أمل الكردفاني- شاليموه- قصة قصيرة

وبعد خمسين عاماً من الحرمان، رضيَت عنه الأقدار. هكذا فكر وهو ينظر إليها مبتسماً. ينظر إلى عينيها الجميلتين. وتفكك هي خصلات شعرها الطويل بأصابعها الرقيقة.
سارا طويلاً ولم يتعبا..
تعطك الدنيا في الآخر..تتأخرين أيتها الحياة، ربما لنسعد قبل الموت..كل الماضي الصفري، يمتلأ برقم صحيح وأمامه عشرات الأصفار، ذلك الصفر منعدم القيمة، يتشبع بالقيمة. يبهر من ينظر إليه، فالصفر لا شيء إن لم يسنده رقم آخر، تماماً كالرجل بلا أنثى.
تتلامس أطراف أصابعهما، يجفل قليلاً لكنها تتشبث به. فيتبعثر السواد..
وتتلون الحياة..
....

وكان قد قضى حياته وهو يظن نفسه شاعراً، لكنه الآن يدرك أن الحياة لا يمكن أن تختصرها المجازات التافهة. لا الجميل فيها ولا البشع منها. إنها أوسع من اللغة أكثر مما يظنه شاعر عبقري.
تحمل كأس العصير وتحتضن شفتاها الشاليموه السعيد. ثم تنظر إليه وتضحك.
ينساب شعرها، فيمد يده ويبعده عن كأسها. تبتسم، ويظلا يثرثران بلا هدف..إن معنى أحاديث العشاق في لا معناها.
وحين يهما بالخروج يختلس الشاليموه ويضعه في جيب معطفه دون أن تلاحظ هي..
....

ذلك النيل الذي ظل متسخاً دوماً بالطمي، ومتعفنا برائحة السمك، ها هو اليوم شفاف كقلب طفل، والعبير ينبعث من أشجاره الضخمة التي لها مئات السنين وهي تقف منتصبة كآلهة وثنية، مسح التاريخ على جفنيها معلناً موتها.
والحر، الحر يتسلل إلى عظامه بارداً كغلطة مطبعية.
لم يقابله شيء قبيح، لأنه ما عاد يرى سواها. صوتها يلغي كل تلوث السماء بأبواق السيارات ونداءات البائعين المتجولين، عيناها الواسعتان، تفسحان له الأزقة الضيقة، شفتاها القرمزيتان الصغيرتان ترطبان سياجات الشمس الذهبية.
...
تعطك الحياة بعد الخمسين ما لم تعطك له من قبل. لذلك انتظر عيد ميلادك الخمسين، لأنه سيكون ميلادك الأول.
مسح شعره الأشيب بمنديل الورق، ولم يدخن سجارة واحدة وهو معها.
....

لقد شاهد من قبل فيلماً أمريكياً لعاشقين، لم يصدق العاشق أنه يملك كل هذه السعادة. كان يبكي لأنه متأكد أن كل ذلك لن يكتمل، وبالفعل تعرض للقتل، وتحول لشبح، يبحث عن قاتله.
لكنه لن يموت، أحس بأن عمره قد تمدد، تمدد لعشرات السنين، بل لمئات القرون..
لم يرغبا في الإفتراق، لكن الافتراق حتمي في هذه الحياة.
عاد لمنزله، وكان يتلفت يمنة ويسرة فإذا لم يجد أحداً في الشارع، أخذ يرقص رقصات رشيقة...قبل أن يعتدل ويسير بجدية..
"لو كنتُ في البرازيل لرقصت دون خجل..إن ثقافتهم منفتحة على الذات، أو هكذا أحسب".. يبدو أنهم يعرفون قيمة تحرير الذات لأنهم عشاق"..على كوباكابانا، يرقصون، الفتياة الخلاسيات، والسمراوات والبيضاوات، والشبان، الشبان الذين لا زالوا يتمتعون بتلك الأجساد القوية والعضلات اللامعة، والابتسامات الجذابة، وهم يعيشون ما يعيشه الآن وهو في الخمسين، لكنهم لا يقدرونه حق تقديره. لا زالوا صغاراً ليتعاملوا مع السعادة بجدية وذكاء عاطفي. تلك المرونة التي تصقلها غدارات الزمن.
....

يفتح كلَّ نوافذ شقته الرطبة ليدخل إليها الشمس. ويبدأ في تنظيفها بهمة ونشاط. يكنس الارض ويمسحها وهو يرتدي سروال القطن الداخلي فقط، بينما تتدلى كرشه قليلاً، ينفض الأتربة عن الدواليب والسجاجيد والمقاعد والطاولات، يغسل الأواني التي تراكمت منذ أشهر، قبل ذلك كان قد وضع ملابسه داخل الغسالة وتركها لتدور، فشعر بأن صوتها جميل جداً، تكر بصوتها كراً متقطعاً كالنهر عندما يعبر تعرجات صخرية.
"كل شيء جميل"...
ينشر الغسيل، ويرى جارته النكدية المدمنة على الشجار مع الجميع، فيبتسم لها وتنظر له بحنق ودهشة.
يقف أمام باب الشرفة، وجسده مغطىً بالعرق..فيصطدم به الهواء، ويتحول لبرودة لطيفة.
بعدها، يتجه إلى الحمام ويقف تحت الدش، ويستمتع بالماء المنزلق على جسده، "اليس غريباً..أليس غريباً أن يكون ملمس الماء منعشاً هكذاً رغم أنه لا ينفذ عبر مساماتنا؟!!".. يضيف وهو يجفف جسده "غريب"..ثم يتجه لمعطفه ويخرج الشاليموه، يتأمله لبرهة ثم يزرعه داخل كأس ذهبي القاعدة، ويتذكر نهايات الأفلام..حينما يقرر الحبيب ركوب القطار مفارقاً حبيبه، لكنهما في آخر الأمر لا يتمكنان من فقد إكسير حياتهما، فيهبط الحبيب من قاطرته بعد تحركها، ويهرول كلاهما تجاه الآخر، ثم تظهر كتابة صغيرة تعلن نهاية الفيلم..
لكنني فكرت.. كيف أُنهي هذه القصة الخيالية..لقد أُستهلكت كل نهايات قصص الحب أكثر من استهلاك البشر للأوكسجين.
قررت أخيراً، أن أترك الرجل جالساً يتناول طعام عشائه ساهماً في مشاهدة كأس الشاليموه.. أما هي..فستظل داخل أوراق قصتي، كعلامة مائية غائمة..
ككل شيء في هذه الحياة..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى