كاهنة عباس - هل يمكننا التفكير بمفردات اللغة العربية ومعانيها ؟

بعض المفكّرين يوهمونك أنّ اللّغة الّتي يكتبون بها قادرة على التفكير، فتتابع هندسة أفكارهم وأسسها وما اتّخذته من أساليب ، كي تنشأ فكرا له كيان ينبع من صلب النّصّ.

المقصود إذا ، ليست النّصوص النّاقلة لأفكار معروفة متداولة وسابقة لكاتبها ، لغاية تأويلها أو نقدها من طرفه،ولا تلك الّتي تكتفي بوصف وتشخيص واقع معين في زمن معين وطرح الحلول الممكنة ، ولا النّصوص الأدبيّة الّتي تتناسل من الدّاخل بحثا عن صيغ جديدة للتّعبير ،فلا تنتج فكرة ولا أفكارا إلاّ في إطارعالمها المتخيّل ،بل المقصود هي النّصوص الّتي تنطلق للبحث عمّا يتجاوزها أي عمّا يخفيه الواقع من أسرار ،المكتوبة باللّغات الاجنبيّة والّتي وصلت إلينا بفضل الترجمة .

كيف يمكن للّغة أن تكشف لنا المستور والمحجوب ،فتنصاع لحيرتنا وتساؤلنا وتطوّع نفسها كي تصبح أداة للبحث والتّرحال وتتّخذ لنفسها هيئة الافكار حتّى تعكس لنا رؤية للعالم ؟

هل الأمر متوقّف على طبيعتها، لوجود لغات أكثر قابليّة لخلق أفكار من أخرى ؟ أو على طريقة تعاملنا معها شريطة أن نستعملها لخدمة الفكر مثلا ؟ أم هو مرتبط بوجود تراكم معرفيّ على امتداد التّاريخ، يبيح لها ذلك التطوّع ويبيح لنا ذلك الاستعمال ؟أم هو متّصل بمدى عبقريّة المفكّر، على أن يكون مهوسا بخلق وتبليغ الفكرة بل الافكار الّتي تسكنه؟

يمكن القول أنّ الاجابة عن تلك الاسئلة تبقى رهينة المهمّة الّتي نوكلها للّغة، على أن نتعامل معها كأداة بحث عن الحقيقة ،لا على أنّها مضمونها ،وهو ما يفسّر لنا الاسباب الّتي أدّت ببعض الفلاسفة الى خلق مفاهيم ومعان خاصة بهم لم تعهدها لغاتهم قطّ ،ولم طرحت عبر تاريخ الفلسفة مسألة العلاقة القائمة بينها وبين الواقع والحقيقة؟

بيت القصيد إذا في ما ذكرنا ،ليس تناول هذه المسائل الشّائكة، بل معرفة إن كنّا قادرين على التفكير باللغة العربيّة ومن داخلها ،أم أن مثل هذه المهمّة لا يمكن للعربيّة الاضطلاع بها لأسباب عديدة لا تحصى ولا تعدّ ؟

وقبل الاجابة عن هذا السؤال ، لا بدّ أن نتعرّض ولو بإيجاز الى بعض خصائص اللّغة العربيّة كما ذكرها المفكّر محمد العابد الجابري في كتابه " تكوين العقل العربي" وهما حسب رأيه خاصيتان : لاتاريخيّة اللّغة العربيّة وطبيعتها الحسيّة ، فقد قنّنت اللّغة العربيّة في عصر التدوين حسب قواعد رياضيّة صارمة ودقيقة، انطلاقا ممّا اعتادته القبائل العربيّة من حياة في البيئة الصحروايّة ، إذ جاء في كتابه المذكور ما يلي :" إن العالم الذي نشأت فيه اللغة العربية أو على الاقل جمعت منه، عالم حسي لا تاريخي، عالم البدو العرب الذين كانوا يعيشون زمنا ممتدا، كامتداد الصحراء زمن التكرار والرتابة ومكانا بل فضاء ( طبيعيا وحضاريا وعقليا )فارغا هادئا ،كلّ شيء فيه صورة حسيّة بصريّة سمعيّة، هذا العالم هو كلّ ما تنقله اللّغة العربيّة الى أصحابها اليوم وقبل اليوم وسيظّل هو هو ،ما دامت هذه اللّغة خاضعة لمقاييس عصر التدوين."(1)

كيف يمكن مقاربة الواقع ووصفه من خلال لغة لاتاريخيّة، تحكمها قواعد رياضيّة عصيّة على التّغيير ؟ وكيف يمكن إخضاعها الى التفكير إذا كانت ذات طبيعة حسيّة بصريّة سمعيّة وكنّا نجهل أصولها أي التّطور التّاريخيّ الذي عرفته ألفاظها ومعانيها منذ نشأتها ، كي نجعلها أكثر مرونة وانفتاحا ،قابلة للشكّ والتعثّر والتفكّك والانبعاث والخلق من جديد؟

لقد استطاع بعض المفكّرين ، على امتداد الثقافة العربيّة الاسلاميّة، تجاوزهذه العقبات ولو نسبيّا من وجهة نظرنا ،بأن أسّسوا نصوصا" تفكر أو باعثة على التفكير " مثل المقدمّة لابن خلدون (2)التي أنتجت تعريفا جديدا للتّاريخ في عصرها ،وما انّجّر عنه من صياغة مفاهيم عديدة من بينها العصبيّة، أو رسائل أخوان الصفاء(3) ومقاربتها للمعرفة باعتبارها جامعة للعلوم والفلسفات والاديان وما أنتجته أيضا من مفاهيم علميّة وفلسفيّة وعقائديّة، لكن تركيبة اللّغة العربيّة وقواعدها المضبوطة تبقى قائمة على التّجريد وخاضعة لقواعد رياضيّة رافضة للصيرورة الزّمنيّة حاملة لما هو حسيّ وعابر ،فهل يكتفي دورها، لتلك الاسباب ،على الاخبار والنقل والوصف، لانّها تفتقر لاليات تفكير خاصة بها ،نظرا لانفصالها عن الواقع والتّاريخ ؟كيف نفكّر انطلاقا من مفردات اللّغة العربيّة وألفاظها ومعانيها إذا ؟ وهل علينا الاقتداء بالجانب التّنويري من تراثتا بتناول استعماله للّغة العربية، أم الاقتداء بتجارب ثقافات أخرى عريقة أفلحت في إعادة صياغة تراثها، بخلق مفردات حديثة للاجابة عن المشاكل الرّاهنة ، مثل الهند باستعمال اللغة الانقليزية أحيانا(4)والصين (5)؟



كاهنة عباس


المراجع :

(1) تكوين العقل العربي ، محمد عابد الجابري ،الصفحة 90، مركز دراسات الوحدة العربية.

(2) مقدمة ابن خلدون ، دار الجيل ، بيروت ، الصفحة 141 وما بعدها .

(3) رسائل إخوان الصفا ، دار صادر ، المجلد الثاني .

(Le sens du bonheur Krishnamatri , éditions Stock,2006, ( 4
traduit de l'anglais par Colette Joyeux
(La voie et sa vertu, Tao-Tê-King, textes chinois présentés (5

1979 et traduits par François Houang et Pierre Leyris , éditions du Seuil.





كاهنة عباس
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى