صالح لبريني - أحمد المجاطي وسؤال الشعر

(1) فِي الْبَدْءِ
كَانَتِ الْمُغَامَرٓةُ:

كُلُّ حَدِيثٍ، عَنِ الشّاعِر أحْمد المجّاطي، يطْرح الكثِير من الأسْئلة المتعلّقة بالكتابَة الشّعرية ومَآلاتِها، تحوّلاتِها وإِضَافَاتِها، دُون إهْمال الطّروحات النّقدية، الّتي كانَت تُميّز المراحِل الأُولى لِولادَة القَصيدَة المغربيّة المُعاصِرة ذَاتِ الْهويّة الحَداثية ، والّتي تُشكّل طفْرة نوْعية في تشْكيل الْوعْي النّقْدي بالنّصّ الشّعري المُعاصِر، نَظَراً لِلاِخْتلافَات الْقائِمة بيْن مَنْ ينْتصِر للشّعر الْخَالِقٍ لخِطابٍ شعْريّ مجدِّد مِنْ داخِل التّراث الْعربيّ، بوعْيّ شعريّ يَتميّز بالاِنْفتَاح علَى إنْجازاتِ الْحداثَة ، ومَنْ يَدْعُو إلَى خِطابٍ شعريّ نَقيضٍ يؤْمن بِالْهَدْم وتَفْجير اللّغة و يَتجاوَز عمُودَ الشّعْر الْعَربيّ. هَذا التّباعُدُ فِي الرُّؤى والتَّصوُّرات أنْتَج أفْكاراً و قِيَماً جَديدَةً كانَ لَهَا الْفضْل في بلْورَة تَصوُّر جَديدٍ للكِتابَة الشّعرية المعاصِرة بالمغْرب. ولابُدّ من الإشارةَ إلى أنّ حيَوية المُمارسَة النّقْدية كانَت مُتساوِقة ومُتماشِية معَ ثقافَة مُتّقدة بالأسْئلة، ومُناوئَة لِسُكونية ثقافَة الاتّبَاع، وحَالمَة بِتغْيير الذّائقة الْعربية المُقيَّدَة بالمُواضَعات البَالِية ومُتجاوَزَة في الكِتابَة.
إنّ الْغايَة مِن هَذا الاِسْتحْضار لِهذَا الْمَناخ الثّقافيّ،عَدَمُ السُّقوط في الِاتّكالِية والسّيْر علَى خُطَى هَؤُلاء الرّواد، وإنّما المقْصدِية الوعْي بالمنْجز الشّعْري والنّقْدي أوّلاً، وثانِياً بَثّ رُوحٍ جَديدَة في نُفُوس النّقاد والشّعراء الجُدُد لِقراءَته قِراءَة بَعيدَة عنِ الإسْقاطات المجّانية، وقريبَة مِنْ رُوحِ التّجربة. لأنّ فَهْم الذّات وحِمايَتها منَ الاِجْترَار يَنْطلِق مِنَ الوَعْي بِقِيمَة هذَا المُنْجَز ، حتّى نَتمكّن مِنْ تجْديد كيْنونة النّصّ الشّعريّ وابْتداعِه بِرُؤيَة أكْثر وُضُوحاً، وتُؤطّرُه خَلْفِية مَعْرفِية أكْثر عُمْقاً وأَصالَة. و يُمْكن اعْتبَار إحْياء الْحيَاة الثّقافِية السّالفَة سَبيلاً للتّرْحال في جُغْرافِيات الْقَصيدَة المُعاصِرة، واقْتِناص شَوارِد الأفْكَار والْخَيَالَات وحَرارَة التّجْربة، المُفعَمة بِأَبدِية الإبْداع الإنْسانِي.
فالوعْي بِسُؤال الشّعْر يسْتدْعي امْتلاكَ تَصوّر عَميقٍ لِلْكتابَة الشّعْرية وتحْويلاتها،الأمْر الّذي يجْعلُنا أمامَ مُغامَرة خاضَها بعْض الشّعراء المغارِبة( المجّاطي، السّرغيني والطبّال) الّذينَ آمَنُوا بِضرُورَة اجْتراح كِتابَة مُنْفلِتة منْ ضوابِط الْعمُود الشّعري، ومُتخلّصَة مِنْ بلاغَة الْقَوامِيس السّائدَة، وذَات صِلَةٍ وَثيقَةٍ بالتّراث الإنْسانيّ، وَهِي مُغامَرة مَحْفُوفة بالْكثير مِن الْقُيود، نَظراً لِهَيْمَنة ثَقافَة تقْليدية تُعادي الجِدَّة والتّجْديد. لكنّ الحقّ في كِتابَة شعْرية مُتخلّقة مِن رحِم هَذا الوعْي ظلّ رِهانَ هؤُلاء الشّعراء . فتولّد عنْه نصّ شعريّ مُشْبعٌ مدْبوغٌ بالْخُروج عنْ شكْل عَمودِ الشّعر إلى رَحابَة شكْل مُتحرّر منَ الْقُيود، وخَالقٍ شكْلَه المعبّر عنْ كيْنونَته الشّعرية.
هذِه الكيْنونةُ الشّعريةُ نابِعَةٌ منْ طبيعَة التّجْربة ذاتِها، ومِن أسْئلتِها المُفارِقة أُسْلوباً ولُغةً ورُؤًى ومُتَخَيّلاً، ومِنْ حَرَارَة المرْحلَة المتّسمَة بِارْتِجاجَاتٍ مَسّتْ علاقَةَ الذّات بِالْعالَم، مِمّا كانَ لَهُ آثَارٌ جَليّةٌ علَى احْتِدامِ التّوتّر والشّعور بالنّفي والتّشظّي، والتّيه في مَفاوِز الْهزائِم المُتكالِبَة على الذّات والْواقِع. كيْنونةٌ مفْتوحةٌ علَى أُفْقٍ مُلْتَبِسٍ وغَامِضٍ جرّاء الِانْتقالِ مِنْ عَالَم الِالتِزام والدّخُول عالَمَ الأَسَاطير كَمُنْقذ مِن ضَلالِ اللّحْظة التّاريخِية المأزومَة. ممّا يجْعل هذِه الذّات في حَيْرة دائِمَة، ومُقاوَمة صامِدَة في وجْه هذِه الِانْعِطافات المقوّضة لِلْقَناعَات وَالْأَحْلَام، فكَانَ اللّجوء إلى الأسْطورَة كِقِناعٍ شِعْريّ لإِخْفاء حَقيقَة واقِع الِارْتكاسَات الّذي تَعيشُه الذّات الْفَرديَة والْجَماعيَة، وَهِيَ تُجابِهُ الْوُجُودَ وإشْكالاتِه.
إنّ اخْتِيارَ المُغامَرة كآلِيَةٍ مِنْ آلْياتِ التّجْديد، مُنْطلَقُه الرَّغْبَة في تأْسِيس وَعْيٍ شِعْريّ جَديد، يَتخطَّى الْكائِن للْحُلم بِمُمْكِنٍ شِعْريّ يَسْتَجيبُ لِزَمَنٍ إِبْداعِيٍّ مِيزتُه التَّحْويلُ والتَّبْديل،و يطْرح علَى الشّاعر سُؤال الشّعر المُفْضي إلى ارْتِيَادِ آفاقٍ جَديدَة في الْكتابَة الإبْداعِية، و المُثير للتّناقُضات الْقائِمة بيْن الذّات والْعالَم والمُبرزة لِحيْرة الموْجُود فِي مَتاهَات الوْجُود. هذِه الْآفاقُ المُشعّة بِالْإدْهاش والإبْهار، والمُضاءَة بالمُعْتِم والْغامِض، و المُحفّزة لِلْحواسّ والْمُوقِظَة لِلْحُدوس لِمُطَارَدَة الْمَجْهُول والْمَعْلُوم وَمُرَاوَدَتِهما، و تِلْك سِيرة الشّعْر، عِنْد الشّاعر أحْمد المجّاطي، الْكاشِفة عنْ حَقيقَة التّحْويل الّتي رسّختْها تَجْربَتُه الشّعْرية،و جسّدها مُنْجزُهُ الشّعْري المتميّز بإبْدالاتِ تَمُسّ جوْهر الْكتابَة الشّعرية الْعَربِية.

(2) الطَّرِيقُ
إِلَى الْمُغَايَرَةِ:

ليْس خافِياً، أنّ قِراءَة مَسارَ تَجْربَةٍ شِعْريةٍ مَا، تبْقَى مُحاطَةً بِهالَةٍ مِن التّشابُكاتِ الّتي تَحْكُمُ زاوِيَة النّظر كَمُنْطَلَقٍ ، وَ هِيَ تَشابُكاتٌ مُرْتبِطَةٌ بِقُدْرَة الْقارِئ علَى اكْتِشافِ مَا يُمَيّز هَذِه التَّجْرٍبة عَنْ بَاقِي التّجارب المُجايِلَة لَهَا عَلَى مُسْتوى المرْجعِيات المُشكّلة خَلْفية شعْرية مُنْبَجِسَة مِنْ قَلَقِ الْإِبْداعِ ومُكابَداته، وسُؤال الشّعر المسلّط الضّوء على مَغالِق الْكَوْن والْإِنْسان، هذا الأخِيرُ يُعْتَبر جوْهر التّجْربة الشّعْرية، وبِمَدَى سَعَتِه(القارئ) المعْرفية الّتي تُمكّنُه مِنَ الْحَفْر في أَراضِيها الشّعرية ، معَ ضرُورة اعْتِماد المحبّة الْواعِيَة والِإِنْصَات لِدَبِيبِ التّجْربَة أَثْناء عُبُور مسالِكَ الْقِراءَة. لأنّ الْمَحبّة تشْرَع مَضايِقَ التّجربة وتَكْشفُ خزائِنها الْجَمالِية والْفنّية دُرَرَهَا الْإِبْدالية، في حِينَ أنّ الإصْغاء يقُود إلى مَلْء فجَوات النّصّ وَفَكّ شِفْراتها ورُمُوزَها اللّغَوية. ولا شكّ أن التّجربة الشّعرية، للشّاعر أحْمد المجّاطي، مِنْ بيْن التّجارب الشّعرية الّتي لا ينْضُب مَعِينُها عنْد كلّ قِراءة ، فَهِي تَجْربة مُتحوّلة دَلالِيا وجَمالِيا،مُغايِرَة لِمَا هُوَ كائِنٌ شِعْريا، و هُنَا مَكْمَنُ سِرّ حَديقَتِه الشّعْرية. ذَلِكَ أنّها تَنْحَتُ كِيَانَهَا الإبداليّ مِنْ خِطَابٍ شِعْريٍّ يَنْبُذُ الِاحْتِذَاء و يُؤسّس لِنَصّ شِعْريٍّ خَلّاقٍ ومُتَمرّدٍ عَلى سُلْطَة الْكائِن النّصّي الْقائِم في الشّعرية الْعرَبية التَّقْليدِية، وهَذا يعْني أنّها تَجْربة لَا تَتَحَرّك إلّا فِي رُقْعَة إبْداعِية ضيّقة، بَلْ تخُوض غِمار التّجْدِيد الشّعري المتّصِل بالأُصُول الشّعرية المُتوارَثة، والْمُدْرٍك لِجَدارَتها الإبْداعِية، والنّاهِل مِنْ رَوافِد حَداثَة شِعْرية تُجسّر اللّاحِق بالسّابِق في إِطارِ علَاقَة التّأْثير والتّأثّر. فالْجَمْع بيْن الأصْل والمُسْتورَد، على المُسْتوَى الشّعْري، لا يتحقّق إلّا لَدى الشّعراء الخلّاقِين والمُبْدعِين، الّذين يَمْتلكُون مَلَكَةَ النّباهَة والْحَذاقَة بِجَعْلِهما( الأصْل والمُسْتوْرَد) نَسيجاً مَحْبُوكاً بَهاؤُه في كثْرة المَاء الشّعْريّ.
إنّها مُغايَرة واعِية بأَسْرار الْكِتَابَة الشّعْرية، وهَاضِمَة لِتُراثها ومُتَشرّبة بِحدَاثة شِعْرية تنْتصِر للجِدّة والإتْيان بالمُخْتلِف شكْلاً ومضْموناً. وقادِرَة علَى خلْق تَجْربَتها النّابضَة بِرُوح الذّات ورجّة الْواقِع. وهُنا مَرْبِطُ شِعْرية أحْمد المجّاطي، الّتي لَا تُفرّطُ في الْجُذور ولَا تَرْفُض الْحداثَة. لكِنّ الْحداثَة، الّتي يرَاها المجّاطي، حَداثَةٌ بَعِيدَةٌ عَنْ التّطرّف الشّعْري الْمُفْضي إلَى الْإِبْهام والتّعْمِية، وقَريبَة مِنْ عُمْق الْغُمُوض الشّفّاف المُحْدِث أثَراً جَمالياً يُثيرُ الإمْتَاع، ويَأْبَى الِانْصِيَاع لِجَمالِياتٍ مُتَوارَثَة لَمْ تَعُدْ تَسْتجِيب لِسُؤال الشّعْر الْخَارِج عَنْ أعْرافٍ شعْرية بَاليَة، مُحنّطَة، صَنمِية ومَغْلولَة بِقُيُود التّقْليد. فالنّصّ المجّاطي نصّ قادِم مِنَ الْقصيّ المُدْهِش، والْقريب مِن ظِلال التّجْربة مُسْتَحِمّا بِدِفْءِ اللّغة وَ وَهَجِها الاسْتعارِي الْخالِق لمعْنًى يَتطلّب الْمُجاهَدَة والْمُكابَدَة، ويُحفّز علَى ارْتِياد أرَاضٍ مَحْجوبَة ومُتوارِية عنِ الْعيْن ومَكْشوفَة للْبَصيرَة النّاقدَة. نصّ يَحْفِر مجْراهُ لِتجْربة شعْرية صافِية وبلّورية تشعّ بِجَمالِيات تعْبيرية مُتخلّقة مِنْ تَشْكِيل اللّغة في سَبائِك أُسْلوبِية بَديعَة الشّكل ومُتعدّدة الدّلالات. فَطريق المُغايَرة مَحْفُوفٌ بالْكَثير مِنَ الْمَتارِيس الْمُعِيقَة لِدينامِية الإبْداع وحَركِيَته، والذّهاب بَعيداً في ابْتداعِ لُغَة أخرى، لُغَة مُتوهّجَة بِضِياءِ الْباطِن، فيّاضَة بِسُؤال الشّعْر الْحارِق والْمَارِق، لكِنّ إرادَة الشّاعر الإبْدالِية كانَت الأقْوى في خلْق النّصّ الْمُنْتظَر . إِنّها مُغَايَرَة تُغيّر نَظْرَتنَا تُّجَاهَ الوُجُود،وتصوّرنا للْعالَم ، بَلْ تَظلُّ هِجْرَة خارِجَ ذوَاتِنَا لِإِدْرَاكِ جَوْهَرَ عَلاقَتِنَا مَعَ الْمُحِيط، وتَجْعلُ السّفرَ في الأَعْماق أَكْثَرَ سِمَةٍ تُمَيّزُ هذِه الْمُغَايَرَة. وَلَا غَرَابَةَ فِي الْأَمْر مَادَامَتِ التَّجْرِبَة الْمَجَّاطِيةُ تَنْمُو عَمُودِيّاً رَاصِدَة تَحَوُّلَاتِ الْعَالَم، ومُؤسِّسَة لِرُؤْيَا شِعْرِية نَابِعَة مِنْ عُمْقِ رُوحِ الْمَرْحَلَة واللّحْظة التّارِيخية، وَمُجْتَرِحَة لِصَوْتِها الشّعْرِي الْمُنْبَثِق مِنْ تَجْرِبَة الْحَيَاة،والْمَدْبُوغِ بِحَيَاةِ التَّجْرِبة، ممّا يُحَوِّلُ الْخِطَابَ الشِّعْرِيّ إِلَى مَجَالٍ لِتَفَاعِلِ الذّات بالْمُجْتَمَعِ وإِقَامَة حِوَارٍ مَعَ التُّرَاث مَقْصِدِيتُه تخْصِيبُ اللُّغَة والتَّجْرِبَة، وَتَفْخِيخُ الْمُتَخَيَّل بِأَبْعادٍ دَلَالِيَة مَفْتُوحَةٍ عَلَى الْمُرْبِكِ والْفَاتِن.

(3) شَاعِرُ النُّدْرَةِ
وَالْفَرَادَةِ الشِّعْرِيَّة:

إنّ أَحْمَد الْمجَّاطي شَاعِرٌ يَنْتَسِبُ إِلَى سُلَالَةِ الشُّعَرَاءِ، الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنّ الْكِتَابَة طَرِيقٌ يَحْتَاجُ إِلَى زَادٍ مَعْرِفِيّ مُتأَصّل فِي الْعُمق، وَمُتَحَوّل فِي الظَّاهِر، و هُنا مَجْلَى فَرادة الشَّاعِر، ذَلكَ أَنّهُ لَا يُبْدِع مِنْ فَراغٍ، وَإِنّما مِنْ وَعْيٍ شعْريّ فَوَّارٍ بِأَسْئلَة الْواقِع واحْتِراقاته،ومُشْتعِل بحرَارَة التَّجْربَة، ولَعلّ دِيوانَ «الْفُروسِية»الّذي يمثّل ذَاكِرَة الشّعْر الْمَغْربيّ، لِمَا ينْضَحُ بِه مِنْ مُتَخَيَّلٍ شعْريّ يُزاوِج النّهْل منَ التّراثِ الشعْريّ العربيّ وَيَنْفَتِحُ علَى شِعْرية معاصِرَة، الشّيْء الّذي طَبَعَ تَجْربَتهُ بِتَجَلٍّ يُبَدِّدُ الْتِبَاسَ الْمَعْنَى، وَيُضِيءُ الْغَوامِض وَيَشْرَعُ جُغْرَافِيَاتٍ مُسَيّجَةً بِغِبْطة اللّانِهائِي وَدَهْشَة الاِحْتمالات.
وَتَجْرِبَتُهُ مُقَطَّرَة عِمَادُهَا التَّقْتِيرُ فِي الْإنْتَاج وَعملُه الشِّعْرِيّ الْوَحِيدُ مِثَالٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمَجّاطي يَهَابُ رَهْبَةَ الشِّعْر، وَ يُصَابُ بارْتجَافٍ بَاطِنيّ أَمام عَظَمَةِ سَيِّد الْكَلام بِلُغَة الْخَلِيل بن أحْمَد الْفَرَاهِيدِي، وقارِئُ الدِّيوَان يَقِفُ عَلَى حَقِيقَة طَابَعَ الْفرَادَة،المُتجلّي في الرَّحَابَة الشِّعْرِيّة التي تُميّز صَوْتَه الشّعريّ، لأنّ الشّاعِر لَا يَنْظُر إلَى الْعالَم بقَدْر مَا يَحْدسُ بِالْمُبْرق اللّاسِع والْحارِق، ببَصيرَة وقّادَة تصطادُ النّادرَ صُورةً والْغائِر دلَالَة، وَ الْعَميق رؤْية، لأنّ سُؤال الشّعْر الّذي تَطْرحُه تَجْربَتهُ مُنْدغِمُ بِإِشْكالٍ وُجوديّ مُتَعلّق بالذّات فِي ارتِبَاطٍ مَعَ الْوُجود، وبِأَسْئِلَةِ الْكِتَابَة الشّعْرِية الَّتي لَا تَرْكُنُ لِلْجَاهِز وَإِنَّمَا السَّعْي نَحْوَ آفَاقٍ تَنْسُجُ الْكَلِمَةَ الصَّغِيرةَ، الَّتي تَفْتَحُ تَآوِيلَ عَديدَة، وَتَخْلُقُ خِطَاباً شِعْريّاً لِسَانُ حَالِهِ يَفْصَحُ عَنْ ثَرَاء في الرّمُوز والصّور ذاتِ الْحُمُولاتِ الْجَمالِية الْقائِمة عكْس الْجماليَاتِ الْبَاليَة والْمُتَجَاوَزَة، والّتي تمّ تخصيبُ دلالاتِها بِأَمْصَالِ التُّراث، ممّا وسّعَ مِنْ أُفُقِ الْإِبْدَاعِ الشِّعْريّ.
إنّ مَا يَسِمُ تَجْرِبَةَ الْمَجّاطِي كَوْنُهَا خَارِجَةً مِنْ صَمِيمِ رُؤْيَا إِبْدَاعِيَّةٍ ذَاتِ خَلْفِياتٍ فِكْريّة تَزِيدُ الْخِطَابَ الشِّعْريّ ارْتِبَاكاً وحَيْرَة والْتِبَاساً لِمَا يَزْخَرُ بِهِ مِنْ أَبْعَادٍ فَنِّية، وَتَصوُّرَاتٍ وَأَشْكَالٍ أُسْلُوبِية تَكْشِفُ عَنْ مَعْدِنِ الشَّاعر النَّادِر الْمُسْتحِيلِ مُماثَلَتهُ، وَهُنا تَبْرزُ الْقِيمَةُ وَالْجَدَارَة الْإِبداعية لِلْمجّاطي.وَإِبْداعيةٌ مُفَارِقَةٌ تَرْتَضي الْحَفْرَ فِي أَرَاضِي الشِّعْر الْمَلْغُومَة بِإِشْكالاتِ الشّعْر وَهَواجِسِه، بِمُجَارَاتِ إِبْدالَاتِهِ اللّانهائية، وَالْمَفْتُوحَةِ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْمُفَاجئ وَالْمُذْهل، وَعَلَى رُؤىً تُبْدِعُ حَضَارة الشّعْر النّابِض بأصواتِ السّلَف لَيْس احْتذَاءاً وَإنّما اسْتِلْهَاماً وَاعياً لِروحه الْإِبْداعية، وتَخَطِّيا خالِقاً لكيَانِه الشّعْري.
فَإذَا كَانَ الْمجَّاطي شَاعِراً حَدَاثيّا إِلّا أَنَّه لَمْ يُسْرِف في هَذا الْمَنْحى، مِنْ خلَال، الْمُزَاوَجَة المُدْرِكَة والْحَاذقة بَيْنَ مَا أَتَتْ بِه الْحداثةُ مِنْ تَحْوِيلٍ مسّ الشَّكْلَ والتِّيماتِ، وَمَا يَحْبَل بِهِ التُّرَاث مِنْ ذَاكِرَاتٍ شِعْرية مُفْعمَة بِلَوَامِعِ التّجربَة إشَارَاتِهَا الرّؤياويَة. كلّ هذا كانَ خَلْف اتّسامِ اللّغة الشّعْرية بنَوْع منَ الْمُفارقَة والتّجديد، ولعلّ عملهُ الشّعري الْفريد يُثَمّن ما قُلْناه، وفي هذا السّياق نُشير إلى بعْض الفرائد التعبيرية مثال ذلك( تمزّق المسمار في نسيجه/ تلبسني الأشياء/ تلبسني شوارع المدينة/تشرد الأحلام في خطواتهم/كحّل الصّمت جُفونه/فاضَ اللّحن في الكأس الحزينة/رائحة الموت على الحديقة/ تهزأ بالفصول/لابدّ أنّ شعلة/ تغوص في القرارة/يستفيق الثّلج في أحشاء /بارودة/ شاخ الحزن في الصّبر المُلفّق/حرف يطير إلى الوراء….) إنّنا أمام دفْق شعري ينسج علاقات متشابكة تُشكّلها اللّغة مع الأشياء، وتخلقها الذات في ارتباطها بالعالم، هذه العلاقات تكشف عن الشعور الواعي باحتدام الصراع بين الرمز والمتخيّل الذي ينهل من الموروث الإنساني، وذلك للتعبير عن الخيبات المُعْترية الذات والمكان والزمان واللغة، ممّا حوّل العالم الشعري لدي المجّاطي إلى عالم مُنذِر بالانكسار والسّقوط، غير أنّه سقوط مُرِك لسياق التاريخ وسؤال الهزيمة، من أجل واقع تستعيد فيه المدن العربية ( طنجة/ دمشق/ تطوان/مراكش / الدار البيضاء/فاس/سبتة / القدس…) الحياة والنخوة التي دبّ الأسَى فِيها، التّاريخ والْحَضَارة المُستلَبة بفعْل غِيَاب الْفُروسِية الّتي غابَت عنْها نَشْوة الْغُبار وتلّبست بلَيْل عربيّ مُدْلَهمِّ، وعجْز أبَديّ مازالَت أَكْزُودِيتُ تغنّيه قَوافِيها المتبرّجة مِن صوْت القصيّ الْمُقِيمِ فِي أَدْغَالِ الصّحْرَاء.إنّها لُغَةٌ صَافِيةٌ مَغْسُولَةٌ بِنَهْرِ الاِسْتعَارَاتِ الَّتِي نَحْيَا بِهَا، وَنَكْتُبُ الْمَاء سِيرَةَ الشِّعْرِ الْقَائِمِ فِي مُرَبَّعِ التُّخُومِ، والْمُتَرحّل عَبْرَ مَجَارِي الْمَاءِ الشِّعْري النّابِض بِحَيَاة النّصّ الْمَجّاطي.

خَارِجَ الْفُرُوسِيَةِ:

« تَمَّةَ لُغَةٌ آتِيَةٌ مِنْ تُرْبَةِ الْمَاء/ تَرْتُقُ تُخُومَ الْأَبَجِدِيَّة بِخَيْطِ الرُّؤْيَا/ تُبَايِعُ خَيَالَ الْمَدَى/ وَتَرْتَضِي جِهَةَ الْمَجْهُول/ وَتُدَوِّنُ الْكَلِمَةَ الصَّغِيرَةَ بِحُرُوفِ رَاجِعٍ الطَّافِحَةِ بِفَيْضِ الْمُكَابَدَاتِ/ وَتَخْطُبُ وِدَّ صَدِيقَةٍ تُمَزِّقُ الْمِسْمَارَ وَتَرْتَدِي نَسِيجَ الْمَجَازَاتِ حَيْثُ الْعَصْفُ بِدَايَةُ الْخَلْقِ وِاللّاَنِهَائِي الْمُسْتَحِيل…»

الكاتب : صالح لبريني


بتاريخ : 16/10/2020
أعلى