هدى بوحمام - قبل فوات الأوان..

كم غريبة هي الحياة؛ تزرع فينا الأحلام وتعطينا الفرص وتوفر لنا مواد البناء وتمنحنا السُبل ووسائل الإنارة في ظلام العقبات وتشُدنا إليها وتشغلنا بها جدًا. فالواحد منّا يركض وراء هدف معين، يتوهّم رؤية خط الوصول ويركض ناسيًا أنّ العمر يمضي وأنّ الحوادث تقع وأنّ المرض يتسلل وأنّ الموت يخطف!

مرت عيني على مشاهد كثيرة لأشخاص يقفون وراء جدار زجاجي بارد لا يرحم، صلب لا يقبل الكسر، جامد لا يتحرك، قاس لا يسمع ولا يرى ولا يشفق ولا يحس! مرّ سمعي على الكثير من عبارات الاعتذار، والندم والحسرة التي، مع قوتها وصدقها، لم تستطع خرق ذلك الجدار الزجاجي. تُحارب أصوات الأجهزة الطبية وتتسلل كي تصل إلى قلب متعطش لكنها لا تصل أبداً. كانت اعتذارات بائسة لم تجد لها متلقٍ يقبلها، وندم لا فائدة منه ينهش في داخل صاحبه مثل النار الثائرة التي تتعالى دون أن تُدفئ، وحسرة قاتلة على اتصلات لم يُردّ عليها، ورسائل اهتمام لم تُقرأ، وزيارات لم تُلبى، وكلمات حب لم يُنطق بها، وهدايا عيد لم تُعط، وقُبل اشتياق لم تُقدّر، وأحاسيس صدق أُهملتْ وهُمّشت في حضرة هذه الحياة السريعة والأنانية.

في كل مرة أراقب فيها أبطال هذه المشاهد، ينكمش خاطري من شدة الألم العارم في المكان، لا أكاد أرى أمامي من زوبعة اللوم، والعتب، والتحسّر، والقسوة، والكثير من الجروح المفتوحة التي لا تُبالي بخطر التعفن، تنزف متدفقة مع نداء متأمل ملتمس مستعطف ولكنّه متأخر،جاء بعد فراق لم يكن بالحسبان. أراقبهم في صمت صاخب وأفكر فيما سألعن؟ أألعن الزمن أم ألعن الموت أم ألعن الحياة أم ألعن حدود المهنة النبيلة؟ لا شيء يفيد، لا اللعن يُذهب الزوبعة، ولا النداء يُوقف الموت، ولا الساعة ترجع إلى الوراء، فات الأوان!

تستوقفني مرارا نفس ملامح الوجه ونفس اهتزاز الصوت ونفس انسياب الدمع ونفس تخبّط اليدين ونفس ابتلاع الكلمات، تفاصيل كان ذنبها الوحيد أنها خرجت بعد فوات الأوان، بعد إقلاع الطائرة نحو السماء في اتجاه حتمي لا رجعة فيه، أرعبني شعور فوات الأوان ذاك، اجتاح كياني وزعزع فيه الراحة والأمان. تذكرت كل ما فاتني وأنا ألهث خلف الحياة، وأنا مشغولة بتحقيق الذات، وإثبات القدرات، وحرق المسافات، وتوقيع الصفقات وتوثيق اللحظات. تخيلت نفسي وراء ذلك الجدار الزجاجي البارد، توقف نبضي للحظة وضخّ بعدها ضخّة هائجة أيقظت كل حساباتي وبعثرت ترتيبها إلى الأبد.

جلستُ أتخيل عدد كلمات الحب والاهتمام التي أُسرت في قفص الصمت والعقد النفسية بينما خُلقت لتعيش حُرّة محلّقة تاركة أثرها الطيب في كل مكان تحطّ به، وأراجع تفاصيل زيارات عائلية تغمرها المشاعر الحقيقية والمطلقة واللامشروطة، والتي فُوتت في يوم عمل باهت متكرر مُملّ، وأتحسّر على نهاية صداقة كان من المفترض أن تظلّ أبدية ضاعت بين المسافات المبنية بطوب الغطرسة والغرور وضيق تحمل المسؤولية، وأتعجّب ليوميات زوج اعتنقوا جو النكد والروتين وسكنوا في قاع الفقر الروحي معتقدين أنها مستلزمات الحياة الزوجية، وعجزوا أن يعيشوا أيامهم المحسوبة في مودة، ورحمة، ورقيّ وإنسانية.

كانت تلك الضخّة بمثابة فجر يوم جديد، غيّرت الكثير في مجراها وأوضحت الوجهة. كان هنالك خلط فادح بين المحطات والوجهة، بين الدائم والمؤقت، بين الثابت والمُرتجّ، بين الأساسي والثانوي، بين الباقي والزائل، بين المؤكد والمحتمل، وبين العيش والحياة.
صرت أقف مطولا وراء الجدار الزجاجي وأُراقب الراقدين بين الأجهزة، متمنية أن يكونوا قد عاشوا الحُب، والاهتمام، والأمان، والطمأنينة، والصداقة، والشغف، والسفر، والرقص وملاحقة الفراشات قبل فوات الأوان.

كانت تنزلق من وجهي المتعب ابتسامة خفية إذا تخيلت الغرفة رقم 9، إذ قبل قدومها إلينا كانت قد استطاعت ترك عملها المُمل، الذي كان يستنفد طاقتها في مقابل امتهان الرسم لأنه كان يسعد قلبها، وأنها سافرت إلى خمسين بلد في العالم، واستمتعت فيهم، وأكلت من أكلهم، والتقطت الصور كما كانت تحلم منذ طفولتها، وأنها تزوجت حبيبها وعاشت معه عمرا مليئا بالمشاعر، والبالونات، والمغامرات، والجنون، والمُفاجآت، والمشي على خطى المطر، ومشاهدة غروب الشمس والسمر تحت ضوء القمر، وأنها أنجبت أولادًا بارين، ومُحبين، وصالحين ومُعمرين في الأرض، وأنّها خصصت وقتا من أيامها لتقوم بأنشطة أغنت بها روحها وتركت فيها بصمتها وبسمتها.

أريد العالم كله أن يتذكر أنّنا خُلقنا لنحيا أكثر من أن نعيش، وأن راحتنا النفسية أهم من نظرة الآخرين، وأن الألم لحظة لا تُحوّل إلى معاناة السنين، وأن الفرح جرعة. أمّا السعادة؛ فهي إدمان ويقين، وأنّ الشر خيار، أما الخير فهو اختيار وإصرار، وأنّ حساء أمّك الدافئ ولو في صحن مكسور أحسن ألف مرة من طبق بارد مكلّف ولو كان يلمع، وأنّ الملابس صُنعت لتتسخ وأنّ القلوب صُوّرت لتتحمس وأنّ العيون أُنشئت لتلمع. أدعو العالم إلى الرفع من مناعتهم الروحية، فقد تفاقمت الأمراض الروحية وأصبحت أكثر بكثير من الأمراض العضوية، والمحزن في الأمر أنّ شفاءها مستعصٍ لا يستجيب لأقراص الصيدلية. سارعوا إلى الحياة قبل أن تصبحوا رقم غرفة وراء جدار زجاجي، ويكون قد فات الأوان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى