عصمت محمد بدل - وأنا أيضاً أحلِّقُ كالطيور.. قصة قصيرة من الأدب الكردي المعاصر - ترجمة: ماجد الحيدر

كانت لي يدان، كانتا جميلتين صغيرتين ناعمتين. لم استخدمهما يوماً في عملٍ شاق، فأنا الأخ الأصغر، أنا مدلل أمي وأبي وأخوتي وأخواتي. لم يكن أبي يصطحبني الى البستان أو يكلفني بعمل ما، وإذا ما حدث وأخذني معه فلأجل المتعة واللهو، فهناك أيضاً لم أكن افعل شيئاً غير اللعب. كنت أقضي أيامي في مدرسة القرية الصغيرة أو داخل البيت أو خارجه مع بقية الأطفال. كل أعمالي ومشاغلي كنت أنجزها بيديَّ الجميلتين: كنت آكلُ بيديَّ، أمشط بهما شعري، أكتب بهما دروسي، وبهما أتصارع مع رفاقي وألعب. نعم، كنت أنجز بهما كل أعمالي. كنت أحيا في سعادة وسط أمي وأبي وأخوتي وأخواتي وأخرج الى اللعب مع أصدقائي، لا هموم عندي، لا أحزان.
وفجأةً اندلعت الحرب في بلادنا. لم نعرف، نحن الأطفال، سوى أنها الحرب. من المتحاربون؟ لماذا يتقاتلون؟ كان الخوف الذي نراه في عيون الكبار يصيبنا بعدواه أحياناً. لكننا، لفرط براءتنا، واظبنا على الخروج كما في الأيام المعتادة، فنتجمع في القرية أو حولها لنمارس ألعابنا.
أخذت الحرب آباءنا، أخذت أخوتنا الكبار، أخذت أعمامنا وأخوالنا، ضيّعت آثار بعضهم، قتلت بعضهم وأسرت بعضهم. طالت الحرب واتسعت دائرتها. اقتربت من منطقتنا، ثم من قريتنا، زرعوا أطراف القرية وأنهارها وأزقتها بالألغام. حاصرونا في قرانا، حبسونا فيها. أصوات المدافع والطائرات أطارت النوم من أعيننا وزرعت الخوف في قلوبنا. لكننا نحن الأطفال حاولنا أن ننأى بأنفسنا عن كل هذا. وحين يخفت هدير الحرب بين فترة وأخرى كنا نعصي أوامر آبائنا وأمهاتنا بالمكوث في المنزل ونجدها فرصة سانحة للخروج وسط القرية أو أطرافها أحياناً لنمارس ألعابنا وننسى رعب الحرب ونقضي أوقاتنا كما نحب.
كانت لي يدان، وبهما رفعت ذلك الجسم الغريب الذي يشبه اللعبة. لم أعرف ما هو. أصدقائي أيضاً لم يعرفوا ما هو، لكننا تعاركنا عليه، أخذتُهُ وهربت، لكن صوتاً هادراً مزق طبلتي أذني. أغمي علينا كلنا، وحين عدت الى وعيي وجدت نفسي راقداً في سريرٍ وقد لُفَّ جسدي كله بالقطن والضمادات البيضاء. تمكنت من رؤية خاصرة أمي فوق رأسي، أردت أن أمدّ يديّ اليها لكنهما لم ترتفعا. كنت أشعر بهما، اشعر بوجع شديد فيهما، وجع يتصاعد كاللهيب. لكنهما لم تتحركا. أردت أن أنادي أمي، لكن صوتي اختنق في حنجرتي.. وامتلأت عيناي بالدموع.
انهمرت قبلات أمي على جبيني، كانت تخنق بكاءها، وتصلّب أجفانها. أردت أن احضنها بيديّ الاثنتين لكنهما لم ترتفعا. أردت أن أنهض على قدمي لكنني عجزت عن تحريك جسدي المثخن بالجراح. كنا نلعب في أطراف القرية. أبصرنا ذلك الشيء الأخضر الغريب اللامع تحت الشمس. لم يعرف أحد منا ما هو، لكن كل منا انطلق راكضاً نحوه كي يسبق الآخرين ويضمه الى ممتلكاته. حين وصلت اليه قبلهم، لسوء حظي، ابصرت شيئاً غريباً مثل جناحين بينهما أنبوب. وقفت أمامه ولم أمد له يدي. وصل رفاقي ، كل واحد منهم قال شيئاً، لكنهم أخطأوا جميعاً. عندما رأوا انني لم المسه لم يجرؤوا على لمسه. ثم وصل (نيزو)، ليتك لم تأتِ يا نيزو، لا أعرف من أين أتيتَ في تلك اللحظة:
- إب..إبببب تتتـعدوا.. لا تـتتـ لمممسسـ...
ظننت أن نيزو الذي يكبرنا ببضعة أعوام، سيدّعي امتلاك ذلك الشيء الغريب ويستأثر به، فلم انتظر حتى يكمل كلامه. أحطت ذلك الشيء بيدي ورفعته عن الأرض وهربت، ولاحقني الجميع.. لكن لم تمضِ سوى بضع ثوان حتى أظلمت الدنيا بعيني. أصدقائي أصيبوا كلهم بجراح مختلفة لكن لم يفقد أحد منهم يديه، لم يخسر أحد عضواً من جسمه. أنا وحدي فقدت يديَّ الصغيرتين الجميلتين البيضاوين؛ واحدة من تحت المرفق والثانية من فوق المرفق. أصبت في جبيني كذلك، لكنه شفي الآن. ليتني فقدتُ يداً واحدة فقط كي أتمكن من تمشية أموري باليد الثانية، كي أكتب دروسي بها، كي ألعب بها، كي أحك جسدي بها.
بعد فترة، حين التأمت جراحه، زارني نيزو في المستشفى بمعية أمه. وتحدث من جديد بلسانه المتأتئ:
- أررردتُ أننن أأأ قول لكم لااا تمدددوا يدكم اليه. إننننه لغم، لكنننكم لممم تنننتظروني !
يوم أخرجوني من المستشفى وأعادوني الى المنزل انقلب البيت الى مجلس عزاء. بكت أمي وأخواتي وخالاتي وعماتي. تألمت لحالي كثيراً؛ كيف سأتناول طعامي؟ كيف أكتب دروسي؟ كيف أذهب للمرافق؟ كيف أغتسل؟
تنتهي الحروب ثم تبدأ من جديد. تأخذ منا الكثير من أحبتنا، تفسد حياتنا، تحيل أفراحنا مآتم وأحزان، تنزع آباءنا، أخوتنا الكبار، أعمامنا وأخوالنا، ثم تجهز علينا. أخذت الحرب أبي، تركتني دون يدين، حرمتني من الدراسة، بددت أحلامي.
كانت لي يدان. ما زلت أذكر كيف كنت أكتب دروسي بهما، أمشط شعري بهما، وأقوم بأعمال كثيرة. لكنني اضطررت أن أدرب نفسي شيئاً فشيئاً على إنجاز كثير من أعمالي بواسطة قدميّ، وأن أواصل حياتي وأتكيف مع وضعي الجديد.
كانت لي يدان. لكنني الآن موقن بأن يديَّ، أحلامي، والكثير الكثير من الأشياء الأخرى غدت ضحايا لأهواء الكبار الوحشية الجنونية. ما زلت للآن أخرج مع أصدقائي، طفلاً دون يدين. انظر اليهم، أنظر الى أيديهم، أرى نظراتهم المشفقة نحوي، لكنني أحاول تجاهل الأمر، أحاول أن أتصرف مثلهم، ألعب مثلهم، أضحك مثلهم، أنظر مثلهم للحياة، وأعلل نفسي بالآمال.
في منحدر التلة المجاورة لقريتنا يرفع الصغار أيديهم الى الجانبين، يمدونها على طولها ويركضون، ينظرون للطيور، يحاولون التحليق مثلها فأنسى نفسي، أركض مثلهم، أحس بيديّ تتحركان، ترتفعان.. أطير مثلهم كما الطيور !
خريف 2014-إكستر-بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى