علي زيعور - الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم

تمهيد

في الكرامة، وفي التصوف بوجه عام، مرحلتان متعاكستان: الأولى هي مرحلة الانغلاب التي هي قهر وانسحاق للذات، حيث نجد الشخصية منجرحة، مهزومة، توجه عدوانيتها إلى الداخل، وتبخس ذاتها بذاتها، وتضئل قيمتها بتخيل مستمر للموت والذنوب الهوامية ( الفانتازم ). وهنا تتخلى الأنا عن إرادتها، بل وعن وجودها، لمصلحة أنا عليا متمثلة في خوف هوامي من الله بل ومن الأب ومن السلطة عموما أو من الشيخ المعلم. وفي المرحلة الثانية، مرحلة التغلب، تنقلب الأدوار فيستعيد الصوفي اعتباره لذاته ( جسمه، روحه، قيمته ) منتصرا على مخاوفه الهوامية وقلقه وشتى عوامل انجراحه. وبذلك الانتصار يحقق توازنه الانفعالي المفقود، ويشعر بشخصيته وقد تمثلت القيم العليا التي كان يرهبها. بل إن شعوره بذاته يتضخم، ويبلغ درجة مرضية قد توقعه في العظام (ميغالومانيا) والنفاج (بارانويا) والتخريف (فابيولي). فمن إذلال الذات، واجتياف تبخيسها المستمر، ينتقل الصوفي إلى أحاسيس بالعظمة، وإلى التقييم المغالي للذات. هنا يرى نفسه أسمى من المحيط، واقدر من الإقران، فينتفخ وينتفش وينتفج، ذاك ما يدفعه أحيانا كثيرة للتعبير عن إحساساته تلك بالكرامات التي تظهره إلها، خالقا، قادرا، ساميا ومن طينة غير بشرية. فهنا يقول أنا الله، سبحاني ما أعظم شأني، أنا أحيي وأميت، لوائي أعظم من لواء الأنبياء، أنا شفيع الناس كافة يوم القيامة... هنا نزعته للإظهار والاستعراض، هنا السلوك الناجم عن " عقدة المشهدية" التي نعرفها كمصطلح شهير في التحليل النفسي.

و في الكرامة جانبان متعاكسان: الواقعي، الظاهري، الخارجي، وما يقدم للإنسان العادي من جهة، والرمزي، الدلالي، الإشاري، أو الإيحائي من جهة أخرى. فالجانب الأول أساء للمجتمع والفرد إلى حد يجعلني أرى في التصوف أسوأ كارثة حلت بالذات العربية. فهنا الاختلاق، واحتقار الدهماء، والتنكر للواقع والجسد والعقل، والانعزال والانسحاب والسلبية، واللاإجتماعي بل وما هو ضد المجتمعي، والتوجه نحو الثقافة المَوْتية والقتامة في الحياة. أما الجانب الثاني فيتوجه إلى ما هو نفسي، إلى عالم الانكفاء على الأنا والصميم والداخلي. هنا يبدو العطاء الصوفي، كرامات كان أم شعرا أو سلوكا وبطولات وما إلى ذلك، يطال العالمية، ويطل على الإنسانية، ويقدم الإنسان سيدا على مسرح الطبيعة والحرية والمصير. فهنا يبدو الإنسان دعوة لأن يكون، ولأن ينوجد ويتقدم، لأن يسمو فوق تناقضاته وفوق نفسه، وأن يتخطى المألوف والشائع والعمومي والعادي والعاداتي كي يخلق نفسه وعالمه وقدره. وهنا تظهر الكرامة خلقا، أو إعادة خلق بشري للعالم وللقوانين، ويكون التصوف نداء للإنسان كي يغير ويثور ويصقل الأنا الصميمي وفق قيم الكمال والحكمة والبطولة. وهنا يظهر الفرد صاعدا إلى المطلق، مستبدا باستمرار ودون توقف للمثل، طامحا للتكامل ولبلوغ ذاك المستوى الأعلى الذي يفصل الإنسان عن الله. وهنا يحاور الإنسان الله، يرضى عن الله، يقبل الله، ويجعله في قلبه وقسما من الذات البشرية عن طوع وبقصد وحرية. هنا الثورة الصوفية، هنا فهمنا للحرية والله والآخر والقيم فهما من أسمى وألطف ما عرفته الذات العربية وما تستطيع تقديمه للبشرية.

وفي الكرامة قطاعان: الواعي حيث يسود الفكر والوضوح، واللاواعي حيث المضمر والمقنّع والرمزي، وهما عالمان: عالم الوقائع الخارجية التي تجري فعلا وتحصل أمام العين، وعالم التجارب الصميمية التي يفصح عنها بواسطة الرموز. لكن المحتوى الخارجي، الواعي، الواقعي يتوازى مع المحتوى المضمر للكرامة. من هنا الصياغة بواسطة حوادث ووقائع خارجية وفعلية عن تجارب " روحية" أو صميمية أو صوفية. فالصوفي الذي، مثلا، يأتيه الملاك (أو الجني أو الطارق الغريب) قائلا أخرج إلى الناس أو إلى المسجد، فيخرج ويحل مشكلة أخلاقية هو صوفي يستمع إلى صوت الضمير (الملاك، نداء الله، الهاتف...) بعد عزلة أو جدب أو تردد أو تمنّع. والذي رفض الخروج من البئر إلا بعد لأي، وعندما أنقذه الأسد، هو شخص تجاذبته نزعاته الجسدية من جهة وضميره من جهة أخرى... المهم هنا أن القطاع اللاواعي، بحكم موازاته للعالم الواعي، والقطاع الخارجي الفعلي، بحكم موازاته للعالم الذاتي والروحي، قد وجدا تعبيرا عنهما بحوادث قابلة لأن تحصل في العياني وأمام العيان. استكشاف اللاواعي، إذن، كان في كتابنا هذا بالانتقال مما هو رواية مجريات الواقع ووقائع إلى ما هو تجربة صميمية وأواليات نفسية.

وفي الكرامة اتجاهان: اتجاه يرفض المجتمع والجسد باحتقار، وثان هو مرحلة تالية ينصرف عنهما ليعود أقوى، أو ليبني المجتمع الأكمل، والجسد الأسلم انقيادا للقيم.

وفيهما اشتياقان: توق إلى المطلق واللامحدود و الخلود، وآخر إلى نسيان قهر الواقع للإنسان والهروب من الانجراحات، الخاصة والفردية، ومنهجان: عملي يمارس الرياضيات ويكابد الجسد، وفكري يتأمل المطلق والقيم. واحد يروض البدن، وثان يصقل النفس من الداخل أو يعمل على " البدن" النفسي. و هنا اندمج المنهجان في مبدأ حياتي هو سلوك، وطريقة عيش، وأسلوب تطهر ودرب للخلاص وحل مشكلة الإنسان أمام القدر والموت.

وفيها أيضا لغتان: لغة الكلام والمنطق والاقناع، وأخرى أقدر على الإثارة، والتوجيه، والتوصيل والأداء، وأقرب إلى الإيحاء والإشارة، وتدق عن العبارة والصراحة.

وفيهما، بعد أيضا، قطاعان: سوي ومرضي (باثولوجي)، حاضر وسحيق، متحضر وهعمجي أو ابتدائي. ونوعان من القلق: قلق تجاه المصير، فتحل المشكلة هنا بإخراج الذات المقهورة من قبل القدر إلى الكل، وبإدخال الفردي في الرمزي، والأنا في المطلق. وقلق إزاء المجتمع والسلطة وشتى رموز الأب القمعي تخفف التوتر الناجم بمحو الذات، والقفز فوق الواقع طلبا لبلوغ المطلق كي تغرف منه القدرة على التنوير والبناء، وإزالة ذلك القلق والمخاوف المجتمعية.

بسبب تلك الثنائية في الذات و الوعي – في الكرامة ، في الأمثال الشعبية ، و الإناسة ، و التصوف – تقوم النظرة المتجاذبة و ( المتكافئة أو الثنائية ) القيمة. قد يتغلب خط على آخر ، قد ينتصر الهادم أو الفاتر على الاتجاه البناء و الأخر الإيجابي و الموضوعي ، و قد يتوازنان دون رجحان كفة على أخرى ، أو قد يتصارعان ... ، لكن الإثنين ، معا ، واحد. و هما ، سويا ، نتاج ذات واحدة في مجتمع واحد. لذا فالتجهم – كالرفض الفظ – لا يبني ، و لا يكون عادلا ، و لا يرى إلا بعين واحدة. فالتصوف يعطي حكمة تنبع من صميم الذات العربية و تصلح لأن تخدم الإنسان أو البشرية ، لكنه ، من جهة مقابلة ، يبدو مجملا من السلبيات و الانسحاب و ما إلى ذلك. بل و يبدو ، بعد أيضا ، ظاهرة عالمية ، و لغة عالمية. و ليس عملنا ، في هذا الكتاب ، تقييم التصوف ، و لا عرضه أو مناقشته ، فالقضية التي تهمنا تحلل ما نراه يؤوب إلى اللاوعي في الذات العربية.

**

تبدو الكرامة الصوفية للوهلة الأولى نتائج عقلية لا منطقية أو قبل منطقية : من هذه الزاوية سنقول بتسرع إنها " كذبة " على الذات و الغير. في هذا القول قساوة ، لكنها قساوة ضروررية في المجتمع الذي تكثر و تحيا فيه بقوة كحال مجتمعنا. فهي ما تزال تحتل طبقة عريضة في عقلية الفرد ، و تقود سلوك فئة اجتماعية. و ما تزال بأشكال و ألوان مختلفة مستمرة داخل الذهنية الفردية حتى هذه الأيام : عند الشاعر و الطفل و المنحل عن المجتمع و في حالات مرضية كثيرة ، و في ثنايا بعض تفسيراتنا للظواهر و الكون ، و في حالات عجز العلم عن تقديم إجابة مشبعة ، و إلى حد ما في الاستمتاع النسبي بسماع أو قراءة أو مشاهدة المغامرات السينمائية و القصص الشعبية البطولية.

الكرامة موجودة كالأسطورة ، فقط درجة تأثيرها هي التي تختلف. إنها موجودة في كل العالم ، لكنها عندنا أشد فعالية ، و أكثر حدة ، و ديمومة و اتساعا ، إنها مخيفة داخل الأمة العربية. بعض أساطيرنا ، نجد ما يشبهها في الكثير من بلاد العالم : بعضها موجود دون اختلافات تذكر في أمصار بعيدة عنا ، و عبر أزمنة متعددة. و التشابه في هذا المضمار يبلغ درجة مدهشة في بعض الحالات مما يدعو إلى البحث في كراماتنا و أساطيرنا عن رموز عالمية و شاملة ، تهم الإنسان عامة ، كل إنسان.

يبدو قبل كل أمر أن الكرامة فكرة و تطبيق ، واقع و نظر ، كلام و سلوك ، إنها حالة معاشة ، و حقيقة تمارس. يذكرها الصوفي مقتنعا ، و يقدمها على أنها حصلت و تحصل فعلا... و على هذا المبدأ يتوجه في حياته و أقواله ، و يلتف حوله مؤمنون و به واثقون. فيتهم هؤلاء بعدم الفهم من لا يصدق الكرامة ، و يعزون إلى الله سبب عدم هداية المتشكك و سبب اجتراحها عند الصوفي ، المسمى أحيانا " ابن جد " في التعبير الدارج.

قراءة الكرامات نافعة : فهي نافذة واسعة على اللاوعي الشعبي ، و على التمثلات الاجتماعية التي لم تتحقق ، و الأحلام المرجوة ، و هي طريق لاحب إلى معرفة التاريخ الروحي للشعوب الإسلامية. و توفر إمكانيات استكشاف الصراع داخل الذات المتصوفة في مآسيها المتلاحقة ، و تظهر بمثابة وسيلة لدراسة قدرتها الخيالية الخلاقة. عبرها و بها تعرف التأثيرات الدينية في سير الإنسان ، بل و في التاريخ العربي ، و يتم التقاط التاريخ الترهي العربي ( و الإسلامي عموما ) ، و تقميش الأساطير العربية – الإسلامية ، و الإطلالة على القطاع الأنثروبولوجي.


من مقدمة كتاب الكرامة الصوفية و الأسطورة و الحلم للدكتور علي زيعور. منشورات دار الطليعة ببيروت. 1977 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى