سفيان صلاح هلال - مطابخ المصير.. قراءة في رواية "خريف الجنرال" للكاتب حمدي البطران قراءة

ذكرني بهذه الرواية ما أعلنته الإدارة الأمريكية مؤخرا عن الدور التي لعبته سياسة أمريكا في عهد الرئيس السابق "أوباما" "وهيلاري كلينتون"، وذلك بنشر المحتوى الخاص لإيميلات الثانية، والتي أظهرت كم تدار السياسة العالمية لصالح رؤى ومخطاطات مسكونة بالطموح لصالح كيان معين؛ حتى ولو أدى تحقيق هذا الطموح لإزالة أنظمة مستقرة وتشريد شعوب.
قرأت أكثر من عمل للكاتب الجنوبي الأستاذ حمدي البطران، هو كاتب يمتلك قدرة كبيرة على التأمل، ويستثمر سيرته الخاصة وما اكتسبه من خلال تجربته العملية في نقد الواقع نقدا موضوعيا متفهما الدور الذي يمكن للمعارض الإيجابي أن يقوم به، لاقت روايته "يوميات ضابط في الأرياف" احتفالا نقديا كبيرا، وهي رواية استطاعت توجيه النقد لمنظومة الأمن بواسطة أحد أفراد هذه المنظومة .... وأَعتبرُ هذه الرواية "خريف الجنرال" جزءاً آخرا مكملا لما بدأه الكاتب في روايته سابقة الذكر، غير أن في هذه الرواية، الهم العام يقتنص الراوي من الهموم الشخصية والفئوية ويغمسه في الجموع، حتى أنك لا تجده يتكلم عن مشكلة له دون دمجها في مشاكل شبيهة لمن حوله، وربما كانت أروع اللحظات تلك اللحظة التي التقى فيها زوال مجده كلواء سابق مع زوال مجد زعيم كبير كصدام حسين. لا يمكن الجزم أن العمل سيرة ذاتية؛ فمن الصعب أن يبوح لواء شرطة صعيدي ورجل مجتمع بعجزه الجنسي الحقيقي، والذي وظفه كرمز على التخاذل الفردي مقابل التخاذل العام، كما لايمكن استبعاد الاستفادة من تجربة الكاتب الشخصية، خاصة في تلك التفاصيل التي يرى فيها الفرق في ديناميكية المجتمع عبر مرحلتين: مرحلة كان فيها مسؤولا صاحب سلطة، ومرحلة صار فيها مواطنا عاديا. وفي الحقيقة هو وإن كان يرى منافع في موقعه كسلطة، لكنه يرى أنها أيضا أعاقته عن اكتشاف الحياة بوجهها الحقيقي "في الصباح لم أجد ما أفعله سوى الاستماع إلى برنامج يذيعه التلفزيون، كنت قد سمعت عنه ولم أشاهده قط، لم تتح لي ظروف العمل..." إن عمله الذي اندمج فيه عزله عن الحياة العامة؛ حتى أنه حين خرج بدأ يكتشف الحياة من جديد "في الشارع رأيت أشخاصا أعرفهم منذ زمن بعيد، أراهم للمرة الأولى! وكانوا يصافحونني ويسلمون عليّ، كلهم من أقاربي ... ... ... بعد أن خرجت إلى الشارع العمومي، وجدت الشارع محفورا كله، كانت عملية السير صعبة وتتطلب مهارة خاصة لحفظ التوازن، الغريب أنني لم ألاحظ كل هذا في المرات الماضية!" يستغرق الكاتب مسافة طويلة في الرواية وهو يعيد اكتشاف الحياة خارج دواليب العمل بل حتى اكتشاف الناس داخل وخارج العمل، وإذا كان في "يوميات ضابط" استطاع اكتشاف أن الحلول القانونية في المجتمع هي مجرد شكليات وأوراق في مجتمع له طريقته في التعايش مع نفسه ومشكلاته وحلولها حتى أن المؤسسة نفسها بكل قوتها القانونية والتنفيذية تستعين بقوى المجتمع والتي لها قوانينها الخارجة عن القانون في حل أزماتها، فأنه في "خريف الجنرال" يكتشف إنه يتعامل مع تركيبة قوامها الندالة تحركها المصالح والعقد، وهذا ليس معه فقط من خلال زملاء العمل الذين تعالوا عليه لمجرد خروجه من الخدمة، أو أقاربه الذين كل همهم أن يظل في منصبه ليقضي لهم حاجاتهم، إن المجتمع حتى مع رموزه الروحية يمتاز بالخسة، فالشيخ الذي منحهم قوة روحية لمواجهة محدثات الفواجع "فيأوقات الهدوء كانت القرية تنسى خدماته ولا تحفظ له الجميل، كانت تتركه يجوب شوارعها ليلا بمفرده بدون دليل من أهلها، صادفته مرات كتل الطين التي يضعها الفلاحون أمام بيوتهم لصنع قوالب الطوب اللبن، فيدوس فيهاالشيخ، وعندما يقترب من النهاية يدرك أنها ممتدة ولن تنتهي، فيعود راجعا مرة أخرى. ويعود إلى بيته وأكوام الطين عالقة بمداسه وجبّته، ويحدث أن يكون صاحب الطين واقفا أمام بيته وحوله أولاده يشاهدون الشيخ وهو يقطع معجنة الطين ذهابا وعودة، ويكتمون ضحكاتهم الساخرة". تتعدى الرواية المجتمع المحلي أيضا وتنفذ إلى قضايا الوطن العربي عامة في عملية مزج فني رائعة بين عمليات حيوية مثل الجنس والخبيز والطبيخ ومجريات الأحداث المحلية والفردية والعربية والعالمية، ففي حين كانت زوجته تخبز لهم ما يحتاجونه بعد ما تملص بائع الخبز من إرسال حصتهم بعد خروج اللواء من الخدمة، كانت القنوات التليفزيونية تقدم غذاء أخر يلهي الجمهور عن مشاكل حقيقية باستضافة دجالين يفسرون الأحلام ويتكلمون عن أعمال شعوزة في وقت تدك فيه طبول الحرب دولا عربية.
"فتحت التليفزيون، فضائية عربية، ظهرت مذيعة ومعها رجل قصير، خيل إلي أنه قزم، لم تظهر الكاميرا كل جسده، كان يرتدي ملابس غريبة تشبه ملابس الأطفال، وبينهما منضدة، كانا صامتين ويستمعان باهتمام إلى صوت إمراة تتحدث وغير موجودة معهما". الغريب أن الذين كلموا الدجال والمذيعة ما بين شاكين انكسارات خاصة، أو هلاوس عامة، فدكتورة عراقية ومثقفة لدرجة أنها استاذة إعلام تحلم بشارون يعطيها قلما!
عندما انتهت زوجتي من عملية خبز العيش البلدي كانت منهكة. دخلت الحمام وخرجت، وشعرها ملفوف بالفوطة، ودخلت الى غرفة النوم رأسا، كنت أنا أشاهد التليفزيون وكان المذيع قد أعلن ان الرئيس الأمريكي قد أمهل صدام حسين 24 ساعة لمغادرة بغداد هو عائلته، كانت رأسي وقتها تلف وتدور، فقد نقلت المحاطات الفضائية إنذار الرئيس بوش للرئيس صدام على الهواء مباشرة، وكان وجه بوش لا ينبئ عن جديته، كما كان يخلو من الصرامة المفترضة فى رئيس دولة على وشك إعلان الحرب.
- الغريب أن إحدى المحطات الفضائية نقلت على الفور صورة لأحد الزعماء العرب وهو يعلن أنه نصح صدام بمغادرة بغداد لأنهم لا يمزحون. (شعرت بخيبة أمل، ولم ألتفت الى زوجتي وهى تعبر الصالة فى طريقها الى حجرة النوم)، ولم أسالها كما هو المعتاد عن حكاية الخبز، كما أنها لم تحكى لي هذا الأمر." إن النكوص الجنسي الذي أصاب الراوي كان معبرا عن خيبة الأمل في الواقع العام المحيط، الواقع المشغول بتفاهات إعلامية، وانكسارات سياسية، وانصراف عن الاهتمام بالشأن العام والانغماس في الفردية، وهنايرحل الكاتب لاستخدام رمزية أخرى هي رمزية الطبخ، والطبخ في لغة عامة المصريين له دلالات أخرى غير ما تعنيه االكلمة من إعداد لأنواع الطعام من عناصر مختلفة تعد بطرق معينة لها اسرارها في مكان مخصوص هو المطبخ؛ لتخرج أكلات لها خصوصيتها، فقد درج أن يشير المصريون بهذه الكلمة إلى ما يخطط له سريا للوصول لغايات علنية في السياسة والمجتمع، والكاتب في إشارة للمطابخ العالمية في السياسة يدمح بين سقوط سلطانه وسقوط الرئيس السادات وسقوط الزعيم صدام، فقد صار في الفترة الأخيرة بتوجيه زوجته يجهز بعض أشياء المطبخ وكان في نفس الوقت يستمع لبيانات الأخبار وفي نفس اللحظة يطرأ على عقله مصائر سابقة لرؤساء تخلصت منهم السياسة العالمية بطرق سرية مطبوخة جيدا، "هل صحيح أنا سأخرط البصل ؟
- وما فائدة المبشرة؟
- المبشرة مثل المفرمة التي أستخدمها السادات. (أى واحد يخرج على النظام أفرمه).
وفعلا فرم كثيرا، بطل الحرب والسلام. أول عربي ينتصر على الإسرائيليين، عبر القناة، وقلب المعايير، وكان لابد أن ينتهي دوره بعد ذلك ..."
لا شك أن في كلام المبدع إشارة تربط بين زوال حقبة السادات وزوال حقبة صدام
- "سيداتي سادتى . معنا اليوم المعلق العسكري اللواء الركن الدكتور خبير الإستراتيجية العسكرية السيد …….
- أهلا وسهلا.
- هل تعتقد أن العراق فى موقف صعب؟
- بالعكس الموقف العراقي ممتاز جدا. ونجح الجيش العربي العراقي فى إيقاف تقدم الأمريكان. وكما قال الرئيس العراقي: إن الحرب لم تبدأ بعد.
- هل تعتقد أن الحرب ستطول؟
- طبعا والشعب الأمريكي والرأي العام يضغط على الرئيس بوش لأنها الحرب.
وجاءت زوجتي فى الساعة الثانية."
لكن المطيخ لا يقتصر على تنحية وتصعيد الزعماء الكبارفقط، لقد صار المطبخ هو المكان الذي يفرز لنا كل مصائرنا. حتى وصل بنا إلى أن جلس الدجال ساقط الإعدادية الذي رفعه الدجل وما اكتسبه من ممارسته، للجلوس واللواء رجل القانون أمام المحافظ لتسوية موضوع تسليم إرهابي نفسه!.
ويحاول أبناء عمومته في طبخ زواج بين ابن اللواء وبنت عمه ... كما أن المطبخ هو الذي جعل ابن دفعتهم يجلس ليقيّمهم ويحدد مصائرهم في البقاء أو العزل من الخدمة ... وهاهو صديقه الدكتور المثقف يطبخ صفقة لزميلة لتوظيفها، سيكتشف أن الإرهابي كان يختبئ في مزرعته التي يصر على امتلاكها رغم ما تحققه من خسائر مالية يتغرب ليجلبها من الخليج! والمخبر يطبخ صفقات لمحامين وزملاء.............
قد يكون بطريقة غير مباشرة، اكتشف الراوي أن عليه أن يكون جزءاً من المطبخ لعله يستعيد رجولته ودوره المفقود في إمداد الحياة بطاقته، الذي يؤمن أنها لم تنفذ بعد، وأنه سليم البنية والنفس. كما أنه يحتاج الطبخ لتأمين مستقبل أبنائه، لهذا لم يقاوم كثيرا الانضمام للحزب أو السير مع صديقه لتسوية قضايا تم الحكم فيها على أخيه بالحبس، بل لم يمانع أن يتعرف على أخرى غير زوجته ويضرب معها موعدا غراميا حتى وإن نسي طبيخه الخاص يحترق ويكاد يحرق منزله وهو يتصل بها. بل خرج للبحث عن حل لمشكلته الجنسية عند الأطباء.. لكن هل يجدي كل هذا مع واقع وصلت فيه المطابخ لدرجة أنها تكذب على الطباخ وتستغله؟ فقد كان اللواء أحد شهود تسليم قائد الجناح العسكري للإرهابيين نفسه بمحض إرادته وبناء على مبادرة من أبيه توسط فيها هو شخصيا، ولكنه ها هو يقرأ في الجرائد أثناء عودته من رحلة العلاج : تعيين حكومة عراقية مؤقتة. وفي خبر آخر: القبض على قائد الجناح العسكري للجماعة الإرهابية، تمت أمس أخطر عملية قام بها رجال الأمن، فقد دلت التحريات على قيام مجموعة من أخطر الجماعات المسلحة بالتواجد داخل وكر على أطراف الصحراءالغربية وعلى الفور تم إعداد خطة اشترك فيها ........... " كانت نهاية الرواية تعلن عن استمرار تردي الواقع، فالراوي يعلم أنه لم تكن هناك خطط، ولم تكن هناك معارك، ولم يعثر على اشخاص أو أوراق تنظيمية، وأن ما يسمونه بقائد الجناح مجرد مراهق ضعيف البنية، وأنه اشترك في عملية طبيخ فاسدة ....










تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى