راسم المدهون - قصيدة الأسئلة

نصف قرن وأكثر، هل هي سنوات كافية للخروج من صخب نقدي عاصف حول «قصيدة النثر»، أو بسببها؟ وهل أجاب ذلك الصخب النقدي - عبر مراحله كلها - عن أسئلة الشعر والشعرية في تلك القصيدة، ثم عن السؤال الأهم وهو سؤال ما في تلك القصيدة من تجريبية تنفلت بحدود قصوى من صرامة الموروث، وتنفلت في صورة أوضح من ذهنيه ثقافية عربية أورثتها قرون التخلف عادة الاستكانة إلى المألوف والمكرّر في ما يشبه أصولية ثقافية، تنظر إلى غموض الآتي فتصاب بالهلع، فتنكص إلى الوراء حيث الماضي الذي تعرفه وتطمئن إليه وتضمن لنفسها في أرضه موطئ قدم.

نصف قرن وأكثر، هي بمعنى ما سنوات السير العربي المتهالك على رمضاء الحروب والمذابح والانكسارات والخيبات، ثم النهوض، أو لنقل محاولات النهوض المتكررة، وهو سير لا يمكننا أن نعفيه من تأثيرات كبرى في مجمل النشاط الفكري والإبداعي، بحيث لا نستطيع أن نقرأ ظهور أو تطور قصيدة النثر في معزل يحولها إلى شرنقة. فالحياة العربية الطافحة بكل هذا القدر من الدم والمرارة والإحباطات الشاملة وإعادة إنتاج الاستبداد، تذهب بنا بالضرورة إلى انعتاق (أو بدقة اكثر محاولة انعتاق) من أقفاص التقليدية التي لا يفيدها أن تأتينا ممهورة بأختام «السلف الصالح» الذي كان هنا ذات يوم، وقال كلمته عن زمنه وفي ضوء زمنه، ولم ندرك - في حالات كثيرة - ان دورنا الحقيقي يتجلى في الارتقاء بكلمته لا في تحويلها إلى تعويذة، ولا إلى برنامج عمل دائم ومقدس لا تجوز مناقشته.

دعونا نتفق على ذلك، إذ ان تلك القصيدة لم تكن - مثلما هي اليوم - سوى وسيلة إيضاح نقطة ضوء نحلّق حولها كي نفتح باب الاجتهاد الذي أقفلته سنون التخلف الطويلة في كل الميادين وليس في الشعر وحسب. «قصيدة النثر» هي إذاً وقوف على حالة عربية شديدة الالتباس، تتطلب من أجل إنهاضها فك ما فيها من تشابك الأشياء بكل ما فيها من غبار لم يكن أبداً جزءاً أصيلاً منها كما يظن كثيرون. ثمة من ذهب إلى مناقشة المسألة كلها انطلاقاً من فكرة اعتبارها تجربة غربية، وهو بذلك يقصد إدانتها وإقصاءها من دون أن يدرك مسؤوليته في تأصـــــيلها، مثلما ينبغي ذلك في مجالات الحياة كلها التي تقول لنا ان انجازات العلم والتكنولوجيا اليوم كلها مستوردة، تنــــبغي إعادة تأصيلها من خلال دمجها في الذهنية الثقافية العربية وليس في دائرة الاستعمال، على ما في الحالتين من فارق جوهري يعكس في الأولى ارتقاءنا إلى مستوى العصر، ويحولنا في الثانية إلى مجرد أفواه تستهلك التكنولوجيا تماماً كما تستهلك الأطعمة الفاخرة.

هو إذاً نصف قرن من المجابهات الصحية نراه اليوم يستحق ما جرى خلاله من دم ثقافي وإبداعي أثمر الكثير، حتى أننا نستطيع أن نتحدث عن قصيدة لم يعد باستطاعة أحد أن يثير شبهة عن نسبها وانتمائها، قصيدة صارت جزءاً حميماً من حياتنا الإبداعية والجمالية ليس من خلال ما قدمه الرواد من شعرائها فحسب، ولكن عبر أجيال لحقهم ينتشرون اليوم في أصقاع كثيرة لا تقف عند لبنان ارض الولادة الأولى، بل تتوزع هنا وهناك، لتضم القائمة أسماء: عباس بيضون، بول شاوول، وديع سعادة، عبده وازن، عقل العويط، جمانة حداد، بسام حجار، محمد مظلوم، عادل محمود، علي سفر، خضر الآغا، أمجد ناصر، زكريا محمد، وليد خازندار، سيف الرحبي، هالة محمد، مرام المصري، فاطمة ناعوت، وغيرهم... خصوصاً تلك الباقة الجميلة من شعراء هذه القصيدة في المملكة العربية السعودية يستطيع رواد قصيدة النثر وفي مقدمهم انسي الحاج والراحل محمد الماغوط أن ينظروا اليوم إلى حديقة باسقة الأشجار لننتبه جميعاً أنها حديقة من الأسئلة... الأسئلة الصعبة والمرة والمفتوحة على مستقبل الحياة برمته.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى