عبدالله البقالي - الملائكة لا تتحدث لغة الشياطين

بالرغم من كل الحنين الذي يشدني إلى الماضي، فأنا لا اجده زمنا جميلا و لا جذابا. فايامه شاحبة، و انتظاراته كانت طويلة تبدو بدون نهاية. و الكبرياء وحده كان يمنع الفقر من إشهار بياناته، و الانفة كانت تصنع رفعة تستطيع أن تطمس كل الشواهد المليئة بالحاجة، و المرددة لأصداء البؤس التي كانت تتردد في كل مكان.
لكن بالرغم من كل ذلك، فقد كان هناك غنى. وهي المرة الوحيدة التي لم يكن الترف فيها يقاس بحجم المكاسب المادية. و لأن مصدره لم يكن العالم الممتد قبالة العين، بل كان في الجهة النقيض لها، فلا تراه إلا بصيرة متوقدة، أو خيال جامح تواق، كانت بساط الواقع أضيق من أن تفسح لريشاته متسعا لفسيفسائه المشكل من ألوان بلا تعداد. كما ان وضاعة الحياة وطاقاتها كانت أضعف من ان تمده بالصلابة التي يحتاجها لإقامة عمرانه السامق الذي يناطح اللامحدود.
و لأن الحلم أنواع، و اتعسه ذلك الذي يضيق به المكان. و لأن الحلم غير قابل للمنازعة و للمصادرة،ما دام انه الكون الخالص للحالم لاتقوم فيه غير مشيئته و إرادته، فقد أمكن لكل من كانت تفصله عن الحياة مسافة، ان يمد سلالم توصل لأبعد مما كانت تتيحه الحياة الحقيقية. وفي الحالات الأقل تطرفا،أن تبني قارات ممتدة جنبا إلى جنب الحياة الأخرى، فتتحول الانتكاسة إلى نصر مدو، و يتحول الصد و الهجران في الأولى إلى ما يصل حد الهيام و التوسل. ويصير التجاهل و النكران نجما اوحد ساطعا بلا مثيل.
هكذا كانت عيون أبناء الفقراء و المحرومين تنظر إلى بنات الأعيان و رجال السلطة بتلك الألفة التي تشي بتعارف وطيد، علما أن أي واحد منهم لم يتجرأ يوما ولو مرة للتحدث إليهن، حتى و إن كن زميلات في الفصل الدراسي.وهم حين كانوا ينظرون إليهن، فليس من باب الاستطلاع أو التطلع لبناء صرح حياتي من شانه أن يقيم عمرانا ما. فقد كانت تلك حماقة معروفة العواقب، و لا يمكن معها التكهن بحجم و عدد الأطراف التي ستنتصب مطالبة برد الاعتبار في حال حدوث اختراق كهذا.
سيبدأ الأمر حتما بالمدرس الذي سيرتسم الاستنكار على نظراته، و الذي قبل أن يتحدث، سيكون قد قال كل شئ بنظراته المتنقلة بين مشهدين متناقضين. سيستعرض مظاهر الفخامة لمرات عدة قبل أن يتوقف قبالة مشهد مغرق في الوضاعة..بين معرض الترف و الأبهة، و الأسمال القذرة التي لن يشفع معها وجه طفولي بريئ يظل من اعلى،و الذي يلمع في أعاليه بريق عينين مليئتين بالمسالمة،و لاأثر فيهما لغير الرغبة في حياة أقل قسوة و اكثر ألفة و محبة.و بعد ان تنتهي مراسيم القصاص والتدمير النفسي من اجل إعادة الاعتبار للنظام في مواجهة الفوضى، سيجد الجاني بعد ان يغادرالمدرسة فتيانا و شبابا و رجالا عتاة سيتركون فيه اثرهم المتجاوزللزمن،و سيكون دائم الحضور كلما خفق القلب على ايقاع نسيم الهوى. و سينتهي الامر في البيت باحتفاء آخر، طقس تختلط فيه الايقاعات التي تعزفها العصي بأصوات كورال متنافسة حول من سيكون الاكثر ارتفاعا، والأكثر ترهيبا. و يختتم كل ذلك بموعظة سيتطوع بها الاكثر لطفا، و تتولى تصحيح قراءة إحداثيات خريطة يفترض في قارئها أن يكون مجردا من الأحاسيس. وعليه أن يدرك دائما أنه في مستنقع الوضاعة، لا يجوز أبدا للشياطين ان تتحث إلى الملائكة.
عاالم حين يتحرك ففقط لكي يضيق أكثر، فهو ينكمش،و في تراحعه تضيق معه المساحات،ليتم اكتشاف أن الحلم هو السبيل الوحيد للمعاندة. و ان المصادرة تكبر اكثر لحد ان الانفاس حين تلفظ لا تجد مدى تمضي إليه. ووحده نداء الحلم يشق طريقه محرضا على العبور ألى قاراته الممتدة بلا حدود.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى