فريد أبو سعدة - كتب عذراء

الكتب، زمان، كانت مختلفة عما هي عليه الآن. هل لأنها كانت اقل جودة، من وجهة نظر الصناعة، كان لها هذا السحر؟! كنا نجد لها رائحة خاصة، رائحة الحبر والورق والغراء. مزيج خاص يجمع بين روائح هذه العناصر مع عرق عامل الطباعة، وعرق عامل التجليد، ليعطي الكتب هذه الرائحة المحببة.

زمان كنا نجد ملازمها مغلقة من جهة أو جهتين، كان هذا بالطبع نتيجة عمل غير جيد في قص الكتاب، لكننا كنا نجد في ذلك خصوصية نشعر معها بالزهو، إذ سيكون علينا أن نكون أول من يفضها ونكون أول القارئين!

كان يمكن، في زياراتنا الى بعضنا بعضاً، أن نعرف كم أمضى مضيفنا في قراءة كتاب ما. فإذا ذهب ليعمل لنا الشاي مثلاً، تلصصنا على الملازم المفتوحة في الكتاب. كان هذا زمان، فقد تقدمت الطباعة خلال العقدين الأخيرين في شكل مذهل، على الأقل، لم تعد الملازم مغلقة كما كانت، ولم تعد لها هذه الرائحة الخاصة. وبعد أن كان الإدعاء بقراءة الكتب صعباً، اصبح ميسوراً ومتاحاً للجميع. فالكتب كلها مفتوحة، ويمكن من يشاء أن يقلِّب في الكتاب، ويلتقط عبارة من هنا أو هناك يؤكد بها، كالذي على رأسه بطحة، انه قرأ الكتاب من الجلدة إلى الجلدة!!

ساهم الإتقان إذاً، على عكس المتوقع، في زيادة عـدد المدعـين، وسلحهم بقـدرة معـقـولة عـلى الإقناع!!

كنا، في صبانا الباكر، نستأجر الكتب، وكان صاحب المكتبة يؤجر لنا الكتاب بنصف قرش إذا أعدناه من دون فتح الملازم، وبقرش كامل إذا فتحناها. كان علينا أن نعاني من أجل القراءة، أو نتدبر أمورنا إذا ما أردنا أن نستمتع بالقراءة وفض الملازم. وعندما مضى بنا الزمن قليلاً، وأصبح في الإمكان شراء الكتب القديمة، كان ما يقع لنا من الكتب العذراء يمثل هبة رائعة، أما ما يقع لنا منها وعليه إهداء من كاتب كبير الآن إلى كاتب أكبر زمان فكان أمراً مدهشاً بحق.

علمتنا الكتب العذراء درسين: درساً في التواضع وعدم الادعاء، ودرساً في أن الكتابة أمر غاية في الصعوبة. والكتابة الجيدة، التي يمكن أن تلفت الكبار فلا يلقون بها عذراء، أمر قريب من المحال!! لا شك في أن كتباً كهذه تركت على سور الأزبكية، مع صمت طويل من الكبار تجاه أصحابها، فلم يردوا على رسائلهم أبداً، تلك التي كرروها آملين في كلمة تشجيع، ليس إلا.

الغريب حقاً أن واحداً من الإهداءات التي وقعت لي، على هذه الكتب العذراء، كان من كاتب ناشئ وقتها، إلى كاتب كبير، أصبح الناشئ الآن يملأ الدنيا، وتترجم أعماله إلى اللغات الحية، بينما طوى النسيان من أهدي إليه. كأن في انقراض ذكره عقاباً على إلقائه الكتاب غير مفتوح!!

على أية حال كان هذا زمان، عندما كان البعض يحتاج إلى شهادة البعض، الآن لم يعد الأمر يحتاج إلى كل هذا العناء،. على العكس، أصبحنا نجد كتباً لمن يستطيع دفع الثمن، بل وكتباً مدفوعة الأجر في نقد أعمالهم أيضاً!

كان، زمان، للناشر أهمية خاصة. فكتاب صادر عن دار المعارف أو الحلبي أو اللجنة المصرية للتأليف والنشر أو مكتبة مصر، إلخ. لا بد من أن يكون كتاباً مهماً، لأنه يكتسب أهميته من هذه الدار أو تلك، ومن اللجان التي تقر النشر. أما الآن فلا يحتاج الأمر إلا الى النقود، إذ يمكنك خلال سنة، مثلاً، أن تصبح روائيا أو شاعرا أو ما تريد، وتملأ الـ C.V بعشرة كتب إذا كنت قنوعاً وكتاب أو أكثر في نقد هذه الكتب، وببعض حفلات التوقيع الباذخة، في العلن أو السر، ستنهال الأخبار من الذين رأوا ذهب المعز.

شيء أشبه بغسيل الأموال، هذا الذي يحدث الآن في سوق الأدب، شيء يمكن أن تشم رائحته فتقول، الله يرحم زمان...



خير جليس.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى