سعد هادي - المرآة السوداء.. قصة قصيرة

حين انتهى من كتابة الرسالة وأيقن أن كل شيء قد انتهى، انتبه إلى وقع خطى شبح المرأة الغريب وهو يجتاز الممرات بين الغرف صانعاً دوامة من ريح خفيفة اهتزت لها ستائر النوافذ وزجاجها ومزاليج الأبواب وأرجل الأرائك وأسلاك المصابيح وتحرّٓكت بتأثير منها صحائف الطعام والآنية والقدور والملاعق والسكاكين في المطبخ متآلفة في نواح حزين كأنها تودع المرأة لآخر مرة أو تشيعها إلى مثوى مجهول، وبعين خياله رأى الجسد الهلامي للشبح وهو يطفو في الموجات المتلاحقة للأصوات والظلال وروائح الأشياء ثم يحلق في الفضاء بعيداً فوق سطوح البيوت والمداخن والثياب المهجورة على الحبال منذ أيام ويتحول إلى نقطة سوداء ما تلبث أن تختفي. وكعادته كل ليلة قبل أن ينام، أخرج الرجل علبة معدنية من تحت سريره ذي الملاءات الزرق الغامقة ووضعها أمامه على المائدة ثم أفرغ محتوياتها وتفحصها تحت النور الضئيل كأنه يحاول أن يزيح عنها آثار سحر قديم أو يمسح عنها ظلالها العميقة التي تحولت إلى ما يشبه القشور، وبعد لحظة طويلة من الصمت أعادها إلى رحم العلبة الأجوف مردداً مع نفسه في صوت خافت أسماءها الشائعة والسرية: مكحلة، منديل ذو حاشية مذهبة، زجاجة عطر، خصلة من شعر أسود، مرآة ذات غطاء بنفسجي عليه صورة وردة، وفي خضم الموسيقى التي كانت تعزفها كائنات المطبخ المترهلة والصخب الذي تحدثه الملابس والأغطية رفع الرجل غطاء المرآة فسقطت على الأرض صورة الوردة اليابسة وأبصر فوق المرآة السوداء التي احتفظت بالجمال الأزلي لسنوات وجهاً كالحاً لشبح المرأة الغريب الذي حلق عالياً في السماء.



* من المجموعة الأولى "طبيعة صامتة" التي صدرت عن دار الخريف في بغداد - عام 1990.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى