نادية عيلبوني - مطر.. قصة قصيرة

رذاذ خفيف. رذاذ تحوله ذاكرتك إلى مطر.
مطر يعيدك إلى زمن النبوءة.
وتفر من أمام وجهه. تشهق حين تراه يتابعك. هنا يستوقفك، فتصيح من أعمق أعماقك "صدقناك صدقناك" وصوته لا يزال يلاحقك:"أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟". تتوقف أمام وجهه النحيل. تفزعك النبوءة حد الارتجاف . والمطر يبعث في ذرات روحك صورا بعيدة. صورا عزيزة. صور الظلام وهو "يحتضن العراق". لم تستطع الاحتمال أكثر. تشتد بك رغبة شديدة في الصراخ أو البكاء. تغادر المكان وأنت تود لو تغادر إلى الأبد.
مطر … مطر … مطر.
يحاصرك من جديد صوت المطر، ومعه يجيئك صوت أم حسين. يجيئك محملا بصوت الأم البعيدة. تحاول أن تتذكر صورتها، فتفر منك. وأم حسين تواصل وهي تحاذيك نواحها. تعدد مراثيها. وصوت ساخر يخرج من أعماق دمك: "لا لست الابن اليتيم. لست الابن الضال كما تهيأ لك! انتظر هنا قليلا، فربما صادفت وجهها.
تلاحقك كلماتها المفجوعة، كما تنغرز في لحمك وخزات المطر:
"حسين وحيدي، ما تحملت شوفته بنعش مثل أبوه، حملته بسنوني وشردت".
امرأة تخطو بتؤدة نحو عامها السبعين. تجتاز بلادا لا تعرف كيف تلفظ أسماءها، إلا أنها تعرف جيدا بردها وصقيعها. تتذكر الوحوش التي أحاطت بها وهي تجتاز حدودها. تصل أخيرا إلى موسكو: "المهرب باك كل فلوسنا هناك وعافنا". لا مأوى إذن ولا حماية. "نعمل ، وماذا نعمل؟ نلف الشطائر … نبيع السجائر".
وينهمر الحجر. تشعر به يخترق رأسك، بينما تواصل أم حسين رحلتها.ووجهتها بلاد الثلج. تبحث عن مكان … مكان آمن لا يطال فيه القلق الوحشي وحيدها. تتوقف هنا في محطة قد تبدو الأخيرة. تصمت المرأة، وتصمت أنت، ويصمت الجميع. صوت الرعود يجتاح الأمكنة.
وترحل أنت في الغمام… ترحل أنت في الأثناء إلى هناك. كما ترحل أم حسين. تراها وهي تفر من جسدها. ترى روحها وهي ترحل في "البروق". تراها وهي تتجول في شوارع العمارة. يتوقف قلبك وهي تطرق بابا عرفه القلب. في ذلك المكان تركت جزءا من أمومتها. عند فاطمة -ربما-. اليوم هو عيد ميلاد حفيدها. ترفع أم حسين عقيرتها احتجاجا: " هذا غير كاف سراج عزيز على قلبي, ربيته كما ربيت وحيدي حسين، أهذا كل ما أعددته يا ابنتي؟ وين الكبة والدولمة والبرياني؟ ما يخالف أنا أعد له كل شيء". تلطم المرأة وجهها.يئن قلبها. لم تعد تطيق صبرا. هي لا تحمل سماعة الهاتف. هي تحتضنها. بلهفة تتلقف صوته الطفولي. تبادره السؤال: " شي تريد جدة أدزلك من النمسا؟". تجرحها الإجابات البريئة، تنهمر عليها كما الصخر. كما المطر الجارح:
"أنا ما اريد شي جدة. أريدك أنت وكاف". تختنق في كلماته. تتعثر بها. تسندها بيدك المرتجفة وأنت تعيد السماعة إلى حسين. تفترش أم حسين الأرض: "وشنو جبرك على المر غير…"
ويسح في وجهك المطر، يلطمك حين ترفع المرأة عينيها إلى السماء لتصيح:
"يا واهب المطر."
تسأله وتستغيث. يخيم على الجمع ظل ثقيل. يصمت الرجال عجزا، تصمت النسوة قهرا. وتندلق محاجر الأطفال خوفا. وإليها يسلم الجميع ألسنتهم طوعا. هي تبكي وتنوح بالنيابة. تفرج عن ذلك المعتقل في صدوركم على طريقتها. وتشعر بالاختناق. وعبرات من المطر تغرقك. تغادر القاعة الفسيحة التي تضمك مع رهط وفير ممن هم مثلك.
مطر… مطر… مطر.
تجتاحك نوبة ذعر مفاجئة. تقاومها دونما نجاح. يحاصرك من جديد وجه النبي وهو يحتضن المطر. يعيد على مسامعك رؤاه. تصيح به: هل حقا…؟ أحقا"لم تترك الرياح في الوادي من أثر"؟
مطر … مطر… مطر.
تتناهشك الصور… صور المدن وهي تخترق الغمام، هذه (بغداد) وتلك هي (البصرة) وهنا (النجف). "البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون". ويهطل المطر. يهطل كهطول مدن غريبة. تتراءى لك وقد تحولت إلى (سدوم) أو (عمورة)؛ (ثمود) أو (عاد). صوت من المدى يصيح بك:
يا علي! هم ما عادوا هناك. تفحّص مكانك جيدا. انتبه. لا تبحث عن البصرة هناك. فالبصرة أمامك يا مولاي! لا تبحث عنها في ذاكرتك! لا تبحث كثيرا. اقلع عنك ذاكرتك ، فهي هنا. وها هي أم حسين تسوقها بخفة. تقودها لتصل بها إلى (العمارة) وها هي جارتها الشابة التي، ربما، تكون أختك، تأتي إليها مع مطلع كل صباح.
تضحك ساخرا أو باكيا ، لا فرق:"شي تريدين خالة. أنت مثل أمي. أنا غريبة عن العمارة. أمي بالبصرة. وأنت كل أهلي هنانا".
تشيح بوجهك. تتمنى من أعمق أعماقك لو تغيب أم حسين. أن يفيض المطر ويبتلعها ويبتلعك معها. شيء عزيز وحميم يتقصّف في داخلك.
تخرج من جديد. تستقبل المطر. تستنشق الهواء البارد. أما زلت تكره الاستماع إلى النصائح؟ "لا تجلسي كثيرا بوحدك.لا تفكري! التفكير ما هو زين لصحتك". تستجيب المرأة بأمانة. عند مدخل البهو تجلس إلى بعض النسوة من البوسنة. تستخدم لغة الجسد مدعمة بلغتها المحكية. تبادلها النسوة اللغة ذاتها. تضع أم حسين يدا على خدها، لتسند بالأخرى رأسها المثقل. تدرك أنت على الفور عقم التواصل. يفرحك أن ترى أم حسين وهي تلزم غرفتها. لا داعي للقلق. أم مقداد تتفقدها من حين لآخر. لا بأس أن تضبطها متلبسة بالبكاء. ولكن أم مقداد تعترض، تثور لذلك العزف المنفرد على الأحزان. تصيح بها:" هاي شنو. تبشين بوحدك؟ خو انتظري! أخلص طبخ وآجيك، ونبشي سويا".
ماذا تنتظر؟ هل ستحلم مرة أخرى؟ خفف عنك! فها هي أمك تنال الاعتراف. تنال الحق في أن تكون لاجئة. بكاؤها هذه المرة له مذاق المر. غدا تبدأ أم حسين رحلتها نحو المستقبل. غدا تبدأ حياة جديدة . غدا تعود تلميذة وتجلس كصفحة بيضاء لتتلقى دروسا في لغتها الجديدة. لا تعترض! القانون هنا هو القانون. هو لا يأخذ عمر أم حسين ولا ذاكرتها على أي محمل إلاه.
تضرب المرأة وجهها: " أنا ما اعرف اتعلم ألماني… يعني بعد ما كبر وشاب…" تتسمر في مكانك. تشعر بالنخلة العظيمة وهي تهوي فوق رأسك. حذار حذار ، لا فرات هنا ولا نخيل. تتزعزع الأرض تحت أقدامك. تغادرك. لا تنظر هكذا إلى الأفق البعيد! إذ ربما جاءك المطر ك "رحى تدور في الحقول… حولها بشر". ربما جاءك هذه المرة محملا بأم حسين جديدة، أو أي أم ؛ أمك ربما. فمن يدري؟ ألا تحب أن تراها؟ ألم ترها؟ لا ليس هناك، بل هنا. فأنت لن تعود. وهي أصابها ما أصابك. هي مثلك تبحث عما كنت قد ضيعت. تبحث عن روحها وعنك. لن يبقى هناك أحد ينتظر أوبتك. أمك هنا . معك. تحفظ دروسها. ألا تريد أن تساعدها؟

كاتبة فلسطينية مقيمة في فيينا

كتبت في فيينا 1996

* قصة قصيرة من مجموعة قصصية صدرت للكاتبة عام 2005 بعنوان "مقام عراقي"


  • Like
التفاعلات: عبدالله خليفة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى