منذر فالح الغزالي - العولمة وصراع الهوية.

السؤال (هل يمكننا الحفاظ على هويتنا الثقافية في ظل العولمة) يستدعي أسئلة مركزية عن ثنائيات تناولها الفكر العربي المعاصر كثيراً، ونظر لها المفكرون العرب المعاصرون في القرن العشرين, في سعيهم نحو التقدم والنهضة؛ لكنّ النتائج التي نراها على الواقع العربي الراهن هي نتائج عكسية. إذن، لا بد أن هناك خللاً ما في الطرح أو التطبيق، أو هناك عوامل داخلية وخارجية في المجتمع العربي أدت إلى هذا التراجع الحاد في بنية المجتمع العربي فكرياً وسياسيا واقتصادياً. هذه الثنائيات أخذت شكل المتلازمات، أو المتناقضات، مثل الهوية/ التراث، الأصالة/ المعاصرة، نحن/الآخر....
لنعد إلى سؤال الندوة، الهوية. ما هي الهوية؟ وهل حقاً لنا هوية تميزنا عن الأمم الأخرى في عصر العولمة وسقوط الحدود الثقافية؟ وهل الهوية ترتبط بالتراث؟ وإلى أية درجة؟ وهل الجميع، من النخب العربية الفكرية والسياسية، مجمعون على هذه الهوية؟ أم هناك هويات مختلفة تعلل هذه الصراعات الدائمة التي يغوص فيها الواقع العربي؟

الإجابة عن السؤال
في الإجابة عن السؤال الأول أقول: إذا كانت العولمة (الأمريكية) بتقنياتها العابرة للقارات، والفضاء أيضا، استطاعت أن تلغي المسافة الجغرافية بين الأمم، فإنها لن تلغي المسافة التي تفصل بين الثقافات، بل نرى أن هذه المسافة تتعمّق كلما زادت سيولة العولمة جغرافياً.
والعولمة الغربية (الأمريكية بالذات) ما هي إلا استبداد حضارة مهيمنة بالحضارات الأخرى، وبالتالي: كثرة الحديث عن ثنائيات التراث / الهوية، والثنائيات الأخرى المكافئة هو نتيجة من نتائج العلاقة الإشكالية مع الغرب. فالأمم المهزومة تلجأ، في أوقات الأزمات، إلى البحث عن الذات كحالة دفاع سلبي أمام هيمنة الآخر، ونحن – كأمة – اكتشفنا هزيمتنا منذ ما ينيف على قرن من الزمان، منذ أن صدمتنا الحضارة الغربية، في حملة نابليون على مصر. هذه الحالة الدفاعية، تأخذ شكلاً أكثر حدة عند الأزمات الخطيرة، فتصبح العودة إلى الماضي الموروث، والتقوقع فيه، وتمجيد كل ما فيه، والتمسك، به لدرجة التقديس، كملاذ من الآخر، دون أن تراعي الظرف التاريخي وتغيّر المعطيات والخبرات والنتائج الجديدة التي أفرزتها العلوم المختلفة وصيرورة التطور تاريخياً، وأن المشكلات التي واجهت السلف كانت مختلفة، والمعلومات التي أتيحت لهم في زمانهم كانت مختلفة، وبالتالي فإن تطبيقات السلف وأفكارهم ليست مقدسة؛ وبدل أن ننتظم – كأمةٍ - في تراثٍ واحد، صارت الجماعات المختلفة تبحث عن (هوياتها)، فتعمقت الإشكالية، وظهرت الطائفية والعرقية، وتشرذمت الأمة، كلٌّ يتمترس خلف موروثٍ له ظروفه التاريخية، وينظر لشريكه في الوطن والتراث كآخر مغاير له في الهوية، وتحولت حالة الدفاع ضد هيمنة الآخر المستعمر إلى صراعات ضد أبناء الأمة الواحدة؛ هذا من جهة. ومن جهة ثانية، كان للمفكرين العرب في القرن العشرين دور آخر في تشتيت القوى بسبب الصراعات الأيديولوجية، فالبحث عن الهوية، أخذ أشكالاً ايديولوجية، حزبية وسياسية. الماركسيون رأوا الهوية، وبالتالي النهضة، في الاشتراكية، ونظروا إلى الآخرين من ليبراليين وقوميين وإسلاميين باعتبارهم أسباب (تخلف) المجتمع ومعيقي النهضة، إن لم يروهم عملاء للمشروع الرأسمالي الاستعماري؛ والإسلاميون نظروا إلى الماركسيين والقوميين والإسلاميين نظرة مشابهة، وكذا حال المفكرين من الأيديولوجيات الأخرى؛ فزاد الصراع البيني وزاد تشتت الجهود، وتشرذمها. كل هذا والحضارة الرأسمالية الغربية، تزداد هيمنة وسطوة والهوية العربية تنطمس تحت سطوة العولمة.

التراث / الهوية:
نقصد بالتراث العربي: منجزات الحضارة العربية الإسلامية، بكلّ جوانبها العلمية والأدبية والفلسفية والفكرية والروحية والفقهية واللغوية. وهذا التراث يتّسع ليشمل كل الأعراق والأديان والمذاهب والملل، وهو من الاتّساع بحيث يتّسع للعربيّ والكردي والأمازيغي، لليهودي والمسيحي والمسلم، للمتصوفة والأشاعرة والمعتزلة، للسني والخارجي والشيعي.... المشكلة ليست في غنى التراث، إنما المشكلة الحقيقية في: كيف نتعامل معه، ونستفيد منه؟ وكيف نميز بين ما هو جوهر وما هو عرض؟ ما هو ثابت (نسبياً)، وما هو متغير؟ ما هو آني، ابن ظرفه، وما هو دائم مستمر؟
فالثابت وما هو عام وكلي،هو الهوية، والمشتركات التي توحّد الأمة، هو ما يحدد هويتها... يقول د: محمود أمين العالم: "إنّ التغير والتجديد لا يتم من خارج تراثنا، أو بتعبير آخر، من خارج هويتنا الثقافية، إنما يتم داخل هذه الهوية". العرب المسلمون، حين ترجموا علوم وفلسفة الأمم الأخرى، خاضوا حواراً ثقافياً مع تلك الأمم، واستفادوا من التراكم المعرفي الذي وصلت إليه؛ لكن المسلمين عندما انفتحوا على الحضارات الأخرى، أخذوا أشياء وتركوا أشياء، وما أخذوه قرؤوه قراءة إسلامية، وطوعوه لما تتميز به الشخصية الحضارية الإسلامية، عصرئذ، فتحوّلت الفلسفة اليونانية المترجمة إلى فلسفة إسلامية على يد الفارابي وابن رشد. وعلى العرب، اليوم، أن يتعاملوا بالطريقة ذاتها مع الحضارة الغربية.
لكن يجب الاعتراف بأننا لا نملك اليوم حرية الاختيار بين أن نأخذ ونترك. لقد فرض النموذج الغربي نفسه علينا منذ بداية التوسع الاستعماري الأوروبي بوسائل مختلفة، ووجد العرب (والأمم الأخرى المستعمرة أيضاً) أنفسهم أمام عملية تحديث (استعماري) لم تستنبت أسسها في الداخل، بل مفروضة بقوة الخارج المهيمن بما يحقق مصالحه.
إزاء هذه الحالة المتشابكة من صراعات حول الهوية، طائفيا، أو عرقياً، أو أيديولوجياً، وضغط قوى الهيمنة الاستعمارية الممثلة بالعولمة، وإزاء فشل المحاولات التجديدية للتراث العربي، بدءاً من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو، وليس انتهاء بنصر حامد أبو زيد، وحسين مروة، ومحمد عابد الجابري، وإزاء التأخر في مسائل التنمية، والحريات في الأقطار العربية، وإزاء المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، والصراعات الداخلية المصيرية التي تعصف بأقطار الوطن العربي، تبدو الصورة قاتمة، تدعو لليأس، ويغدو السؤال حول الهوية والتراث أو الأصالة والمعاصرة، سؤالاً (ترفيّاً).
لكن، ورغم سوداوية الوضع ومأساويته، يبقى هذا السؤال هو السؤال الجوهري، إن أردنا – بحق- الخروج من مشكلاتنا، والجواب عليه هو الجواب الصحيح للدخول في مراجعة واعية، جادة، ومسؤولة، للخروج من الوضع الراهن الذي يهدد مصير الجميع دون استثناء.

بحث عن الهوية، أم بحث في الهوية:
إذا كان التشخيص السابق للوضع العربي الراهن – وهو ليس تشخيص فردي أدّعيه– بكل تجلياته الاجتماعية والسياسية والفكرية مقبولاً، ويلامس شيئاً من الواقع، فالمشكلة تتبلور –برأيي - في ثلاثة اتجاهات:
الصراع مع الثقافة الغربية (الأمريكية على الخصوص) المهيمنة بقوة الاستعمار بأوجهه المختلفة.
تراجع هدف الوحدة، وظهور تيارات طائفية وعرقية تحمل موروثات تدعو للصراع والخوف من الشريك في الوطن، وبالتالي: تمزيق الحالة القطرية، جغرافيا، وسياسياً، وثقافيا.
فشل المفكرين العرب، في القرن العشرين، على إنتاج حالة ثقافية تتجذر في وجدان المواطن العربي.
لنأخذ الحالة الثالثة ولنسأل: لماذا فشل المثقفون العرب في إنتاج حالة ثقافية عربية تجعل من التراث أداة للنهضة؟ بل لعل السؤال يكون: لماذا كانت الحالة الوجدانية لدى المواطن العربي، تسبق الحالة الفكرية لدى المثقفين؟ ولماذا لم تجد هذه الحالة الشعبية ما يدفعها، ويغذيها بالوعي لتنتج مجتمعاً له هوية قادرة على الصمود في وجه العولمة؟
أجد أقرب جواب على هذا السؤال المتشعب هو أن المثقفين العرب، على اختلاف توجهاتهم الأيديولوجية، لم ينتظموا في هدف واحد حقيقي، يتوجّه للجمهور العربي، على اختلاف توجهاتهم الروحية والوجدانية، ويتركوا صراعاتهم الأيديولوجية جانباً.
لكن الجواب الأهم – برأيي – هو أن المفكرين العرب، دون استثناء، لم يجدوا الوسيلة المناسبة، أو اللغة التي يخاطبون بها وجدان المواطن العربي، فكانت دراساتهم وتنظيراتهم، على ما فيها من أهمية، أشبه بالأساطير، أو الكتب الباطنية، لا تلامس مشاعر ودرجة وعي المواطن العادي، لترتقي به بالتدريج، وكان هؤلاء المفكرين أشبه بالجزر المعزولة، في محيط من الجهل، الذي تسطو عليه ثقافة العولمة بأساليبها المدروسة بعناية.

محاولة البحث عن الجواب:
في تلمّس الجواب على السؤال: كيف نحافظ على هويتنا في وجه العولمة؟ أنطلق من مسلّمة أن هويتنا هي تراثنا، وإذا فشل المفكرون العرب في بثّ الوعي التراثي/ النهضوي المقاوم للعولمة، فذلك بسبب عدم امتلاكهم الوسيلة المناسبة التي تصل إلى وجدان المواطن العربي البسيط لتفرّق له بين (التراث) و(الموروث)، وبين: هيمنة الحضارة الأمريكية، ومنجزات هذه الحضارة العلمية والتقنية، وأن نستخدم منجزات هذه الحضارة في مصلحتنا، ونطوعها ونجعلها أداة من أدوات صمودنا الثقافي، بدل أن نكون مجرد زبائن لهذه المنجزات.
كيف؟ هذا هو السؤال المهم. علينا جميعاً، قبل ذلك على المثقفين والمفكرين العرب، أن ينزلوا من أبراجهم، وأن يتجاوزوا جزرهم النخبوية، ويتحدثوا مع العامة بلغتهم ووسائلهم. إذا نظرنا إلى الحالة البائسة للقراءة في الوطن العربي، من جهة، وإلى عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الهائل، من جهة ثانية – ومعظمهم من الشباب، الفئة الحقيقية المعوّل عليها بالصمود والنهضة– ندرك حجم الإمكانات المهدورة للتواصل مع الجمهور العربي، والتأثير، أو تصحيح التأثير الذي يتعرض له من وسائل التواصل الالكتروني، أحد أهم منجزات العولمة وأخطرها. أولى هذه الوسائل، الشبكة العنكبوتية. يجب أن ينزل المثقفون والمفكرون والكتاب والمبدعون، في مختلف مجالاتهم، إلى الشباب؛ يجب أن يخاطبوهم بلغتهم هم، لا بلغة الفكر المقعرة الصعبة والمملة. يجب أن يكون للفكر النهضوي تواجد في الشبكة تواجد مكثف... لا يعيب المثقف العربي، مهما بلغت درجة ثقافته، أن يتحدث مع الشاب العربي والشابة العربية بمواضيعهم، ومنها، ومن خلال الحديث معهم، لا بد أن يثق هذا الشاب أو تلك الشابة بكلام المثقف، وبالتدريج، ستتحول الشبكة من أداة لضياع الكثيرين وطمس الهوية، إلى اداة جبارة تعوّض تلاشي دور الكتاب والمنبر والمجلة.

منذر فالح الغزالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى