حسن حنفي - الهُويّة والاغتراب في الوعي العربي

صدر كتاب مهم ومتنوع الأقلام والمقاربات والوجهات بعنوان «اللغة والهوية في الوطن العربي، اشكاليات تاريخية وثقافية وسياسية» (صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» (بيروت)، لمجموعة من المؤلفين العرب، اتخذ كل منهم حيّزه، أو زاويته، في مسألة علاقة اللغة والهوية. واجماع هؤلاء المثقفين، وعلى اختلاف آرائهم وتنوعها، يشكل حواراً غير مباشر، وثريا، ومتعدد الجوانب، وعميقا، وجديا، وتقنيا... أما المؤلفون المساهمون فهم رمزي منير بعلبكي، حسن حنفي، محمد غاليم، محمد جبرون، لطيفة الجبار، نادر سراج، شهامة خير الدين، عبد الرزاق الداوي، سالم البيض، ناجية الوريمي، رشيد بلحبيب، عبد القادر النهدي، وعبد السلام المسدي.

اخترنا بحث المفكر المصري حسن حنفي بعنوان «الهوية والاغتراب في الوعي العربي».

«الهوية واللغة» موضعان مرتبطان، يتفاعلان في السلوك الفردي والاجتماعي داخل الأوطان. يؤثر كل منهما على الآخر، قوةً وضعفاً. إذا قويت الهوية قويت اللغة. وإذا ضعفت الهوية ضعفت اللغة. اللغة تعبير عن الهوية طبقاً للقول المشهور «تحدث حتى أراك». وقد تحدث الله في الوحي حتى تُعرف ذاته العلية. وكلمة «لوغوس» في المسيحية كما هو الحال في إنجيل يوحنا تعني الكلمة والهوية والوجود في آن واحد. والعروبة ليست بأب أو أم كما في الحديث الشهير «إنما العروبة هي اللسان«. فكل من تحدث العربية فهو عربي. وجميع علماء العجم الذين تحدثوا العربية كسيبويه والفارسي وابن سينا عرب. وغيرهم هم عرب، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، صحابة الرسول، عرب بفعل اللغة.

[ أولاً: الهوية واللغة: المعنى الاشتقاقي

«الهوية» من الضمير «هو» يتحول إلى اسم. ومعناه أن يكون الشخص هو هو. هو اسم إشارة يحيل إلى الآخر، وليس إلى الأنا. وهو ما يعادل الحرفين اللاتينين Id. ومنها اشتق أيضاً لفظ Identity. أما لفظ الإنية فهو فيعادل الحرف اللاتيني Ipse ومنها اشتق Ipseity. وبالتالي تمنع كل أنانية وخصوصية لأن الهوية تثبت الآخر قبل أن تثبت الأنا. لا يشتق لفظ «الهوية« من ضمير المتكلم المفرد «الأنا» إلا بمعنى الأنانية في مقابل الغيرية. أما لفظ «الإنية» فمشتق من «إن» حرف توكيد ونصب. ومعناه أن يتأكد وجود الشيء وماهيته من خلال التعريف.

يماثل لفظ «الهوية» لفظ «الماهية» عند الفلاسفة أي جوهر الشيء وحقيقته. الهوية تماثل بين الأنا والهو في حين أن الماهية تماثل بين الشيء ونفسه. وهو أيضاً لفظ مشتق من أداة الاستفهام «ما»، وضمير الغائب المؤنث «هي». يستعمل في التعريف في حين أن لفظ «الهوية» يُستعمل في الوجود. أما لفظ «جوهر» فهو صورة فنية من المعادن الثمينة ويعني اللب والحقيقة أغلى ما في الشيء.

أما لفظ «اللغة«، فمشتق من فعل «لغا»، «يلغو». ومنها اللغو أي كثرة الكلام وقلة المعنى. وأصبح سائداً بمعنى «اللسان» وهو اللفظ الذي يعادل Langue الذي يعني أيضاً اللسان. وفي علوم اللغة أصبح الشائع هو «اللسانيا« لا اللغويات. وهو اللفظ المستعمل في القرآن: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

في حين يكثر من استعمال لفظ الكلام. وهو صفة لله. فالله متكلم. وقد يكون صمتاً أو إشارة أو رمزاً كما حدث مع مريم عندما كانت آية براءتها ألا تكلم الناس ثلاث ليال إلا رمزاً. والصمت عند الصوفية لغة وتعبير أبلغ من الكلام. «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة« كما صرح النفري.

الهوية أسبق في الوجود الإنساني من اللغة وإن كان الوجود أسبق منها. فالوجود يوجد أولاً. ثم يتحرك باعتباره وعياً ذاتياً إلى هوية. ثم تعبّر الهوية عن نفسها باللغة لإيصال رسالتها إلى الآخرين. فاللغة تعبير وإيصال. هيدغر هو الوحيد الذي قال إن اللغة منزل الوجود. فاللغة توجد أولاً ثم يسكن الوجود فيها، وهي المعركة التي دارت في الفلسفة الغربية بين الفلسفة الحديثة حيث تسبق الماهية الوجود، والماهية هي الفكر أو الوعي أو بالتعبير الديكارتي «الكوجيتو» والفلسفة المعاصرة التي يسبق فيها الوجود الماهية. فالوجود أولاً ثم تتخلق الماهية بفعل الحرية. الوجود هو الهوية ودلالته هي الماهية، واللغة هي الحامل لها والمؤثر فيها.

تحدث الفلاسفة عن قانون الهوية، أن يكون الشيء مطابقاً لنفسه وليس غيره. وهو مبدأ ميتافيزيقي من مبادئ الوجود. واعتبره الوضعيون تحصيل حاصل. فمن الطبيعي أن يكون الشيء هو نفسه وليس غيره. هو مشكلة زائفة وبالتالي لا حل لها. فالفيلسوف المثالي يثير الغبار ثم يشتكي من عدم الرؤية.

الحقيقة أن الهوية ليست قضية صورية بين الإثبات والنفي، بين المثاليين والواقعيين بل هي تجربة إنسانية معيشة. فالإنسان هو الذي له هوية وليس الشيء الطبيعي. هوية الشيء إسقاط من هوية الإنسان على الطبيعة، من الداخل على الخارج. تتجلى في لغة الحب الإنساني ولغة الحب الإلهي عندما يقول الحبيب: «أنت أنت» واصفاً الحبيب سواء اكانت الحبيبة امِ الله. وهي لغة التوحد بين الحبيبين «أنا أنت، وأنت أنا». وكل صيغة نظرية لقانون الهوية وما يقابله من قانون التناقض هو تجريد نظري لتجربة معيشة كما هو الحال في قانون الجدل عند فيخته: الأنا تساوي الأنا، والأنا ليست «اللا أنا«. قانون الهوية تعبير عن ألمانيا المحتلة من نابليون. وقانون التناقض هو التعارض بين ألمانيا والمحتل. والأنا المطلق المركب من الأنا واللا أنا هي الإنسانية الخالية من الاحتلال عندما تعيش الشعوب كلها شعبا واحدا.

الهوية إمكانية توجد أو لا توجد مصاحبة للوجود كوعي ذاتي. تتخلق بالحرية. كل ذات لها هوية كامنة توحدها وتحميها من الانقسام. الوجود الإنساني غير الوجود الطبيعي. مقولاتها الوجود والإمكانية والوعي الذاتي وليس الوجود والعدم. جعلها هيغل في منطقة جوهر الوجود تتخلق منه ولكن ليس بفعل الضرورة لكنه بفعل الحرية. وفي هذه الحالة تسمى الهوية «الهوية والذاتية« Self-identity. وفي هذه الحالة لا يحتاج تحليل الهوية واللغة إلى مراجع القيل والقال ونقل تجارب الآخرين وتحليلاتهم دون الاستناد إلى تجربة معيشة حية. وقد تم اللجوء إليها في أقل الحدود.

[ ثانياً: الهوية والاغتراب

تتحول الهُوية إلى اغتراب عندما تنقسم الذات على نفسها، بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون. وبسبب الاستبداد الواقع عليها، تشعر الذات بالانكسار، أو ما سمّاه الفلاسفة الوجوديون المعاصرون «الاغتراب»، تعيش في عالم لا تسيطر عليه، وتشعر بالعجز عن تغييره، لا تمارس حريتها، وبالتالي تفقد وجودها. يصبح وجودها مثل العدم أو على الأقل، مثل الوجود الطبيعي للأشياء، الوجود الإنساني بلا حرية يصبح وجوداً طبيعياً، يصبح شيئاً، يصبح جزءاً من عالم الضرورة. والاغتراب في المقابل ليس ظاهرة نفسية خالصة، أو ظاهرة يدرسها علم النفس المرضي بل ظاهرة وجودية يدرسها علم النفس الوجودي. فالنفس في بدن، والبدن في عالم. وهو ما سماه الوجوديون «الوجود في العالم» (In-der-Welt-sein). والاغتراب أيضاً ظاهرة في علم النفس المعرفي، إذ يستطيع المغترب أن يكتشف عوالم لا يكتشفها السوي مثل معظم الفنانين، وكما هو معروف «الجنون فنون». والسلب إيجاب، والإيجاب سلب. ما يهم هو النقطة الحساسة التي تتكشف منها الدلالات بلمسها. لذلك كان المنهج الوصفي أفضل المناهج لتناول «الهوية واللغة». وهو المنهج القادر على تحليل التجارب الشعورية من أجل اقتناص دلالاتها، التجارب الذاتية والتجارب المشتركة.

للاغتراب أشكال عديدة، الاغتراب الديني والاغتراب الاجتماعي، والاغتراب الثقافي والاغتراب السياسي، والاغتراب التاريخي. وهو ما ظنه البعض هوية دينية، أو اجتماعية، أو سياسية أو ثقافية، أو تاريخية.

يتخلل الاغتراب الديني كل الطبقات كلها العليا والوسطى والدنيا، تجد الذات نفسها تعويضاً عن عجزها، في غيرها، الأقوى منها، وهو الله. فتتجه إلى الله فكراً وشعوراً وسلوكاً. فهو الموجود القديم الباقي الذي ليس له مكان، ولا يشبه الحوادث، وواحد كرد فعل على أوصاف الذات الإنسانية، فالذات غير موجودة، وجودها طائر عرضي، أقرب إلى العدم. وهي قديمة تمتد جذورها في أعماق الوجود، وليست ذاتاً عارضة حادثة. وهي ذات باقية لا تفنى، في مقابل الذات المتجهة نحو الموت، فلكل أجل كتاب. وهي ذات حاضرة في كل مكان وليست محددة في مكان تنهزم فيه ولا تهرب، لا تشبه الحوادث لأنها غير مرئية ولا متصورة: «كل ما خطر في بالك فالله غير ذلك». وهي واحدٌ فردٌ لا مثيل له ولا شبيه، لا ازدواجية فيه ولا تعدد، وهي الأوصاف الست التي يعطيها الوعي المغترب للذات الإلهية، يرى فيها نفسه، يتخيّل فيها كماله، ويعبّر من خلالها عمّا يجب أن يكون. وتعزى إليه سبع صفات: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، كردّ فعل على الاحساس بالجهل والعجز والموت، ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة كما هو المثل في الحكمة الصينية القديمة» لا أسمع لا أبصر، لا أتكلم». وتعزى الذات وتجسّد آمالها وما تريد تحقيقه في أسماء الله التسعة والتسعين، تعبّر عما يريد الانسان تحقيقه من عزة وقوة وهيمنة. ويحتمي بالنص اذا عجز عن فهم الواقع، ويتجه الى الله في التصوف صاعداً اليه في الطريق الصوفية، ابتداء من التوبة حتى الفناء، معزّياً نفسه بالصبر والتوكل والرضا والقناعة، ويخفي اغترابه الفعلي بالأشكال والرسوم والشعائر في العبادات، مبيّناً التزامه بها. واستعملت الحركة السفلية في الانتخابات الأخيرة في مصر شعارات مثل «طريق الرسول»، «الطريق الى الله»، والفرج آتٍ من أعلى. ويتوحّد مع الرسول في الأدعية النبوية في الموالد والأعياد الدينية، محولاً الرسالة الى شخص الرسول، يحفظ القرآن ويُرتّله، ولا يعمل به لأنه أسهل، ويروي الأحاديث النبوية طريقاً للخلاص، ويفسّر القرآن، جاعلاً معاركه في التاريخ، يجعل الدين كل شيء في حياته، يضمن به السعادة في الدنيا، والخلاص في الآخرة.

أما الاغتراب السياسي، فهو لجوء النخبة بخاصة إلى الاحتماء بالأيديولوجيا السياسية، بصرف النظر عن نوعها، أليبرالية كانت أم ماركسية، أم اشتراكية أم قومية؛ فالحقيقة ليست في تحقق الهوية في العالم ابتداءً من وحدة الذات دون انقسامها، بل في المذهب السياسي تماماً، مثل الاغتراب الديني الذي يرى خلاصه في العقيدة الدينية. وتخرج الهوية في مذهب نخبوي ليس بالضرورة أن يتحقق، وليس بالضرورة أن تكون له جماهير، على عكس الاغتراب الديني الذي ينبع من قلب الجماهير. الاغتراب السياسي أن تجد الذات نفسها في حزب كما يجد الاغتراب الديني نفسه في جماعة. فالهوية الضائعة تجد نفسها مع الآخرين، نخبة أو جمهوراً. الانتماء إلى حزب سياسي تعويض عن الهوية الضائعة. فالبديل أفضل من اللاشيء. والاغتراب السياسي هو أن تختار النخبة أيديولوجيات علمانية خالصة، مثل الليبرالية أو الاشتراكية، أو القومية أو الماركسية، والجماهير مغروزة إلى أعناقها في موروثها الديني. تكون لها أغلبية الأصوات في حالة انتخابات حرة نزيهة. وتكون الأيديولوجيات العلمانية على الرغم من تعبير برامجها عن مصالح الجماهير في الأقلية، محاصرة بين المطرقة والسندان. هو اغتراب مزدوج. اغتراب ديني عند الجماهير واغتراب سياسي عند النخبة. كل منها رد فعل على الآخر. النتيجة مختلفة، لكن البداية واحدة، وهو الولاء الأيديولوجي المسبق بدلاً من الاعتماد على الثقافة الشعبية وجعلها حاملاً للبرامج الوطنية. الخطاب السلفي يعرف كيف يقول استعمال الموروث الديني، لكنه لا يعرف ماذا يقول. الدعوة الى الأوامر والنواهي الدينية الخاصة معظمها بالجنس. والخطاب العلماني يعرف ماذا يقول، الحرية والديموقراطية، والتعددية السياسية والمجتمع المدني، لكنه لا يعرف كيف يقول، فيلجأ إلى الأيديولوجيات الغربية للتحديث التي لا تفهمها العامة، ويقضى على الاغترابَين، الديني والسياسي بإيجاد خطاب ثالث يعرف كيف يقول، استعمال الموروث الشعبي، وماذا يقول المضمون الليبرالي، أو الاشتراكي، أو القومي. وهو خطاب يجمع البدن والروح، وينتهي الاستقطاب الحاد بين السلفية والعلمانية.

أما الاغتراب الاجتماعي، فهو انتماء الذات إلى طبقة عليا تحمي مصالحها مضحية بالهوية الوطنية، تحقق الذات نفسها في مجموعة رجال الأعمال، وحياة المصارف، والمضاربة في البورصات، وتهريب الأموال، والرشوة، والجمع بين رجال المال ورجال السياسة في طبقة الحكم. وعندما تنتمي الذات إلى الطبقة المتوسطة فإنها تنعم بالثروة، وتهنأ بالاستهلاك. وتستثمر في «المولات» و»السنتر» لاستنزاف بقايا أموال المستهلكين. وتجد في «الحداثة» تعويضاً عن فقدان الهوية. فلا أحد يعيبها. أما الطبقة الدنيا، فتقضي على اغترابها في الفتات الذي يُقدم اليها، السلع التموينية المدعمة وطلبات الاسكان الشعبي، والبحث عن علاج مجاني، وتعليم حكومي، أو وظائف للعاطلين في أي مكان، وبأي أجر. وقد تكون الهجرة هي العلاج الحاسم، وقوفاً أمام السفارات الأجنبية بالساعات لتقديم طلبات الهجرة. وإن استحالت الهجرة الشرعية لُجئ الى الهجرة غير الشرعية عن طريق القوارب في البحار، من الجنوب الى الشمال، حتى لو ضحّى بحياته غرقاً، أو لو قُبض عليه بعد الوصول ورُحّل الى بلده الأصلي الذي فقد فيه هويته. وهو على نقيض الاغتراب الاجتماعي الذي يغرق فيه الشاب في المخدرات، وينضم الى جماعات الأنس لينسى نفسه ويفرّج همه. فالأول اغتراب إلى الخارج؛ والثاني اغتراب الى الداخل. وفي كلتا الحالتين تغيب الهوية الذاتية الملتزمة بالواقع الاجتماعي. وقد يقع القتل في الاغتراب الأول من الشراهة، وفي الاغتراب الثاني من الجوع، وفي كلتا الحالين تغيب القيم، وهنا لا فرق بين غنيّ وفقير، فكلاهما يتساويان في الاغتراب، الاغتراب في الغنى والإغناء، والاغتراب في الفقر والإفقار.

أما الاغتراب التاريخي، فهو ألا تعيش الذات لحظتها الحاضرة لصعوبة الدخول فيها، وتستسهل العيش في لحظتها الماضية، فتنشأ الحركة السلفية، فالماضي أفضل من الحاضر، والصحابة والتابعون أكثر إغراء من لصوص اليوم والمرتشين، الماضي مفتوح عن طريق الخيال والتمني، والحاضر مسدود عن طريق العقل والفعل. والموروث الديني يؤيد هذا الاغتراب، مثل «خير القرون قرني» (فخَلَفَ من بعدِهِم خلْفٌ أضاعوا الصّلاة واتّبعوا الشهوات فسوف يَلْقَون غيًّا)1. والثقافة الشعبية والأمثال العامية تغذّيه، مثل «من فات قديمه تاه» و»الدهن في العتاقي»، و»إن فاتك الميري اتمرمغ في ترابه». والتواصل مع الماضي أسهل من التواصل مع الحاضر، والقطيعة مع الماضي أصعب من القطيعة مع الحاضر. لذلك صعب غرز مفهوم التقدم، والثقافة كلها تجعل اتجاهها إلى الوراء. وقد يكون الاغتراب التاريخي قفزاً نحو المستقبل، فتنشأ الحركة العلمانية التي تود نقل الحاضر إلى نموذج واحد يقوم على المجتمع المدني في مجتمع ديني، وعلى الديموقراطية في مجتمع ذي ثقافة استبدادية، وعلى التعددية في مجتمع يقوم على الفرقة الناجية. وان الحق من طرف واحد، وعلى المساواة في مجتمع تقوم ثقافته على التمايز الطبقي باعتباره تمايزاً طبيعياً اعتماداً على سوء تفسير الآية (وَرَفَعْنا بَعضَهُمْ فوقَ بعْضٍ دَرَجات)2. ويسعى الى تأسيس عقلانية في مجتمع يقوم على الخرافة، ويطمع في اقامة مجتمع علمي، وثقافته تقوم على الأسطورة. أما التواصل مع الحاضر الذي يساعد في استرداد الهوية والقضاء على الاغتراب فنادراً ما يسعى إليه أحد. وإن حدث فالحاضر لديه هو السلطة والحكم. حتى لو وقع نظام ثوري. فهو استبدال نظام بنظام، ومؤسسات بمؤسسات، وخطاب بخطاب، من دون أن تتغير العقلية والمنظور والرؤية الى العالم. ولا فرق بين ديني ومدني، فالرؤية واحدة، ولا فرق بين ديني وعسكري عندما يسعى كل منهما الى السلطة.

على نقيض ضياع الهوية في الاغتراب، هناك مزيد من تأكيد الهوية الى درجة تفجّرها وانتشارها خارج حدودها، كما هي الحال في النازية والفاشية والعنصرية والصهيونية. وهو ما يناقض المعنى الاشتقاقي للفظ «الهوية» من «هو» أي الآخر. ففي النازية تتفجر الهوية الألمانية الفردية والجماعية خارج حدودها، لا فقط لضم كل ألماني خارج حدود ألمانيا باعتبارها دولة وطنية، بل لتبتلع هويات الآخرين المجاورة الفرنسية والهولندية والبلجيكية والدول الاسلامية في أوروبا الشرقية والروسية. «ألمانيا فوق الجميع». فالجنس الآري أعلى وأسمى من الجنس السامي. ويقدَّم اليهود الى المحرقة بصرف النظر عن عددهم. فمن قتل نفساً بغير حق فكأنّما قتل الناس جميعاً، ومع ذلك هناك حدود لانتشار الهوية بالطريق العسكرية ومعاداة معظم الشعوب. وهو ما انضمت اليه اليابان باحتلالها جنوب شرق آسيا. وقد يقال ان هذا الانتشار للهوية خارج حدودها هو رد فعل على هزيمة ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الأولى واذلالهما بعد الهزيمة. وانتهى هذا الانتشار بالسلاح النووي وتفجير القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي وهي عنصرية أخرى، إلقاء السلاح النووي على اليابان لا على ألمانيا، والفتك بمئات الألوف من الضحايا في آسيا، لا في اوروبا وما قامت به النازية في اوروبا والمجال الحيوي في اسيا قامت به الفاشية افريقيا عندما احتلت ايطاليا الحبشة والصومال وليبيا، امتداداً للهوية الايطالية خارج حدودها. ثم قامت الصهيونية بالدور نفسه، عندما جمعت الهوية اليهودية من كل مكان وهاجرت إلى فلسطين. وطردت أهلها وشردتهم في مخيمات، أو إلى بلاد المهجر أو قتلتهم في أوطانهم. وما زالت تريد الاعتراف بها كدولة يهودية، لا على حساب الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً على حساب السوريين واللبنانيين والأردنيين والمصريين والدول المحيطة كلها. فلا توجد إلا هوية واحدة هي الهوية اليهودية، وإلا قومية واحدة هي القومية الإسرائيلية. تقوم الهوية هنا ليس فقط على إثبات الذات، بل على العدوان على الآخر، ما يقضي على الهوية ذاتها على الأمد الطويل، عندما تبدأ الهويات الأخرى المعتدى عليها بحركات التحرر الوطني، وتنتصر الحرية على الاستبداد كقانون تاريخي.

تستطيع الذات أن تسترد هويتها، وتزيح القسمة عن كاهلها، وتستعيد وحدتها، وتقضي على اغترابها عن طريق الثقة بالنفس، وعودة الوعي، وازاحة الاحساس بالعجز، وان الذات أضعف من العالم، والعالم أقوى منها. تستطيع ذلك عن طريق الصدق، وأن يكون ما في القلب على اللسان، أي التوحيد بين الهوية واللغة، بين الوجود والكلمة، وتستبعد كل مظاهر النفاق عندما تقول ما لا تشعر به، وتشعر بما لا تقوله. وتستبعد كل مظاهر العجز عندما تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تقول.. ومن ثم ينتهي اعلام السلطة وفقه السلطان الذي يقوم على الازدواجية. فالاغتراب ازدواجية لا يمكن القضاء عليه الا بازدواجية أخرى. وتقاوم كل مظاهر الاحساس بعقدة النقص تجاه الآخر التي تربت فيها امام ايحاء الآخر لها بعقدة العَظَمَة التي لديه. فالبشر متساوون في الابداع، والحضارات بين المد والجزر، لا توجد حضارة باقية الى الأبد، وأخرى ساقطة الى الأبد. فمسار الحضارات في دورات، وربما الحضارة الغربية التي تشعر المواطن بالعظمة، هي في الطريق الى الانهيار، كما تنبّأ بذلك فلاسفتها. وربما الحضارة التي يشعر مواطنها بالنقص هي في الطريق الى النهوض في ما يسمى «ريح الشرق»، وترفض كل أشكال التعويض الديني والسياسي والاجتماعي التي تمارسها، وتسلك الطريق البديلة، الدخول في مسار التاريخ من جديد بعد أن خرجت منه.

ما يحمي الذات من تفجر هويتها خارجها لابتلاع ذوات الآخرين هو ما يفهم من وجود الآخر في الذات، ما سماه الفلاسفة المعاصرون «الذاتية المشتركة» (Inter- Subjectivty). وهو ما يتفق مع المعنى الاشتقاقي للفظ «هوية» مِن «هو»، أي الآخر، لا من «أنا» التي هي أصل «الأنانية». وتمثل الذاتية المشتركة الانسانية جمعاء. فليس للهُوية مكان وإن كانت فيه، وهو الوطن. وليس لها زمان وإن كانت فيه، وهو التاريخ. تتولد الهوية في مكان، مكان الميلاد، وتمتد في بقعة من مكان الذكريات 3 لذلك كتب أبو حيّان التوحيدي الحنين الى الأوطان. وبكى الرسول ليلة الهجرة، وهو يغادر مكة، أحب الأوطان اليه، وعاد اليها بعد الفتح، ولا هجرة بعد الفتح. ثم تتولد الذاتية المشتركة من داخل الأوطان الى خارجها في القوم الذين ينتشرون خارج حدود الأوطان. حينئذ تصبح الأوطان الأقطار، أو بتعبير القدماء الأمصار. ويصبح القوم هم الوطن الأكبر. ومنها اشتقت القومية، ومكونها الأساس اللسان وليس الدين، أو الطائفة، أو المذهب، أو الجنس، أو حتى الجغرافيا بمعنى البقعة من الأرض، أو التاريخ بمعنى التواصل مع الماضي. وهنا تبرز الدوائر الثلاث المتداخلة، الوطن واللسان والثقافة(4) تتعدد الاوطان، وتتعدد اللغات، وتتعدد الثقافات، كما هي الحال في سويسرا بين الفرنسية والألمانية والايطالية، ويكون الولاء العميق للغة والثقافة. وهي الحال في الهند ايضا عندما يتوحد الوطن وتتعدد اللغات والثقافات وهي الحال في بلجيكا عندما يتوحد الوطن وتتعدد اللغات والثقافات بين الفرنسية والفلمنكية. وكما هي الحال في اسبانيا عندما يتوحد الوطن وتتعدد اللغات والثقافات في بلاد الباسك، وكما هي الحال في كندا عندما يتوحد الوطن وتتعدد اللغات والثقافات بين الفرنسية والانكليزية، وكما هي الحال في كثير من الدول الافريقية ذات اللغات والثقافات المتعددة. فلكل قبيل داخل الوطن الواحد لغتها وثقافتها. اذا قوي الوطن حافظ على وحدته. واذا ضعف يبدأ خطر الحركات الانفصالية. كما حدث في السودان. وهو الآن ما يتهدد وحدة العراق ودول الخليج والمغرب العربي.

[ثالثاً: اللغة بين الوحدة والتنوع

إذا كانت الهوية متعددة الدوائر ذات المركز الواحد مهددة بخطر الانقسام أو الاغتراب، فقد تكون اللغة أيضاً متعددة في الوطن الواحد، تتهدد وحدة الأوطان. وقد تمتد التعددية اللغوية إلى مستوى الثقافة فتصبح التعددية الثقافية أساساً ومقدمة لتفتيت الأوطان. الوحدة والتنوع قانون طبيعي في الحياة الإنسانية، بل والطبيعية. المهم هو أين تكون الوحدة وأين يكون التنوع؟

ليست القضية نظرية صرفة بل هي قضية عملية واقعية تمس وحدة الوطن العربي وتنوعه. فالوطن العربي واحد باسم اللغة والثقافة والتاريخ المشترك والأرض المتواصلة، يتهدده التنوع اللغوي في الأطراف، الكردية في الشمال، والبشتون والهندية في الخليج في الأسواق وأخيراً الهندية في دوائر رجال الأعمال، واللهجات السودانية في الجنوب، والأمازيغية في جنوب المغرب العربي تتاكل الاطراف وهي خطوة نحو سقوط الاوطان دولة كردية في الشمال، ودولة شيعية في الخليج، ودولة افريقية في جنوب السودان تنضمّ الى الكومنولث وتتعامل مع إسرائيل، ودولة أمازيغية في جنوب المغرب العربي. وهو ما وصفه القرآن (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)(5). ثم تنخر العامية في القلب في مصر أداة للتخاطب، لا في الحياة العامة فحسب، بل أيضاً في الحياة العلمية أيضاً، في التدريس في الجامعات، وفي الإعلام في القنوات الفضائية الحكومية والخاصة، بل وبدأت منذ مدة الدعوة إلى الكتابة بالعامية والأدب العامي، أسوة بالزجل وقدرة بيرم التونسي وأحمد فؤاد نجم على التعبير بها عن الواقع العربي، الأغاني بالعامّية، والمسرحيات بالعامّية، والحوار الروائي بالعامّية. وإن كان الحديث بالفصحى فإنه يكون مليئاً باللحن حتى من وزير الثقافة. والحجة أن العامية المصرية مفهومة لجميع العرب، بسبب موادّها الإذاعية والتلفزيونية وأفلامها، كما أن الفرنسية والإيطالية هما عامية اللاتينية. فمن الطبيعي تطور الفصحى إلى العامّية. ولولا القرآن لاندثرت الفصحى.

تخترق اللغات كلها، في الأطراف وفي المركز، اللغات الأوروبية، بخاصة الإنكليزية والفرنسية، إما حديثاً أو تعبيرات أو مصطلحات. في لبنان وسوريا والمغرب العربي، تنتشر الفرانكفونية. وفي العراق، والأردن، والخليج، واليمن، والسودان، ومصر تنتشر الأنغلوفونية. وعلى الرغم من وجود المقابل العربي، إلا أن التعبير أو المصطلح الأجنبي أيسر على اللسان وأقرب إلى الذهن طبيعة أو اصطناعاً، جهلاً أو تكلفاً. وتدفع عقدة النقص أمام الأجنبي إلى هذه الظاهرة لإخفائها أو لاستكمالها. كان ذلك مفهوماً في أثناء الاحتلال لمخاطبة المحتل ببعض ألفاظه ومصطلحاته. واستمر الأمر بعد الاستقلال بتأسيس مدارس لرياض الأطفال باللغات الأجنبية الفرنسية أو الإنكليزية بخاصة ثم الألمانية بعد ذلك، واستئنافها في المدارس الابتدائية والثانوية والجامعات الخاصة وكلما هبط التعليم في الجامعات الخاصة وكلما زادت الشركات الاجنبية احتاجت الى متخرجين من الجامعات الخاصة. على مستوى عالٍ من الجدارة اللغوية والمهارات في أجهزة الاتصالات الحديثة والحاسبات الآلية. ومهما كانت جدارة التعليم للغات الأجنبية والتعبير بها في الحياة الخاصة والعامة، عادة ما تكون اللغة الوطنية أقدر على التعبير عن الفكر. وتكون اللغة الأجنبية أقل جدارة في ذلك. فلكل لغة قدراتها التعبيرية عند أبناء وطنها. اللغة تجري مثل الدم في العروق. ولا يمكن نقل دم طوال الوقت مهما دعت الحاجة الى ذلك.

إن جرى الحديث باللغة العربية فإنها تكون حافلة بالكلمات المعرّبة. وما أكثرها في العلوم الحديثة حتى سُمّيت اللغة «الفرانكوأراب». فلغة الطب والصيدلة حافلة بها على الرغم من وجود الترجمة العربية له، مثل الأنتيبيوتكس للمضاد الحيوي، وهيديك لوجع الرأس، وكانسر للسرطان... إلخ. والأظهر في علوم الاتصالات الحديثة مثل الكمبيوتر للحاسب الآلي، والإنترنت لشبكة الاتصال، والإيميل للبريد الإلكتروني، وفي التصوير كلوز أب أي التصوير عن قرب، وأدواته مثل الكاميرا لآلة التصوير. بل انتقل الأمر إلى مجال العلوم الإنسانية، مثل الإبستمولوجيا للمعرفة، والأنطولوجيا للوجود، والأكسيولوجيا للقيم، والسيكولوجيا لعلم النفس، والسوسيولوجيا لعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا لعلم الإنسان، وانتقل ذلك إلى المصطلحات الهيومانزم للنزعة الإنسانية، الأيديالزم للمثالية، والرياليزم للواقعية. ثم انتقل إلى الحياة العامة مثل كوافير لمصفف الشعر أو الحلاق، وكوفي شوب للمقهى، وعُرّب بعض المصطلحات بلا رجعة مثل مول وسيتي سنتر وسيتي ستارز وأوكازيون، وبيتزاهت وأوكي وأورايت. في حين تغلب القدماء على هذه المشكلة. بدأوا بالتعريب ثم انتهوا بالنقل أي الترجمة وإيجاد اللفظ المقابل وخلقه بالعربية. ففي علوم المنطق قاطيغورياس أصبحت المقولات، باريأرمنياس العبارة، وأن الوطيقا التحليلات، وريطوريقا الخطابة، وديالكتيكا الجدل، وسوفسطيقا المراء، وبوييطيقا الشعر، وما زالت هذه الألفاظ المنقولة تعيش معنا حتى الآن. ولم يعد أحد إلا في ما ندر، يستعمل الألفاظ المعرّبة. واستعملت ألفاظ معرّبة في القرآن الكريم من الرومية، مثل الصراط (Stratus)، ومشكاة من الفارسية، والإنجيل من اليونانية، والتوراة من العبرية. وقد دخل كثير من الألفاظ العربية في اللغات الأجنبية عندما كان النقل يتم من العربية إلى اللاتينية في أواخر المرحلة الأولى للنهضة الإسلامية التي يعادلها العصر الوسيط المبكر في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، مثل ألفاظ سكر، وزيتون، إلى الإسبانية والطرف الأغر (Travalgar) في بريطانيا، وسوق، وبازار من الفارسية إلى اللغة الفرنسية. وأعدّت قواميس بأكملها للألفاظ الأجنبية في كل اللغات. وعادة ما يكون النقل من لغة الحضارة القوية إلى لغة الحضارة الضعيفة، كما نُقلت الألفاظ العربية إلى اللاتينية في نهاية المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية، وكما تعرَّب ألفاظ اللغات الأجنبية منذ قرنين من الزمن في نهاية المرحلة الثانية من الحضارة الإسلامية.

يمتد الأمر من اللغة إلى الحياة اليومية، فاللغة سلوك، وتنشأ ظاهرة التغريب أو «التفرنج»، كما سماه المصلحون منذ القرن الماضي. وتمتد إلى اللباس مثل: شورت، بلوزة، وكوت، وبالطو، بل والملابس الداخلية مثل كيلوت وسوتيان والطعام والشراب مثل سفن آب وستيك وهمبرغر وبيفوهوت سوس ولدن ومديوم والبناء والمباني العالية في الصحراء الممتدة أسوة بمنهاتن وتستعمل كلمات مثل اسانسير وروف وغراندفلور وريسبشن وويتربولمان. وفي التعليم، مثل كندر غاردن وتجارة إنغلش، كما تظهر في الرياضة مثل الفوت بول لكرة القدم وفاولو آوت.

تمتد الظاهرة إلى الحياة الاقتصادية والسياسية. فلا فرق بين رأس المال الأجنبي ورأس المال الوطني، بين الشركات الأجنبية والشركات الوطنية، بين البنك الدولي وصندوق النقد والبنك الوطني، بين إيداع الأموال في الخارج لاستثمار وأمان أكبر وإيداعها في الداخل خوفاً من التأميم والرقابة. ويُمحي الفرق بين الطربوش والقبعة، بين الأفندي والخواجة، ما يجعل العمّة تثور على الاثنين، بتصنيف أحد المفكرين العرب المعاصرين(6). وتنشأ الحركة السلفية بكل مظاهر تحريمها واستعادتها لعصر الرسول وأساليب الحياة فيه. يقابل اغتراب اللغة باسم الحداثة باغتراب آخر للغة باسم الأصالة، وهو ما يسهل انتشار العامّية بديلاً من رفض اللغتين القديمة والجديدة.

يمتد الأمر إلى الحياة الثقافية، فتزداد نسبة الترجمة على التأليف، وتكثر مشاريعها، وتُعد الكتب المترجمة بالآلاف، الألف الأولى، الألف الثانية. وتتعدد مراكز الترجمة في العواصم العربية، القاهرة وبيروت ودبي. وكل نهضة ثقافية تبدأ بمشروع للترجمة. وكلما كانت مطابقة للأصل المترجم منه كانت سليمة حتى لو ضحت بالأسلوب العربي في اللغة المترجم إليها. وتنشأ ثقافة منقولة بلا أصول، ويكثر الحديث عن مشاهير الكتب المترجمة ومؤلفيها لحاقاً بالثقافة العالمية، فينشأ رد الفعل السلفي بنشر كتب السلف التي تعبر عن ثقافة القدماء وعلومهم. وكلتا الثقافتين، الوافدة والموروثة، لا تحققان إبداعاً. اللغة هنا وسيلة لنقل المعلومات لا للتعبير عن العلم، للنقل لا للإبداع. وهنا يكون الفن أفضل، لأن الفن لا نقل فيه. وتنتشر الازدواجية الثقافية من حيث المصادر، لا من حيث اللغة فحسب، من حيث المضمون ولا من حيث وسائل التعبير فحسب؛ ثقافة تترجم وتعرض، وثقافة تشرح المتون وتهمش عليها.

تلحق اللغة باغتراب الهوية وتساعد في اغتراب الفكر بعد اغتراب الوجود. ويصبح الاغتراب هو النسيج الفعلي للوجود العربي، هوية ولغة وثقافة فيغترب العربي في التاريخ، ويخرج عن مساره. وتتغير معالم منطقته إلى هويات ولغات وثقافات أخرى تحتلها كيانات عرقية طائفية تصبح فيها إسرائيل اليهودية أقوى دولة في المنطقة، تستولي على الموقع الجغرافي، وعلى المسار التاريخي، وعلى اللغة والثقافة. وتصبح الدولة العبرية وريث المنطقة لغة وثقافة وتاريخاً. وتلك نغمة البائسين.

مع ذلك هناك من يقبل التحدي التاريخي، فالعرب ما زالوا قائمين منذ جدهم إبراهيم وأبيهم إسماعيل، تلقوا الرسالة وحافظوا عليها. ونشروها شرقاً وغرباً وكانوا صناعاً للحضارة على مدى سبعة قرون. وعلى رغم الغزوات التي توالت عليهم من الشرق من التتار والمغول، ومن الغرب من الصليبيين والاستعمار الحديث، إلا أنهم قاوموا، وما زالوا يذكرون حطين وعين جالوت؛ اذ قاموا بحركة تحرر وطني في الخمسينيات والستينيات، ثم تحولت الدولة الوطنية إلى دولة أمنية استبدادية. فقامت الثورات العربية الأخيرة في تونس ومصر وليبيا واليمن، ولا تزال دائرة في سوريا، وهي قاب قوسين أو أدنى من الانتصار. ولا تزال ثورات أخرى في البحرين، والكويت، والأردن، والجزائر، والمغرب، وأصبح العربي يدافع عن حقوقه، وتعلّم كيف ينزل الى الشارع ويصيح بأعلى صوته: «الشعب يريد إسقاط النظام»، «الشعب يريد إسقاط السفّاح».. لغة جديدة تعبّر عن استرداد الهوية ونهاية الاغتراب. والتحول من الهزيمة إلى النصر، وتلك نغمة المتفائلين.

هوامش

1- القرآن الكريم، «سورة مريم،» الآية 59.

2- المصدر نفسه، «سورة الزخرف،» الآية 32.

3- فأنا من مواليد القاهرة، لغتي العربية، وثقافتي إسلامية.

4-حسن حنفي، الدوائر الثلاث (القاهرة: دار العين، 2010)

5- القرآن الكريم، «سورة الرعد» الآية 41.

6- عبدالله العروي، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، تعريب محمد عيتاني؛ تقديم مكسيم رودنسون (بيروت: دار الحقيقة للطباعة والنشر، 1970).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى