سعد هادي - مدينة الطرابيش

أتريد أن أروي لك كيف تأسّست مدينة الطرابيش؟ حسناً، سأفعل ذلك برغم أنني رويت القصة من قبل آلاف المرات، استمع يا عزيزي، اشتريت طربوشاً من سوق البراغيث قبل بضعة شهور، ربما جاء به سائح ذهب إلى الشرق، أو ربما جاء به رجل شرقي هاجر إلى هنا، اعتمرته حين صعدت إلى الباص، بدلاً عن وضعه في أحد الأكياس التي كنت أحملها كي لا يتجعّد، ضحك السائق وهو يشير إليه، وقالت امرأة عجوز:
- أتذكر ممثلاً بديناً كان يعتمر ما يشبهه في فيلم «كازابلانكا».
وسألني رجل يجلس خلفها:
- هل أنت ذاهب إلى حفلة تنكرية، أم تقي صلعتك من الشمس؟
رفعت الطربوش وأشرت إلى شعري الكثّ ولم أرد.
في طريقي إلى البيت، ابتسم أكثر من شخص رأى الطربوش فوق رأسي، ونظر آخرون إليه بلا اهتمام، وزعق أحدهم بنبرة عدائية: ما هذا الجردل الذي تضعه على رأسك أيها الغريب؟ وأخرج آخر موبايله ليصورني فرفعت يدي احتجاجاً ولكنه لم يعبأ بي.
صاحت زوجتي حين دخلت إلى البيت:
- أين وجدته؟ ولماذا تعتمره بالمقلوب، تاركاً خصلة الخيوط تتدلّى من الأمام؟
في المساء وفي فقرة من برنامج تلفزيوني، ظهرت صورتي بوجه غاضب وأنا أرفع يدي وأسفلها التعليق التالي: رجل غريب الأطوار يدعو المهاجرين للتمرد، قفزت كالمجنون نحو الشاشة، وتجمّدت زوجتي على الأريكة وهي تحدِّق في الصورة.
اتصلت بالقناة التي عرضت البرنامج، صرخت: لا علاقة بما كتب في التعليق، كنت أعتمر الطربوش بالصدفة، سأقاضيكم، سأشتكي لدى الشرطة، ردَّ عليَّ رجل: لا أعرف عمَّ تتحدث، وأحالني إلى آخر طلب مني أن أعيد شرح مشكلتي، ثم أعدت شرحها لما لا نهاية له من الأشخاص بدون أن يفهم أحد من أنا وماذا أريد، حتى ردَّ عليَّ صوت أنثوي:
- اخترنا الصورة والتعليق من صفحة في الفيسبوك، يهمنا الآن أن تشرح وجهك نظرك في تقرير مصور، أعطني عنوانك وسأحضر بعد قليل، أنا كيتي.
بعد نصف ساعة، كنت أروي أمام عدسة الكاميرا تفاصيل ما حدث معتمراً الطربوش ليعرفني المشاهدون، ولكن التقرير حين عُرض في صباح اليوم التالي لم يُظهر مما تم تصويره سوى لقطة كنت أشير فيها بسبابتي إلى الأمام كأنني أحمل مسدساً، مع تعليق لكيتي قالت فيه: الرجل ذو الطربوش يصعِّد دعوته للتمرد ويدعو إلى استخدام العنف. استشطت غضباً، اتصلت بالقناة ثانية، قلت لمن ردَّ عليَّ: ما عرض لم يكن حقيقياً ولم تظهر فيه ولا كلمة مما قلته، وكررت تهديدي: لقد شوّهتم صورتي، سأقاضيكم، سأطلب تعويضاً بالملايين.
حين أنهيت المكالمة، اتصل بي مراسل من قناة إخبارية واسعة الانتشار وطلب أن يلتقيني، كما اتصلت بي صحافية من جريدة يومية، ثم كاتب تعليقات من إذاعة محلية، ولاحقاً تحدثت في عشرات التقارير التلفزيونية والإذاعية والمقابلات الصحافية عن تفاصيل ما حدث، وأوضحت رأيي بشأن اعتمار الطربوش، وأجبت بقدر ما أعرف عن أسئلة تخص تاريخه، وكيف انتقل من فيينا إلى الشرق، ليصبح جزءاً من الزي التقليدي هناك، ولماذا انقرض، وتحدَّث إلى جانبي الكثير من الأشخاص، علَّق بعضهم بحيادية على ما كنت أرويه، بينما شجب البعض الآخر آرائي، وحذَّروا من مخطط أشارك في تنفيذه أو أسعى لأكون رمزاً له. كانت هناك دوامة تتسع تدريجياً اسمها الطربوش، واستخدمت صوري وأنا أعتمره في ما لا حصر له من المقاطع التمثيلية والاسكتشات ورسوم الكاريكاتور. أما أطرف ما اشتهر، فكان أغنية لمطربة مغمورة، تظهر فيها شبه عارية، تعتمر طربوشاً وتضع نقاباً على وجهها وتردد وهي ترقص: بماذا إذاً سأغطي جسدي؟
بعد بضعة أيام، ذهبت إلى قاعة البلدية حيث يقام مهرجان للمصنوعات الفولكلورية. وما إن دخلت القاعة حتى استقبلني بعاصفة من التصفيق أشخاص يعتمرون طرابيش من الورق والقماش، هتفوا بحياتي بمختلف اللغات، ثم طلبوا مني أن ألقي كلمة بينهم.
وقفت بين منضدتين على إحداهما تماثيل مكسيكية تقليدية من الحجر، وعلى الأخرى أقنعة خشبية من الكونغو، وكانت خلفي منضدة عليها صحون وأباريق خزفية من كمبوديا. كان رأسي يعجّ بأفكار كثيرة، ولكن، ما إن قلت جملتي الأولى حتى تعالت هتافات من الجانب الآخر للقاعة تشجب حركة الطربوش وسعيها لإحداث شرخ في النسيج الاجتماعي وتهديدها للسلم الأهلي. ردَّ عليها أصحاب الطرابيش بهتافات مضادة تدعو للحرية والتنوع الثقافي والسماح للجماعات المهاجرة بالتعبير عن أفكارها، ثم تحولت حرب الهتافات إلى اشتباكات بالأيدي وتطايرت الصحون والأكواب والأيقونات واللوحات والتماثيل والأقنعة وأدوات الزينة والمرايا من على المناضد لتصطدم بالرؤوس والأجساد والحيطان وتهشم زجاج النوافذ.
ركضت نحو الشارع فرأيت سيارات شرطة وإسعاف وجنوداً يعتمرون الخوذ ويحملون الدروع والهراوات. وعلى الرصيف البعيد رأيت نساءً ورجالاً مقنعين يحملون عصياً وسكاكين ومشاعل وزجاجات مولوتوف ولافتات كتبت فوقها شعارات: عودوا إلى بلدانكم أيها الأوباش، لا للأفكار المتخلّفة، لا مكان للطربوش في مدينتنا.
تردّدت صافرات الإنذار وخاطبنا رجال الشرطة عبر مكبّرات الصوت:
- سنستخدم قنابل الغاز إذا لم تتفرقوا حالاً.
تحوَّل حشدنا بعد ذلك إلى طابور طويل يحمل أفراده الشموع واللافتات ويلوحون بالأعلام، ولحقت بنا سيارات الشرطة، وتبعها طابور المقنعين وهم يرددون هتافات ظلَّت تزداد بذاءة وعنفاً.
حين وصلت إلى بيتي وأغلقت الباب خلفي، ترددت صرخات متفرقة أخرى واستمر اللغط لدقائق ثم ساد الصمت.
أيقظتني زوجتي عند الفجر، تمتمت:
- تعال وانظر، هناك غرباء يدورون حول المنزل، وآخرون ينامون قرب السياج.
فتحت الشباك فخاطبني شاب طويل بلكنة هندية وهو يحني رأسه ويتحاشى النظر إلى عينيَّ:
- أرجوك أيها المعلم المبجل، عد إلى الداخل، هناك من يتربص بك وينتظر ظهورك.
قلت باندهاش:
- ولكنني لا أرى أي شخص، لم يبق أحد ممن لحقوا بنا ليلة أمس.
- إنهم يختبئون خلف الأسيجة والجدران والنوافذ، أتوسل إليك يا سيدي.
بعد ساعة غيَّرت ملابسي وحملت حقيبتي وفتحت الباب، فاعترضني شابان يعتمران طربوشين ورقيين، أحدهما طبّاخ من ماليزيا والآخر حلّاق من غينيا.
قلت بامتعاض:
- عليَّ أن أذهب إلى عملي ثم إلى السوق ولديَّ أشغال أخرى.
ردَّ الماليزي وهو يحتجزني:
- لن تخرج يا سيدي، سنُحضر لك كلَّ ما تريد، يمكنك أيضاً أخذ إجازة من العمل.
وأضاف الغيني وهو يمسك مقبض الباب:
- لن تذهب إلى أي مكانٍ أيها المقدس، لقد قرر مجلسنا ذلك.
دمدمت وأنا أحاول إبعاد يده:
- ما هذا الهذيان؟ أي مجلس؟
- مجلس أصحاب الطرابيش يا سيدي، لقد تم تشكيله بالأمس.
حاولت لعشرات المرات بعد ذلك أن أخرج من منزلي ولكن بلا جدوى، كنت أمنع بكياسة، اتصلت بالشرطة لإنقاذي، فقالوا إنهم يراقبون ما يجري بحذر، ومن الأفضل أن أتوارى عن الأنظار.
خلال الأيام التالية، شُيد سياجٌ عالٍ لبيتي بدلاً من السياج القديم، وأقيم قرب بوابته نصب لطربوش معدني صُبغ بكل الألوان، رُسمت لي أيضاً صور عديدة بالطربوش على جدران المنازل وعُلِّقت صور أخرى داخلها، واكتشفت وأنا حبيس منزلي، أنهم نصبوني شيخاً للطريقة الطربوشية أو كاهناً أعلى لها، برغم صراخي في وجوههم مراراً فإنني لا أفهم ما يجري، أريد أن أغادر هذا الكابوس، أريد أن أعود إلى حياتي، أنا رجل بسيط، مسالم، بلا طموحات سياسية، حيادي في كل شيء، لاديني وسأبقى كذلك.
ولكنهم لم يردوا عليَّ، اكتفوا بوضع لافتة أمام باب البيت كتبوا فيها:
«لتكن طرابيشنا من ورق أو من خيش أو قماش رديء، لتكن جرادل بائسة من البلاستيك أو المعدن، ولكننا أسسنا بها مدينة، ستمتد وتتوسّع ولن يستطيع أحد محوها من الخارطة



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى