عبد الله الستوكي - الأداب الكولونيالية في المغرب : المغرب كمصدر لإلهام الآداب العالمية

يفرض حقل البحث والتنقيب في مجال اهتمام مختلف الكتاب الأجانب بالمغرب، على الباحث تقليص طموحاته على المستوى الكيفي على الأقل. لذا، سندع جانباً المتن المصنف في خانات العلوم الاجتماعية، الدراسات التاريخية والأبحاث ذات الطابع الاجتماعي أو الاقتصادي، مكتفين بالتركيز على مساءلة الدور الذي لعبه المغرب في رحم الإبداع التخييلي للكتاب الأجانب عبر العالم.
إن هذا الورش شاسع في حد ذاته، مما يولد استحالة تلخيص كل جوانبه في مقال ذي حجم يخضع لإكراهات الإخراج الصحفي.
إلى حدود استعمار البلاد خلال العشرية الأولى من القرن العشرين من طرف الزوج الفرنسي الإسباني اللامتماثل، ظل الأدب المخصص ل «المغرب الأقصى»، في أغلبية نصوصه، مؤلفاً من سرد مجريات أسفار التجار، الديبلوماسيين، رجال الدين الساعين إلى «شراء» الأسرى المسيحيين، الملحقين بالبعثات الديبلوماسية والقنصلية، سرد كان يقوم على تدوين الأحداث والوقائع اليومية من طرف هؤلاء ومعهم ضباط منخرطون في عمليات عسكرية أو مكلفون بتأطير الأهالي الجنود، مستكشفون يكشفون عن هويته أو يتقمصون أخرى، جواسيس، مبشرون شجعان، عبيد أوربيون عادوا أحراراً إلى أوطانهم بعد عتق رقابهم مالياً، إلخ...
على سطح كل هذه التوقيعات التي لا يمكن وسم أصحابها دائماً جملة وتفصيلا بالكتاب أو الأدباء، تطفو أسماء محددة. إنها أسماء بِلووْ، ستيارت، روسل، سان أولون، مُووِيت، شينيي، هوست، مارمول كارناجال، لومبريير، ڤيوشونج، روت، هارينغمان، بريسون، أرنو، شارم... وهم من بين الكتاب القلائل الذين يمكن لإنتاجهم إثارة قسط، ولو يسير، من انتباه القارىء المعاصر المتمتع ببعض الفضول. ومع ذلك، فمن الإمكان الاتفاق إلى حد ما مع الأكاديمي المغربي الذي أكد أن هذا الصنف من الرحالة الكتاب لا «يواجهون الآخر (إلا) لمعرفة ذواتهم أكثر».
جميعهم جاؤوا إلى المغرب لدوافع وأسباب بعيدة كل البعد عن حوافز السياحة الفعلية. وفي الطرف النقيض لهم، نجد مسافراً استثنائيا كتب حول مؤلفه الموسوم ب «رحلة إلى إمبراطورية المغرب» (1791): «أختتم عند هذا الحد سرد مجريات رحلة لم أعتبرها قط تجربة ستهبني معرفة كبيرة، بل كنزهة ممتعة (...). إن عدم القيام بأي شيء انشغال جد عذب، ولذا، فمن المسموح به تنويعه ومنحه للرؤية أكثر». الأمر يتعلق بجون بوتوكي، الأرستقراطي البولندي ذي المرتبة الرفيعة الذي يعشق الذهاب «لمجابهة الخطر بفعل الفضول النزوع للمجازفة». وقد تحدث عن المغرب بتطابق معه، وبدون أفكار مسبقة رغم هيمنة هذه الأخيرة في تلك الحقبة. ولقد أقدم على هذا كرجل ذي فكر نير من طينة الذين خلقهم عصر الأنوار الجميل.
هناك أوربي آخر يمكن مقارنته بجون بوتوكي، وهو، بكل تأكيد، الإيطالي إدموندو دي أميسيس الذي نشر في 1876، إثر قيامه بزيارة للإيالة الشريفة، كتاباً حول المملكة بعنوان «المغرب». وقد وصف فيه، بدون أفكار جاهزة ولا تساهل، أرضاً كانت لاتزال تُلقب ب «الإمبراطورية الموسرة» رغم كل شقوق تاريخ لم يكن يبشر بالخير. وباستثناء هذا البولندي وهذا الإيطالي، نجد أنفسنا عاجزين عن ذكر أي اسم آخر لا يمارس أسلوب (وهو أسلوب رديء) كتبة المناسبات المجهدين لأنفسهم، أولئك الذين يجبرون أقلامهم على رسم صورة متوحشة، خطيرة ومنفرة للمملكة الواقعة في رأس الشمال الغربي لإفريقيا.
ربما يكون بيير لوتي، المتكلف والموهوب في ذات الآن، الوحيد الذي تميز ضمن قطيع التفاهة هذا، ذلك أنه يمتلك، رغم كل شيء، بعض المزايا. ورغم ذلك، فهو يظل، بلا منازع، باعث المدرسة الكولونيالية التي ستخلق، لاحقا، حملة راية التدخل الامبريالي: الأخوان ثارو، هنري، بوردو، كلود فارير، موريس لوغلاي، روني أولوج، أندري شڤريون وتابعين كثر لهم.
لنتذكر الخاتمة الشهير التي يُنهي بها لوتي وقائع رحلته الى المغرب كمرافق لسفير فرنسي مبعوث لدى الحسن الأول. في خاتمته تلك، يستحضر صاحبا حلما مغاليا: «أيها المغرب الداكن، امكث طويلا جداً مُسَوَّرا، منغلقاً في وجه الأشياء الجديدة، أدر ظهرك جيداً لأوربا وتجمد داخل الماضي. نم طويلا وواصل حلمك القديم، حتى تبقى هناك على الأقل بلاد أخيرة يؤدي فيها الناس صلواتهم...»
هذا النداء الماضوي نوعا ما، بل الناكص والرجعي، يعبر، بجلاء دون شك، عن عمق فكر كثير من المؤلفين الذين اشتهروا في مجال الكتابة الأدبية خلال فترة الحماية الفرنسية. لقد كان ليوطي، أول مقيم عام في الرباط و «مؤسس المغرب الحديث»، يحلم، بكل تأكيد، باستمرارية النموذج الذي دعا إليه لوتي بكل ما يملك من طاقة على التمني، لكن مع إضافة تتمثل في وضع البلاد على مدار الرفاهية الاقتصادية.
هي ذي العقيدة التي ستحرك باستمرار، تحت إمرة صولجان وسوط ليوطي، جيلي كل الذين سعوا إلى تجسيد العمل الحضاري الشامخ لفرنسا متباهية بما تفرضه عليها صيرورة التاريخ من فعل/ مهمة، جيلان اثنان نجح بعض أفرادهما وفشل آخرون، مثلما تميز بعض أعضائهما بجودة أدائهم، بينما خانت المَلَكة البعض الآخر.
إذا ما استثنينا نماذج قليلة، فمجمل الفصاحة المؤثثة للأدب الكولونيالي تنتصر حد الإطناب، للمدح المبالغ فيه للمستعمِر (بكسر الميم) وتلجأ بشكل صريح الى الحط من المستعمَر (بفتح الميم). على مستوى المغرب، يصطدم القارىء طول وعرض المتن الكولونيالي، بقاموس يتأرجح بين الأفول، الكفن، ما بعد القبر، شعب الأشباح، الفاشل الأبدي، التوحش الهمجي، البياضات المغرقة في الظلام، القلق، لحد الفكر، العمى، التخلي الرباني والحقبة البائدة، إلخ... ومقابل هذا المغرب المكدر، توجد فرنسا، فرنسا التي تُراكم لصالحها عبر أقلام حاملي مبخرتها هؤلاء، الكلمات والعبارات التقريظية الدالة على البطولة، على «فتح الأرواح» على «الإكراه المرح» وعلى التهدئة، والمؤشرة كذلك على الحظوة والاحترام، الحضارة المنتصرة، الابتكار المتجدد والكرم الفطري، إلخ...
لا تخشى إطلاقاً هذه الصور الكتابية الإدمان في نعت الأشياء بنقيضها، وذلك الى حد الابتذال، بهدف إبراز المفارقات التي تنحت وتصقل صورة المغرب، تلك «القطعة الملكية» التي كان من الواجب الانقضاض عليها كي تفلت من أطماع القوى الامبريالية الأوربية المنافسة. لقد اعتبر كل «العمال الكولونياليين» (الأخوان ثارو وجميع زملائهم طوال نصف قرن) أن أجمل وأسمى مكافأة متاحة لهم هي خدمة إنتاجهم لفرنسا واستفادتها منه.
وبفعل إصرارهم على تناول المغرب كموضوع عبر غرائبيته المطلقة، سهولته المفترضة ونوادره المغالية والمصطنعة، فإن الكتاب الكولونياليين حفروا قبورهم بأنفسهم ليسقطوا في غياهب النسيان.
ليس ثمة اليوم كتاب واحد من هذا الصنف تتم قراءته أو يعاد طبعه، باستثناء بعض الحالات النادرة والغريبة المتولدة عن نزعة مازوخية. لكن هناك ثلاثة مبدعين يتموقعون خارج سرب حلفاء الامبريالية الأوربية، وهم فرنسيان وأمريكي: هنري دو مونثرلان، فرانسوا بونجون وبول بولز. إن الثلاثة يؤكدون بأسلوب ومقاربة مختلفين، مناهضتهم للاستعمار، مناهضة معزية لكل الضمائر الحرة. وبفضل هذا، ولكن ليس بفضله فحسب، فقد أنتجوا أعمالا حول المغرب ذات قيمة كبيرة يمكن وسمها بالأساسية.
لم يعش الثلاثة كلهم بالمغرب، ولذا فهم لم ينقلوا عنه، بالضرورة، تجارب معيشة. وهم ليسوا كذلك من الفئة التي بالإمكان نعتها بالتقدمية الواعية بضرورة إعمال ما يشبه الرسالة الإنسية أو التاريخية. إن الثلاثة، ومعها أسماء أخرى تعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة، شخصيات أحدثت قطيعة مع تقليد أدبي معين متوافَق حوله، ولم تستطع التخلص من سيطرة السلف، الذي يضم في صفوفه توقيعات فاتنة.
أجل، الجميع يتذكر ڤولتير الذي كتب جملة مشعة بمناسبة حديثه عن الأوربيين الذين يولدون الانطباع بأن الحليب يسري في عروقهم: «الزاج، النار، هذا ما يجري في شرايين سكان جبال الأطلس». أجل، إنها جملة لا تخلو ربما من مبالغة في صياغتها ومضمونها، لكنها مختلفة عن النظرة السلبية لمغاربة القرنين الثامن والتاسع عشر خصوصاً الموصوفين ب «الجنس الأبله» القابل للخضوع للاستعمار وفق المنى.
لقد رفض بولز، مونثرلان وبونجو تلافي خطر للسقوط في شراك خطر غيره، وأجبروا أنفسهم على المشاهدة والنظر، مثلما نصح بذلك بطريقة ذكية جون بوتوكي، أي «إعادة نحت الزجاج في الدول، حيث هو موجود. (قصد تجنب) ركام الملاحظات الخاطئة الهائل!»، والتخلص من «النظارات التي جلبوها من بلدانهم ونسوا تماماً أنهم يضعونها» مع استعمال أخرى متوافقة مع الفضاء الجديد.هذا بالضبط ما عجزت عن فعله أسراب من الكتبة وضعوا على أعينهم أغشية برسوم مثقبة أدمنوا على التسبيح بها، صور مسبقة مهينة لشعب ولأمة ليس لا أفضل ولا أوضع من الشعوب والأمم الأخرى، لكنهما تعرضا لظلم وبغي التاريخ الجائرين، وهو عجز مثير حقاً للتعجب!






عبد الله الستوكي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى