بلال عبد الهادي - مقامات الحريريّ

عبد الفتاح كيليطو اسم غريب التركيب لكاتب من المغرب العربي. لا يحبّ الكلام كثيراً، ولا يبدو أنّه من هواة هدر الورق لذا فهو لا يكثر من الكتابة، مؤلفاته قليلة العدد والأوراق، لأنّه يميل إلى فعل القراءة ربما أكثر من فعل الكتابة، فهو قارىء قبل أيّ شيء آخر، وكلّ مؤلفاته ليست إلاّ قراءة فطنة لما وراء السطور.
قد لا يكون سمع به البعض لأنّه ليس من عشّاق الجلبة والأضواء، ولا يرى أن المثقّف الكبير يفترض به أن يكون نجماً تلفزيونياً أو إعلامياً تلعلع حنجرته هنا وهناك. يكفيه نفض الغبرة عن نقطة من التراث لم ينتبه إليها أحد، أو يشير إلى فكرة في نصّ لم يلتفت إليها أحد رغم أنّها تفعل فعلها في باطن الثقافة العربية. لا يحبّ الزخرفة ولا البهرجة، أسلوبه متقشّف وبسيط إلى حدّ بعيد، ولكنْ كما يقول المثل اليابانيّ "ليس سَهْلاً أنْ تكون سَهْلاً "، لأنّ ذلك يتطلّب جهداً يعرفه من يملك زمام نفسه حين تفلت نفوس الناس من أَزِمَّتِها.
كلّ كتاب جديد يصدر له يكون بمثابة حدث ثقافيّ نبيل وجميل، ولقد عرفت قيمة أعماله النقدية "لجنة العويس" فمنحته جائزتها في الموسم الماضي، من غير سعي منه، فهو لا يستميت في سبيل نيل جائزة، ولعلّ عبارة كونفوشيوس حكيم الصين تنطبق عليه تمام الانطباق وهي تقول:" ليس المهمّ أن يعرفك الناس، المهمّ أن تعرف الناس"، وكيليطو من خيرة العارفين بناس التراث العربيّ. يعمل بحبّ ودأب كما ترافقه في عمله دهشة لا تعرفها إلا عيون الأطفال. يقول الروائيّ المصريّ جمال الغيطاني عن أعمال كيليطو ما يلي:" تحقّق لي كتابات عبد الفتاح كيليطو متعة متعددة الآفاق، فهو دارس متمكّن للتراث العربي، كما أنه ملمّ، مطّلع على الكتابات النقدية والمناهج الغربية الحديثة خاصة في فرنسا، كما أنه أوتي موهبة التحليل والسرد الشيق، بحيث تحقق قراءة النقد الأدبي متعة لا تقلّ عن قراءة الإبداع من رواية وشعر". وما يشعر به جمال الغيطاني إزاء ثمرات كيليطو المكتوبة يشعر به، فيما أظنّ، كلّ قارىء لمؤلفاته التي لا تصل إلى لبنان إلا بشقّ النفس، فأنت لا ترى من كتبه في لبنان إلاّ ما قامت " دار الطليعة" بنشره، وعليه فإنّ الحصول على كتبه يحتاج إلى يد مهاجرة تأتيك بطريف إنتاجه.
عبد الفتّاح كيليطو كاتب بلسانين، باللسان العربيّ والفرنسيّ، وهو على دراية أيضاً باللغة الألمانية، متمكّن جدّاً من التراث العربيّ الثريّ والشيّق ويمارس في النقد ما يمكن أن يسمى بـ "تعفير شجرة التراث"، وأهل القرى يعرفون "تعفير" شجرة الزيتون، بعد أن ينتهي قاطفو حباتها من عملهم، تبقى عدّة حبات تفلت من ضربات "الشبّوط"، ثمّ يأتي فيما بعد أشخاص ثاقبو النظر ليجمعوا الحبّات الباقية. لا يختلف فعل كيليطو عن فعل "المعفّر" الذي يلتقط الحبات المتوارية التي لم تنتبه لها عين أحد ويعرضها عرْضا شهيّ المذاق في تصانيفه؟
كتبه دالة على هويته الثقافية المتمادية، فالرسالة التي قدّمها لنيل شهادة الدكتوراه في باريس كانت عن "النسق الثقافيّ في المقامات". والمقامات راهناً هي فنّ منبوذ، كلمات المقامات لا يشفق عليها أحد وكأنّها جنس ناقص أو عورة لا بدّ أن نخصف عليها ورق الإهمال. كيليطو مثقّف كبير لذلك التفت إلى قراءة المقامات ولم يعاملها معاملة اللقطاء كما عاملها أو تعامل معها بعض المبهورين بأشكال الغرب الثقافية. أخذ كيليطو على عاتقه، وهو المأخوذ بالمنبوذ من التراث العربي، الكتابة عن المهمل في الثقافة العربية، وله كلمة دالة تعبر عن رأيه في صنف المقامات التي ابتدعها بديع الزمان الهمذانيّ ثم نضجت معالمها الفنية وأينعت على يدي القاسم بن عليّ الحريريّ. حين سئل كيليطو:" لو أنّ مكروهاً حلّ بمكتبتك وكانت لديك فرصة إنقاذ كتاب واحد، فأيّ كتاب ستختار؟ أجاب: ربما مقامات الحريريّ، إنه أكبر كتاب عربيّ منذ كتابته حتى حلول القرن العشرين".
وهو كرّس للمقامات أكثر من كتاب إذ له كتاب بعنوان "الغائب، دراسة في مقامة للحريريّ" درس فيه دراسة جذابة ومفصّلة "المقامة الكوفية"، وكان كتابه أشبه باليد الحانية التي توقظ المقامة من "غيبوبة دامت سنوات". المؤسف والمفجع في واقعنا العربيّ هو أنّ هذه الغيبوبة لا تنال فقط من جسد المقامات!
وكيليطو على اهتمامه العميق بالتراث يعرف أن يد التراث وحدها لا تصفق لذا فهو تعمّق في دراسة المناهج الغربية المتعددة، وهضمها وتمكن من استخدام أدواتها النقدية بطلاوة وسلاسة ملحوظتين لأنّه لم يدرْ ظهره لتراثه، ولم يشعر على المستوى الفردي بدونية إزاء الآخر أو ينبهر ذلك الانبهار المضرّ بالنظر، ولم يفتنْ لأنه يعرف "أنّ الفتنة حجاب" على ما كان يقول الجاحظ الذي لا يكفّ كيليطو عن أخذ مشورته الأدبيّة في كلّ ما يكتب، عبر الرجوع إلى أعماله للاسترشاد أو للاستشهاد.
لكيليطو كتاب بعنوان " العين والإبرة" وهو دراسة لبعض حكايات ألف ليلة وليلة، ولقد استوحى عنوان كتابه من عبارة تُخْتَتَم بها أكثر من حكاية شهرزادية وهي: "حكايتك حكاية عجيبة لو كتبتْ بالإبر على مآقي البصر لكانت عبرة لمن اعتبر". وعبرة العبارة تليق أيضاً بكتابات عبدالفتاح كيليطو النقدية.

# د. بلال عبدالهادي



بلال عبد الهادي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى