عبد الله العروي - التاريخية

الزمان الوجودي: لم يتغلب أنصار التاريخ الانساني على أنصار التاريخ الطبيعي ولم يتغلب هؤلاء على أولئك، لأن كل فريق يستعمل مفاهيم خاصة به. بيد أن ما نتج عن صراع الاتجاهين من تدقيق في مفهوم التاريخ ولّد وعياً حاداً بأن ماهية الإنسان هي وجوده في التاريخ. ليس من الصدفة أن تبرز قضية الزمان في مقدمة اهتمام الفلاسفة والفنانين في بداية هذا القرن كما نرى ذلك في أعمال برغسون وجويس وبروست. بل يمكن القول ان المذهب الوجودي، رغم نقده لتاريخ المؤرخين، هو وليد تعارض التاريخانية والوضعانية القائلة بوحدة تطور الكائنات.
يركز الوجوديون على أن الإنسان موجود في الزمان وأن الوجودان الحق هو وعي الفرد بأنه كائن فان. فيضفون بإطناب حالات نسيان وتناسي هذه الحقيقة المرة وطرق اكتشافها المؤلم. وغر خاف أن الوجدان وتجربة التناهي والحياة كوعي حاد بضرورة الموت، وهي تعابير كثيراً ما تعرض في المؤلفات الوجودية، تبدو وكأنها صيغ لمفاهيم السرد التاريخي أطلقت وحملت أقصى ما يمكن من الإيحاءات. يعني التاريخ في هذا النطاق غير ما يعني عادة، فتنقلب العلاقات العادية بين أقسام الزمان: يفترض المؤرخ أن الحاضر نتيجة الماضي وأن المستقبل أفق الحاضر، في حين أن الوجودي يرى أن الحاضر هو الكاشف عن الماضي وأن المستقبل عامل مؤثر في الحاضر، غير أن الاثنين متفقان على نفي ديمومة ماهية الإنسان وعلى أن الإنسان تاريخي بالتعريف.

تجربة الزمان أصل كل نظرة إلى الكون: هناك نقطة مهمة أخرى تلتقي فيها التاريخية الوجودية والتاريخانية. طبق أوغست كونت منهج الطبيعيات على دراسة ماضي الإنسان فتكلم عن قانون المراحل الثلاث: الدينية والماورائية والوضعية... قانون اكتسب صفة النموذج لدى المفكرين التطوريين. إن المراحل المذكورة هي في الواقع مراحل على طريق معرفة الطبيعة. تتميز كل مرحلة بالكيفية التي يفسر بها الإنسان تحولات الطبيعة، وتتتابع كلها في نسق تقدمي لأن العقل يبدأ بردّ تلك التحولات الى كائنات متخيلة أو إلى أفكار مجردة مبتدعة وينتهي بردها الى الطبيعة ذاتها، أي أنه ينتقل من نظرة ذاتية تخضع فيها الطبيعة الى ذهنه الى نظرة موضوعية يخضع فيها ذهنه الى الطبيعة.

وهذا الخضوع هو ما رفضه التاريخيون إذ الطبيعة في نظرهم لا تعدو أن تكون فكرة نابعة من ذهن الإنسان وأن وضعانية كونت لا تقل ذاتية عن التصورات الأسطورية والفلسفية التي سبقتها، وإن كانت توقعاتها تتحقق في الغالب أكثر من تنبؤات غيرها. فهي إذن مثل سابقاتها نظرة الى الكون. وهكذا قال دلثاي إن الفلسفة كأسلوب تفكير تمثل نظرة الى الكون مثل العلم التجريبي والفن والأدب... لا امتياز لنظرة على أخرى والانتقال من واحدة الى غيرها مجرد تحوّل لا يعني أبداً تقدماً نحو حقيقة مطلقة ثابتة.

حافظت الوجودية على هذا الموقف بل ذهبت به الى مدى أبعد، فعوض أن تربط النظرة الى الكون بظروف تاريخية جماعية نراها تربطها بتجربة وجدانية أنتولوجية. وانطلاقاً من تجارب أولية يتبين المفكر الوجودي منطق كل أسلوب من أساليب التعبير: الفلسفة، المأساة، الشعر، الفن، العلم... كل أسلوب ناشىء عن تجربة وجدانية إزاء الكائن والفناء والزمان. ونصل هكذا الى نقيض موقف أوغست كونت: من خضوع الإنسان الى منطق الطبيعة ننتهي الى إخضاع تصوراتنا حول الطبيعة الى تجارب أنتولوجية ذاتية. من الطبيعة المطلقة الى الإنسانية المطلقة مروراً بالتاريخانية. ولكل مذهب تصور خاص للزمان وللتاريخ.

---------------------------
المصدر : ثقافتنا في ضوء التاريخ


عبد الله العروي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى