هايل المذابي - الكبسولة.. قصة قصيرة

سافر الرجل من وطنه هاربًا بعد أن وجد، أخيرًا، مَن يساعده في الهروب والانتقال إلى مدينة أخرى؛ تمهيدًا لانتقاله إلى مكان ثالث لا يعرف عنه شيئًا، ولكنه مضطر للصمود تسعة أشهر أخرى بعد عام سبقها في هذه المدينة التي تشبه البرزخ..
وسط زخم الرأسمالية، الذي تعج به هذه المدينة، والتي لا تجيد شيئًا سوى أن تضع الناس تحت فكيها وتطحنهم بلا رحمة، لم يترك بابًا يعرفه إلا وطرقه، ولم يترك صديقًا إلا واستدان منه، وفي آخر أسبوعين يملك مصروفهما يتخذ قراره..
إنه يقدس الحياة جدًّا، ويقدس جسده وروحه وعقله.. وعقله ضخم ومدهش، ويؤمن أنه فقط يستطيع إنقاذه بدون أن يلجأ للموت.. لم يفكر في الانتحار إطلاقًا..
بدأ الرجل ذو الثلاثينيات في البحث عن مكونات الكبسولة..
الكبسولة التي سيزدردها وتُميته تسعة أشهر حتى موعد انتقاله إلى المكان الثالث دون أن يتخلى عن كرامته في هذا المجتمع الرأسمالي..
خلال أسبوعين كان قد اهتدى إلى كل مكونات الكبسولة، ويصنعها.. ما محتويات الكبسولة؟
إنها تحتوي ما يحتاجه الجسم من غذاء لمدة تسعة أشهر بلا مضاعفات.. وبلا حاجة للاستيقاظ..
ثم تبدأ رحلة أخرى للبحث عن مكان مثالي يستطيع أن يخلد فيه لتسعة أشهر دون أن يدفع إيجارًا أو أي متطلبات لا يملكها أصلاً.
لا يجد في هذه المدينة الكبيرة مكانًا واحدًا لا يصل إليه أحد خلال تسعة أشهر .. إنها مدينة بنيت في الصحراء ولا يوجد حتى جبال أو كهوف فيها..
أخيرًا يصعد البرج العظيم ويتسلل إلى سطحه ثم يبني له، على أعلى قمة له، تابوتًا من الكراتين ارتفاعه (50 سم)، وطوله مترًا و(70 سم)، وعرضه (70 سم)، وفي تلك القمة لا يمكن أن يلحظه أحد إلا الله.. كان متأكدًا من ذلك، فالناس لا يحبون القمم ولا يتوقون للوصول إليها، ولو أنه ظل تسعين عامًا هناك عوضًا عن تسعة أشهر فلن يصل إليه أحد..
يزدرد الكبسولة وتبدأ رواية أخرى في أحلامه طيلة تسعة أشهر.. ماذا رأى في المنام؟
لقد عشق امرأة جميلة و تزوجها، وأنجب منها طفلين، وبنى بيته وعمل فيما كان يحلم به، وحقق كل أحلامه، وزار جنة غفران المعري، كما زار جحيم دانتي وسامر الرشيد، وصافح الأنبياء، وصادق كل شعراء التاريخ وصعاليكه، وزار الخمسين كونًا الموازية التي تنبأت بها نظرية النسبية لإينشتاين، واكتشف الثقوب الدودية، وشارك في الثورة الفرنسية، وفي دك سجون الباستيل وتحطيم أقفالها وكسر حديدها، وشارك في الحروب التي خاضها الأنبياء، كما أنه خاض حربًا شرسة مع هرقل العظيم..
وعندما استيقظ بعد تسعة أشهر وجد له لحية بيضاء قد وصلت إلى منتصف صدره فأدرك أنه قد صار حكيمًا..
لقد عاش حياة كاملة في تسعة أشهر.. علّمته الأحلام كل شيء.. هل ينام الإنسان في أحلامه..؟، ربما.. لكنه لم ينم لحظة واحدة..
ثم باشر وفتح هاتفه المقفل، وكم كان مؤلمًا ألا يجد أحدًا قد اتصل ليسأل عنه سوى قائمة طويلة من الأرقام والرسائل لأولئك الذين استدان منهم المال طيلة الفترات الماضية.. في إيميله وجد رسالة تفيده بأنه قد تمت الموافقة على طلبه، كما وجد صورة الفيزا وتذاكر السفر وإشعارًا من شركة الصرافة بمبلغ لا بأس به من المال.. يكفيه مؤونة كل شيء.
لكن ذلك لم يعنِ له الكثير؛ لأنه اكتشف الكبسولة ويستطيع أن يعيد التجربة مرة أخرى كلما استبدت به الحياة الرأسمالية.. وكلما اشتاق لزوجته وأطفاله.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى