سلوى الصرحي (بنت اليمن) - الخروف الأزرق

أطلت برأسها الصغير الواجف والحيرة تنطق من وجهها.. توقفت هنيهة وبدت عليها علائم التفكير المضطرب.. كان القلق يمزقها والخوف يضنيها والمستقبل يرعبها وليس أمامها خيار آخر دغدغت أنفها روائح البخور المحترق وانعكست في عينيها صور دامعة لشموع مضيئة..كان المكان الذي تجلس فيه أشبه بوكر ثعلب بري.. فقد شذ في شكله عند البيوت القليلة الأخرى المجاورة وإن لم تكن بأحسن حال منه.. الظلام يجثم على جميع أنحائه بينما تبكي الشموع الشاهدة بصمت وترسل دموعها للمعذبين والحيارى نهراً من الألم والضياع.. «الكنبة» المهترئة التي جلس عليها هي وأخريات أمثالها تتوء بحملها ويعلو أنينها معزوفة نائحة يبكي لها الكبار وينام عليها الأطفال..الأصوات الهامسة تتأوه.. تشكي.. تعلو حيناً وتتلاشى حيناً آخر.. لقد أصبحن جزءاً من هذا العالم المغمور المليء بالسحر والكذب والدجل وأصبحت هي من زوار هذا العالم منذ أمد ليس بالبعيد.. وتنهدت وهي تتذكر الأيام والليالي.. الشهور والسنين التي قضتها في انتظار ذلك الوهم الكاذب الذي لم يأت وربما لن يأتي.. لن يأتي وفكرت بفزع: يالله إن كان ذلك صحيحاً.. هل سأعيش حياتي منتظره؟ وزوجي وأهله والناس ماذا سيقولون؟ وإلى متى أظل معلقة بين الأمل واليأس.. بين الرجاء والخيبة؟.وشدت «ستارتها» البالية برعب وهي تفكر في المجهول.. ودارت عيناها في من حولها بلا هدف والفراغ يملؤها وتصعدت روائح البخور قوية كثيفة لتحجب الوجوه الجاحظة المحدقة بها ويتراقص لهب الشمعة الباكي وهي تتأملها بيأس وقلبها يحترق.. وترقرقت دمعة حارة في ماقيتها وخبا نور الشمعة لهنيهة ذارفة دمعة صافية انحدرت على الطاولة العتيقة.. بينما كانت دموعها هي تنحدر ساخنة مالحة لتبلل أطراف «لثمتها» الموضوعة بإهمال كل وصفة ودواء.. ومازالت كماهي.. لم يجد ذلك نفعاً سوى أن أضاف غضوناً من المعاناة إلى وجهها الصغير وجبالاً من الهم فوق قلبها المتعب العليل.. زوجها لم يعد يحتمل.. رغم أنه لم يقل شيئاً.. هو راضٍ ومتفهم.. لكنها تعيسة ومعذبة.. هو لا يقول شيئاً ولكنها تعرف أن عينيه تقولان أشياء.. ماذا تعمل؟ وكيف تتصرف؟ لقد لجأت إلى القريب والبعيد.. إلى الصديق والعدو ولكن..أحنت رأسها بخضوع وهي تسمع تلك الأصوات للمرة المائة وهي تصرخ في أذنيها بوح
تعالى الهمس حواليها وهي تسمع وقع أقدام هادئة تقترب وحفيف ثوب يبعث على الرهبة والصمت.. وحدقت العيون بالباب الكئيب وماهي إلا لحظات حتى ظهرت امرأة في منتصف العمر.. تطلعت إليها بفضول.. كانت امرأة ضخمة هادئة يعلو وجهها الصلابة والثبات.. تلبس رداء أسود وتلف رأسها بطرحة سوداء بخرز ملونة، كانت تحمل المبخرة في إحدى يديها وتشير إليها باليد الأخرى فقد كان دورها..نظرت إلى الوجوه الميتة حولها تلتمس نظرة تشجيع أو حتى عزاء وعندما ارتدت نظراتها خائبة نهضت وهي تلملم أطراف «ستارتها» وتسوي من وضع «لثمتها» ولسانها يهذي بكلمات محتضرة وحانت منها التفاتة إلى الشمعة وتابعت دمعتها التي تساقطت بوهن ثم خطت وراء المرأة صامتة..الممر ضيق والرطوبة تخنق الأنفاس رغم رائحة البخور الطاغية وشعرت بغثيان حاد يعتريها من جراء هذا الجو الخانق ولكنها مضت صامتة.. وسرعان ماتوقفت المرأة وأشارت إليها بالانتظار، وطرقت باباً مغلقاً بإحكام وارتجفت المرأة وراء الباب، ولم يطل انتظارها فقد خرجت وهي تدعوها للدخول وأحست بأن قدمها لم تعد قادرة على حملها..وأصلحت من وضع «ستارتها» للمرة العاشرة وخطت نحو الباب.. لم تر شيئاً في بادئ الأمر فقد احتقنت عيناها بالدمع من جراء البخور.. واخنقت معالم الغرفة في ضباب خانق.. واحتوتها نوبة سعال حادة سرعان ما انتهت عندما جاءها ذلك الصوت يأمرها بالجلوس وجلست صاغرة لا تجرؤ على رفع عينيها.. وساد صمت رهيب.. وعندما انقشعت موجة الدخان الأولى شعرت ببعض الراحة وجاءها صوته من إحدى زوايا الغرفة المظلمة يسألها: ما المشكلة؟.لم تجرؤ على النظر وأجابت بوهن: زوجي.
أكملي.. يريد طفلاً..صمت ولم يجب.. وحاولت هي أن تجيل النظر في هذا القبر المرعب.. لا نافذة ولا حتى ثقب لمنفذ هواء.. وأرتعش لهب الشمعة مع ارتعاشه قلبها وهي ترنو بطرف عينها إلى الزاوية المظلمة.. ولم تتبين شيئاً سوى شبح جثة الجالس يكتنفه السواد.. وخفضت عينيها بسرعة عندما بدأ في الهمهمة ومناداة ملوك الأنس والجان وارتفع صوته منذراً وهو يلقي بحنفة من البخور في المبخرة، ووضعت يدها على فمها خوفاً من القيء ودار رأسها وأسماء الجن والشياطين تطن في أذنيها.. لم تدر ماذا يقول أو حتى ماذا يفعل، إنها تريد طفلاً وهذا هو ما جاءت من أجله.. لسوف تتحمل عدة دقائق أخرى وعندها ينتهي الكابوس.. نعم سينتهي.. ولم يتركها تذهب بعيداً فقد خاطبها بنفس ذلك الصوت الآتي من أجواف القبور قائلاً: ستلدين عندما تذبحين خروفاً أزرق..! عبرت الكلمات ممر أذنيها بدون معنى.. اصطدمت بجدار الممر مرات ومرات تبحث عن صدى لا معناها وتلاشت جوفاء.. خروف أزرق!!!وأنه أخبرها بأنها ستلد عندما تعود إلى بيتها الآن لما كانت أكثر دهشة مما هي عليه الآن.. أتراه يمزح؟.وهل هناك خروف أزرق؟ كاد السؤال أن يفلت من زمام شفتيها لولا مخافتها من غضبه واكتفت بسؤاله قائلة: وأين أجد هذا الخروف الأزرق؟أجابها بلهجة يشوبها الضيق والغضب: ابحثي وستجدين..وعندما أدركت بأنه ينتظر ذهابها نهضت بتباطؤ.. وفي عقلها يكمن ألف سؤال وسؤال، تتحرق لهفة لسؤاله إياها.. هل ستلد حقاً؟ وهل ستبحث طويلاً؟ وهل.. وهل.. وهل؟؟؟ ولكنها تخاف ذلك الشيخ الصامت في زاوية الغرفة ومضت في نفس الممر الضيق لتقابل ذات المرأة الضخمة وتحاشتها منفعلة.. لم تعد ترى تلك الوجوه الميتة الصفراء ولم تعد تسمع الهمس القاتل.. كما لم تعد تشم الرائحة الخانقة، كان طفل الأمل الصغير الذي حملت بترعرعه في تربة قلبها وباحتضانه بين كتفي يديها.. كان يلفظ أنفاسه الأخيرة وكان لهب الشمعة يرقص الرقصة الأخيرة.. وحامت حشرة حول اللهب ما لبثت أن احترقت بنارها وخبا اللهب.. لفظ أنفاسه الأخيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى