إعداد محاضرته وكتابتها كان ينصهر معها، فتنهمر الدموع من عينيه أحيانا، ويغمره التفاؤل أحياناً اخرى فيرى نفسه متربعاً في صدر الديوان وأوراقه في يده وهو يتلو منها بإلقاء معبّر وصوت كله لهفة وحماس، فيذوب رفاقه هم أيضا مع صوته، فقد استخدم كل الأدوات البديعية للغة والكثير من النماذج المناسبة لواقع الحال كي يتمكن من التأثير فيهم ويقنعهم بآرائه.
في تلك الخطوات القليلة التي تفصله عن موعد الاجتماع الأسبوعي السري كان يضع في ذهنه اللمسات الأخيرة على كلمته التي ركّز فيها كثيراً على رسالة السلام والابتعاد عن العنف واحترام كل الآراء والمعتقدات وحماية حقوق الانسان، تلك المبادئ التي لم يكن الكثير من رفاقه يولونها اهتماما، فقد كانوا على يقين بأن أفكارهم ومبادئهم ومعتقداتهم هي وحدها الصحيحة وأما ما يخالفها فهي مخطئة من الأساس ولا ينبغي إفساح المجال أمامها. إنه ليجد نفسه في كثير من الأحيان متباينا عنهم، وهم أيضا كانوا ينظرون اليه في اغلب الأحيان نظرة ملؤها الشك والريبة، حتى أن بعضهم كان يمقته ويطالب بطرده، لكنه كان واثقاً من قدرته على تحويل دفة التنظيم نحو الأهداف العظيمة التي تأسس من أجلها، إنه اليوم مفعم بالأمل في قدرته على إقناعهم بآرائه عن طريق ما سيسوقه في كلمته المؤثرة المعززة بالأدلة القوية المقنعة، وإلا فإنها قد تكون آخر مرة يأتي فيها، إذا لم يجد في عقولهم شيئاً من المرونة.
خطواته تدنيه من الباب. السماء آفلٌ قمرها، النجوم غائرة خلف الغمام، وصمت مخيف يجثم على المدينة، الأزقة مقفرة، إنه ينظر في كل اتجاه فلا يلفت نظره شيء مريب، وها هو مثل كل اللقاءات الأسبوعية السابقة ينظر الى هندامه، يقف عند الباب، يتطلع الى ما حوله من جديد، ثم يطرق الباب أربعة طرقات ذات إيقاع خاص، وتمضي لحظات قلائل لكنها مثل عبءٍ ثقيل، ثم يفتح الباب ولكن ليس بسرعة وصمت ودون تأخير كما في كل مرة. إنه، في هذه المرة، يتأخر ويتراخى ويصحبه لغط وضجيج. الرجل الذي يفتح الباب لا يشبههم في شيء، إنه يلف وجهه بكوفية لا يظهر من خلفها سوى عينيه. ينتابه الارتباك ويفكر في أنه قد يكون أخطأ البيت، يلتفت من جديد وينظر الى الباب.
- "خيرا؟ ماذا جرى؟" يقول لنفسه "حتى لو كان هذا عضواً جديداً فلا بد أن يخضع للترتيب المتفق عليه ولا يسمح له بفتح الباب. أيحتمل أنني أخطأت في يوم الاجتماع؟ كلا. لا أظنني أخطئ في أمورٍ كهذه".
يلبث لحظات أخرى أمام الباب، واجماً، متيبساً دون حراك. يخاطبه صاحب الكوفية بصوت يحاول أن يجعله هادئاً:
- "تفضل، الرفاق بانتظارك"
هدأ روعه قليلاً، لكن الشك لم يبرح قلبه، فكر في التراجع والفرار، لكن كان عليه أن يعرف شيئاً:
- "من أنت؟"
لم يشأ أن يطرح هذا السؤال، لكنه فعل، وسرعان ما ندم على ذلك. كان عليه أن يتخذ قرارا أما بالدخول أو النكوص على عقبيه، لكنه اختار الدخول. الباحة خاوية، مظلمة، ليست بالترتيب المعهود. أمسك خوف عظيم بتلابيبه. أسرع صاحب الكوفية بإغلاق الباب وجاء في أثره، حثه على التقدم وفتح له باب الغرفة:
- "تفضَّل"
دخل الغرفة، كان هناك ما يقارب تسعة الى عشرة من الرجال. كانوا هم أيضا ملثمين ومنتصبين على أقدامهم. جفَّ ريقه وتساءل مع نفسه:
- " أيمكن أن يكون هؤلاء أصدقاؤه وقد لفوا وجوههم، عجيب"
حاول أن يستجمع رباطه جأشه وأن يسيطر على أقواله وأفعاله فبدأهم بالسلام:
- "مساء الخير"
وجاءه الرد بهجوم مفاجئ.. أوثقوا يديه ورجليه وفمه وعينيه... ثم لم يعد يشعر بنفسه!


آب 2009


عصمت محمد بدل


- عن مجلة (به يف) الصادرة عن اتحاد الأدباء الكرد-دهوك-العدد 63-2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى