شوقي ضيف - الخطابة السياسية في التاريخ الاسلامي

كان كل حزب من الأحزاب السياسية يتخذ الخطابة وسيلة إلى نقد خصومه وبيان نظريته السياسية واستمالة الناس إليها وكذلك كان يصنع الثائرون على بني أمية من أمثال يزيد بن المهلب في تحريك الناس إلى الثورة عليهم وكأنما قامت عندهم جميعاً بما تقوم به الصحافة في عصرنا من الدعاية للآراء السياسية، فانبرى خطباء كل حزب يدعون إلى نظرية حزبهم وبيان أنهم على الحق وخصومهم على الباطل، فهم الجديرون بأن يعتنق الناس مبادئهم ويذودوا عنها ذياداً.
وكان الخوارج يصفون بني أمية بجورهم في الأحكام وتعطيلهم حدود الله، ويتناولونهم بألسنة حداد وقد يضيفون إلى ذلك مواعظ تصور عمق تدينهم وتمسكهم بالعروة الوثقى، ومن أشهر خطبائهم قَطريُّ بن الفجاءة وتحتفظ كتب الأدب له بموعظة رائعة، ومن خطبائهم أبو حمزة الخارجي، وقد روى الجاحظ خطبة طويلة ألقاها في أهل مكة، وهو يفتتحها بالحديث عن رسول الله وهَدْيه واقتداء أبي بكر وعمر به، أما عثمان فعنده أنه أتى بما أحبط به الأوائل، وأما عليّ فلم يبلغ ـ في رأيه ـ من الحق قصدجاً. ثم اقتصّ خلفاء بني أمية خليفة خليفة يثلبه، إلا عمر بن عبدالعزيز فإنه أعرض عنه. ونراه ينحى باللائمة على مَن يتشيعون لآل البيت، ثم يصف أصحابه ونضالهم دون عقيدتهم وصفاً رائعاً. ومن خطباء الخوارج المشهورين زيد بن جندب خطيب الأزارقة وابن صُديقة وكان صُفرياً ناسكاً وشُبَيل بن عزره الضُّبَعي وعمران بن خطان وحبيب بن خُدرة الهلالي والمُقَعطل وعبيدة بن هلال اليشكري ومنهم الضحاك بن قيس ونصر بن مِلحان وعبدالله بن يحيى طالب الحق والطِّرمّاح وغيرهم كثير.
ولا يقل خطباء الشيعة كثرة عن خطباء الخوارج ومن أشهرهم الحسين بن علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وزيد بن علي والمختار الثقفي وسليمان بن صُرد وعبدالله بن مطيع وعبيدالله المرِّيّ، ومنهم بنو صوحان: صعصعة وزيد وسيحان. وكانوا يكثرون من القدح في بني أمية وأنهم اغتصبوا الخلافة من أصحابها الشرعيين ورثة النبوة وحملة الرسالة القدسية الهادين المهديين والأئمة المنتظرين.
ولم تطل مدة عبدالله بن الزبير ومع ذلك فقد ملأ دفاتر العلماء كلاماً، وكان أخوه مصعب واليه على العراق خطيباً مفوهاً وله خطبة جعلها كلها آيات قرآنية. وكان حول بن الأشعث كثير من الخطباء، وكان يزيد بن المهلب خطيباً مفوهاً، وقد روى الجاحظ بعض خطبه.
وكان يقف في الصف المقابل من خطباء الأحزاب والثورات خطباء بني أمية يدعون الناس إلى التمسك بحبل الجماعة وتأييد الأمويين في حقوقهم التي اكتسبوها عن آبائهم، وتقديمهم لهم فروض الطاعة والولاء، وكثيراً ما يخلطون ذلك بالتهريب والترغيب، وقد يشيرون إلى مقتل عثمان وأن الأمويين أولياء دمه وورثة خلافته. ولهم مواعظ لا نشك في أنهم قالوها في صلاة الجمعة والعيدين ككثير مما روي عن زياد والحجاج، وعن بعض خلفائهم وخاصة عمر بن عبدالعزيز الخليفة الزاهد المشهور. وأكثر خلفائهم كان خطيباً، ولهم خطب تدور في كتب الأدب والتاريخ. ومن خطبائهم بجانب من قدمنا عتبة بن أبي سفيان والي معاوية على مصر وعبيدالله بن زياد وخالد بن عبدالله القَسري ويوسف بن عمر الثقفي وسعيد بن العاص وابنه عمرو الأشدق، ومن قوادهم الخطباء موسى بن نصير وطارق بن زياد اللذان فتحا الأندلس وقتيبة بن مسلم ونصر بن سيار فاتح التركستان.
وعلى هذا النحو كان لكل حزب خطباؤه الذين يذودون عنه وينافحون عن مبادئه، ولم يكن هناك داع لفكرة أو لنضال في حرب لا يقف في الناس خطيباً، وقد بعث ذلك على نهضة الخطابة السياسية في هذا العصر نهضة واسعة. ولعل هذه النهضة هي التي جعلت المؤرخين حين يعرضون علينا الآراء السياسية أو المذهبية لزعماء هذا العصر يعرضونها علينا في شكل خطب، على نحو ما نجد في الطبري وابن الأثير، فهم إذا أرادوا أن يعرضوا علينا رأياً للحسين بن علي أو لحفيده زيد أو لأي داع شيعي أو خارجي أو أي ثائر زبيري وغير زبيري أو لأي وال أموي أو قائد يقود الجيوش عرضوه في صورة خطبة، فهم لا يقولون إن فلاناً كان يرى كذا أو كذا، وإنما يقولون خطب فلان فقال كذا وكذا. فهم لا يتصورون صاحب نحلة سياسية يعرض رأيه في شكل حديث بل لابد أن يعرضه في شكل خطبة يقرع بها الأسماع ويجذب القلوب.

* المصدر : الفن ومذاهبه في النثر العربي



شوقي ضيف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى