إسراء غاندي - بيتٌ عارٍ.. قصة قصيرة

«إن كُنتَ تملِكُ بيتًا يأويكَ فاحمدِ ﷲ؛ أحدهم ليس لديهِ إلَّا عالةٌ وعالة!».
_عالة الأولى بِمعنى الفقر، والثَّانية شبه خيمة من الشجر يُستتر بها مِن المطر.

وِسادةٌ قاسيةٌ مِن أكياسِ الخيش المحشوَّةِ بِالطوب، وروائحٌ قذرةٌ نفَّاذةٌ تُعبِّقُ المكان؛ بسبب القُمامةِ المُتناثرةِ في جميعِ الأرجاء.. هذا كان بيت الصَّغيرِ "مانيو" مُذ عرف الحياةَ وواجهها.. بجسدهِ الضئيل، وبشرته السمراء، وملابسٌ ممزَّقةٌ مُتَّسخةٌ تخالُ أنَّها تستُرهُ.. ذو الإثني عشر عامًا وابتسامةٌ بِمئةِ عامٍ مِن الاطمئنان.
يستيقظُ صباحًا قبل أن تفيقَ الشَّمسُ، ويبدأ رحلتهُ اليوميَّة في أزقَّة الحي وأركانهِ؛ بحثًا عن قوتِ يومهِ، وبعض قُماشٍ لِيُغطِّي جسدهُ النَّحيل، ليعودَ ليلًا يُسابِقُ ضوء القمرِ بِنصفِ بطنٍ مُمتلئة، وقُبلاتٌ قد طبعتها الشَّمسُ على جبينهِ، وصِغارُ الأرضِ - الطِّين- قد تعلَّقوا بِأقدامهِ وأقسموا أن يبيتوا اللَّيلةَ معهُ، وأوساخٌ تشبَّثتْ بِأطرافِ ملابسهِ، لِتتراكمَ مع البقيَّةِ ويُشكِّلوا سدًّا منيعًا لا يرضخُ أمام الماءِ. يضعُ مانيو رأسه على الوسادةِ ويعُدُّ النُّجومَ، ويرسمُ في مُخيِّلتهُ الغيومَ بِأشكالِ حيواناتٍ ويتخيَّلُها تنطِقُ، وتسرُد الحكايا والأحاجي الَّتي لم يحظَ بِها؛ فلم يرتمِ يومًا إلى أحضانِ جدَّتهِ أو أُمِّهِ لِتمسحَ على شعرهِ، وبِصوتها النَّدي العتيقِ تقُصُّ عليهِ القَصص وتُغنِّي لهُ حتّىٰ يغُطَّ في نومٍ عميقٍ. كانتْ السَّماءُ - فقط- هي رفيقة ليلهِ الطَّويل المُوحِش، لطالما أرادَ أن يشكُرها على مؤانستها لهُ، فَيهمِسُ قبلَ أن ينام "غدًا عندما أكبر سأُصبحُ نجمةً كبيرة، وأُرافِقُ أُناسًا كُثُرًا".

في أحدِ صباحاتِ تشرين الثَّاني، وسط موجات البردِ التي تجتاحُ المدينة، كان مانيو يتكوَّر على نفسهِ في أحدِ الأركان، ويتغطَّى ببعضِ أكياسٍ وجدها. وكعادته في الشِّتاءِ يخرجُ بعد أنْ تُرسل الشَّمسُ أشعَّتها الحنونة لِتُدفئ أوصالهُ، وتُسكن - ولو قليلًا- من ارتجافها.
أثناءَ سيرهِ في الشَّارع رأى رفاقهُ مُتحلِّقين حول شخصٍ ما، ويصرُخونَ فَرحًا، اقتربَ منهم بِخطواتٍ ثابتة هادئةٍ، وما إن وصل إليهم حتّى انتبهوا له.. " مانيو مانيو انظُر ماذا أحضر لنا هذا العم" قالوا له وكادوا يطيرون من الفرح. نظرَ الصِّغيرُ إلى مجموعةِ البطَّانيات والمعاطف الموضوعةِ على الأرض وبِجانبها الألعاب، زارهُ الفرحُ المُهاجِرُ مُنذُ أعوام، إلى أن قال الرَّجل: " خُذوا يا أطفال، هذهِ كُلَّها لكم، ولنلتقط مجموعةً مِن الصور". تهافت الصِّغارُ عليه، وراح الرَّجُلُ يُصوِّر نفسهُ وهو يُساعدهم حتّى يصيرَ عملهُ العظيم هذا - كما ظنَّ- على كُلِّ لسان. وقف مانيو بعيدًا يُراقِبُ المشهد، وشعورٌ بالانكسار قد تولَّد داخله، حتّى صارت الرؤيةُ ضبابيةً وحجبتها الدُّموع، فَركضَ مُبتعِدًا، تاركًا خلفهُ علاماتِ الدَّهشةِ تكسو الوجوه.
غفت دمعةٌ على جفنِ ‏الصِّغيرِ ونامَ تِلكَ الليلةَ يسبُّ الأغنياء المُتعجرفين، وقسوةَ الحياةِ ومرارتها.. مُتمنِّيًا أنْ يموت الفقر، ويزور الربيعُ جميعَ القلوبِ القاحلة، وأن تُنصِفهُ الأيَّامُ ولو لِمرَّة.

دومًا ما حَقبَ مانيو أحلامهُ في حقيبةِ ظهرٍ كبيرةٍ، جابَ بها مدينةَ الخُرطومِ بُقعةً بُقعةً، كُلَّما حطَّ رِحالهُ على أرضٍ حاولَ أن يُبدِع بِأفكارهِ، ويستثمِرَ كُلَّ موجودٍ، فامتهنَ ما استطاع مِن المِهن، وسعى جاهدًا خلفَ الرِّزق الحلالِ حتّى لا يمُدَّ يدَ الحاجةِ لأيِّ شخصٍ.. فَرُغمَ الأسى القابِع خلفَ سِردابِ صدرهِ إلَّا أنَّهُ يُحارِبُه بقوَّةِ إرادةٍ وابتسامةٍ عريضةٍ مِثل فلقِ الصُبحِ..
ورغُم ضيقِ الحالِ، وسوءِ الظُّروفِ إلَّا أنَّ تعبهُ ذاكَ يجعلهُ يشعُرُ بِالرِّضا، فكانَ يتغنَّى - ولو بِحُزنهِ- وهو يغسِلُ السيَّارات ويُلمِّعُ الأحذية، ويحصلُ على مالٍ يحفظُ حياتهُ وعِزَّةَ نفسهِ، ويهشُّ نظراتِ الشفقة مِن عليه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى