سيّار الجميل - كاتب ياسين الروائي الجزائري صاحب (نجمة) الإبداع حينما يحتضر جراء شقاء الوعي !

* الجزائر لم يستكمل قدومها في العالم بعد !! " كاتب ياسين

روعة لا تنسي في مقهي السنترال :

اعتدت مع اصدقائي من الادباء والفنانين العرب والجزائريين ان أرتاد مقهي السنترال في قلب مدينة وهران الجزائرية.. عندما كنت اقيم هناك عند مطلع الثمانينيات استاذا مساعدا للتاريخ الحديث في جامعة وهران بضاحية السينيا.. ويعد مقهي السنترال من اشهر الامكنة العريقة التي تأسست منذ بدايات القرن العشرين من قبل الفرنسيين، وكان من اشهر رواده نخبة من الادباء الفرنسيين المشهورين الذين ولدوا في الجزائر، ويقال ان الروائي البير كامي قد كتب روايته " الطاعون " في مقهي السنترال، وفي ركن معين منها كان ينجذب اليه دوما. كنا نتحدث في السياسة خفية برغم ان عهد الرئيس الشاذلي بن جديد كان قد خفف من وطأة الدكتاتورية بالجزائر ردحا من الزمن. كانت الجزائر قد خرجت من ازمات قوية اثقلت كاهل الناس كثيرا بالمعاناة من جراء سوء الخدمات وضعف الاقتصاد وفساد الادارات.. وكم الافواه وكان سوء تطبيقات الاشتراكية قد خنق السوق، فلا تجارة ولا سلع الا ما تأتي به الدولة التي كانت عرضة لنهب الثروات.. والدولة يحكمها العسكريون، وكثيرا ما اجد ان ميراث الاوجاقات القوي هو الذي تحكم في الجزائر المستقلة، ولكن المجتمع كله كان يتطلع للمزيد من انفاس الحرية والتعبير التي افتقدها عقودا طويلة من السنين، ودفع الثمن باهظا من اجل استقلاله الوطني، وحرياته .

الجزائريون اسوة ببقية ابناء المغرب العربي قاطبة، اناس طيبون اذا ما كسب الانسان ثقتهم، ولكن فيهم بعض خشونة لمن اعتاد علي الرقة.. اما اذا ما عاشروا احدا وصادقوه فلا يمكن ان يتخلوا عنه بسهولة.. اجتماعيون بطبعهم اذا ما عرفوا اناسهم، ولكنهم يتمردون بسرعة ويتصالحون بسرعة .. فهم لا يعرفون الخبث ابدا.. ومن الاشياء التي تعجبني فيهم، انهم لا يجلسون علي مائدة الافطار في شهر رمضان الا وضيوف وغرباء تشاطرهم الطعام !


حوار مع كاتب ياسين :

كنت اجلس مرات ومرات لوحدي في مقهي السنترال وانا اكتب في رواية اسميتها " الزمن المشدود " وهي لم تزل مخطوطة بقلمي الحبر ولم اسع لنشرها حتي الان بسبب ما تتضمنه من مكاشفات العهد السابق بكل مخازيه.. وكنت اقرأ مقاطع منها علي البعض من اصدقائي. وفي مقهي السنترال او غيرها عند الكورنيش، كان يجالسني دوما اخلص الاصدقاء المثقفين الذين تنوعت اتجاهاتهم وتعددت مشاربهم وافكارهم ومواطنهم ومنهم الاصدقاء الدكاترة : الاخ محمد القورصو والمثقفة الفرنسية فاني كولونا والشاعر السوري محمد عضيمة والتهامي الشريقي وفضل الشيخ وغياث قرموطه وغازي الشمري وبلقاسمي بوعلام وبيير غاسباريان وفخار ابراهيم والبخاري حمانه وكاظم ولي اغا ونعيم الجغنيني وغيرهم.. وكلهم من المثقفين والمختصين .

وفي يوم بارد من ايام شتاء 1984، كنت احتسي قهوة الصباح لوحدي وانا اقرأ الصحف ، اذ يدخل السنترال الروائي والمسرحي الجزائري المعروف كاتب ياسين في هيئة رثة وحالة متعبة جدا.. وكنت قد تعرفت عليه قبل اشهر اذ كان ينتقل بمسرحه عبر انحاء الجزائر. لمحني واقترب محييا بطريقته السريعة وجلس منهكا وقد بان الكبر عليه ودخلنا في حوار ممتع .. احتسي قهوته بسرعة قبل ان ارتشف شيئا من فنجاني بعد.. كانت عربيته علي الطريقة العامية الجزائرية ولكنها مليئة بالمفردات الفرنسية.. كان شجاعا في ابداء ارائه السياسية من دون أي وجل .. كان لم يزل حتي ذلك الوقت يؤمن ايمانا قاطعا بالماركسية منهج حياة وعمل وتطبيق.. كان لا يخفي ابدا نزعته في تأصيل الامازيغية التي يراها الهوية الحقيقية له والفرانكفونية هي الاداة الحضارية التي عبر بها الادباء الجزائريون عن اعمق خلجاتهم! تكلم عن " نجمة " الرواية التي اطلقت اسمه في عالم الشهرة قائلا: هل ماتت روحها الجزائرية لأنني كتبتها بالفرنسية؟ ثم دخل في بحر من المضامين الراديكالية وهو يعد نفسه مناضلا شيوعيا كان وسيبقي يعمل ويناضل ضد الامبريالية العالمية !! وان مهمته الاساسية زراعة الوعي لدي ابناء مجتمعه.. لقد شرح لي لماذا يتنقل وهو في حالة من الشقاء والبؤس والعوز بين الناس ويجر من ورائه مسرحه الثوري ليعلم الفلاحين خصوصا، معني الطبقات ومباديء صراع الطبقات.. لم اجعله يسترسل، بل نجحت في سحبه اثناء انشغاله باشعال سيكارته.. سائلا اياه عن الاشياء التي تميزه عن بقية الادباء الجزائريين المحدثين خصوصا وان الساحة الجزائرية شهدت بروز عدد من المبدعين.. فعاجلني بسؤال مع بداية دخول بعض اصدقائي المثقفين للسنترال قائلا: ومن قرأت لهم؟ قلت: لقد اطلعت علي اعمال عدد من الروائيين الجزائريين المبدعين. عاجلني: من منهم؟ قلت له، منهم: رضا حوحو وعبد الحميد بن هدوقه والمثقف الرائع محمد ديب ورشيد بوجدره وكاتب ياسين والطاهر وطار.. واتابع اعمال: واسيني الاعرج واحلام مستغانمي.. وغيرهم ؟ وجدني صاحب معرفة بشأن ابداعات غيره.. فبدأ يحلل باختزال كل اسم من الاسماء ويعطيني مكانته في نفسه وقد انتقد اعمال بعضهم انتقادا صارخا منطلقا من طبيعة العلاقة الشخصية معهم.. ولكنه اعترف في آخر المطاف بأن تلك النخبة المبدعة التي صقلها عنف التاريخ سوف لن يتكرر وجودها ثانية.. لأن الجيل الجديد - كما اتذكر رأيه - لم يستطع ان يبني نفسه علي نسق ثقافي وسياسي واحد علي عهد الاستقلال، وان معاناته من التعريب الثقافي ومن القهر السياسي لم تجعله منطلقا في اجواء كالتي انطلق بها الرواد الذين بقدر ما حاربتهم وقهرتهم فرنسا، بقدر ما تعلموا منها الكثير !


من هو كاتب ياسين ؟

سألته عن حياته، لأننا في المشرق العربي نقرأ ونتابع ما يبدعه الادباء المغاربة ولكننا لا نعرف الا لماما عن حياتهم، قال: ولدت عام 1929 في منطقة القبائل وانا امازيغي.. كانت طفولتي صعبة ولكنني كنت مشاغبا وطفقت اكتب وانا ابن عشر سنوات فرأي الاخرون عندي مخايل الذكاء واضحة لا تحتاج الي أي تفسير.. مررت قبل ان ادرس في المدرسة الفرنسية بالكتاتيب التي تعلم القرآن علي عادة اترابي التقليديين . لم يشجعني احد علي الكتابة الا احتلال فرنسا للجزائر الذي جعلني اكون سياسيا في كل ما اكتبه واقوله من النصوص النثرية وقصائد الشعر.. لقد ولدت ( نجمة ) من مجموعة ايحاءات وهواجس ورموز كنت الملمها كل يوم علي مدي عشر سنوات، أي منذ عام 1946 لتغدو رواية صدرت في باريس عام 1956 وانا شاب جزائري في العشرينيات والثورة المسلحة قد اندلعت في كل البلاد.. ونجمة هو رمز لابنة العم التي كنت متعلقا بها الي حد الجنون! ( لم يكن اسمها نجمة ، كان اسمها زليخة وكانت متزوجة وتكبره بعشر سنوات.. وعليه ، فالحب نوع من ضرب المستحيل ، فكبت كل مشاعره ليصوغها في ابدع قصائده " بعيدا عن نجمة " سنة 1947 ) .

ويتابع: كنت اخرج مع المتظاهرين اطالب بالحرية معهم في شوارع مدينة سطيف بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها ! لقد قتلت فرنسا العشرات من اخوتي الجزائريين امامي.. لقد شرخت كل اعماقي.. دخلت السجن وخرجت منه فعرفت كيف اناضل وأثور ضد الاعداء.. صرت اكثر قربا من شعبي لأنني عرفت التعذيب لأول مرة وانا وحيد في الزنزانة السوداء .. لقد تمرست في كتابة الخواطر والشعر.. لقد عبرت عن كل ما في دواخلي من الوحشة والاغتراب !

من ابرز اعماله الاخري: " دائرة القصاص " عام 1959، و" مسحوق الذكاء " عام 1959، و" الاجداد تتضاعف ضراوتهم " عام 1959 و" النسر " عام 1959، و" الرجل ذو النعل المطاطي " عام 1967، و" محمد خذ حقيبتك " عام 197، و" فلسطين المغدورة " عام 1983 وغيرها من الاعمال الروائية والمسرحية. قال لي: " انني اكتب ثم اطبع علي الالة الكاتبة ما اكتبه وانا افكر في ما اعمل وانسي كل الوجود من حولي.. " وكان الداعية المصري الراحل الشيخ محمد الغزالي مقيما في الثمانينات بالجزائر بدعوة رسمية وشرفية علي حساب الحكومة الجزائرية ليلقي مواعظه كل مساء عبر الشاشة التلفزيونية عندما رمي كاتب ياسين بالكفر.. وقد اعلن في يوم من الايام وبعصبية متناهية بأن هذا " المدعو كاتب ياسين لا يستحق ان يدفن في ارض الجزائر لأنه.. " . وبالفعل، صحيح ان كاتب ياسين كان مبدعا لكنه كان متمردا علي اشد ما يكون التمرد.. كان يعاني المرض منذ ان التقيت به كما ويعاني جدا من شقاء الوعي ..


النهاية البائسة لكاتب ياسين:

غادرت الجزائر عام 1987 الي المانيا الغربية حيث باشرت استاذا زائرا في جامعة كيل قرب هامبورك، وقد سمعت بأن كاتب ياسين انتقل الي فرنسا للعلاج، لكنه يموت في 28 اكتوبر 1989 في مدينة غرونوبل الفرنسية.. وبعد ثلاثة ايام يسير موكب جنائزي ليحمله الي مثواه الاخير، ولم يكن احد يتوقعه كما حدثني بذلك اصدقائي في الجزائر العاصمة. ومع كل هذا وذاك، ظل اسم كاتب ياسين مختفيا لأكثر من عقد كامل من الزمن.. ومن المضحك ان فرنسا تعتبر رواية ( نجمة ) من اروع ما كتب في الادب الفرنسي وتدرس مقاطع منها في المدارس الفرنسية في حين يتم الغاء اسم كاتب ياسين واقصاء فكره في الجزائر وباوامر رسمية ليس لأي سبب الا كونه نافذة فكرية حرة ويعتبرها الجزائريون الامازيغيون ( = القبائل ) رمزا لهم. واذا كان اسمه اليوم قد اصبح علامة فارقة في الابداع العالمي، فانني سابقي اذكر ذلك المبدع المنحني والذي وجدته يحمل هموم العالم كلها فوق رأسه سواء وهو يحضر مسرحياته الادبية باللهجة المحلية الدارجة او في لقائي الوحيد معه في مقهي السنترال بوهران.. صحيح انني اخالفه في جملة من افكاره المحلية والطائفية ونزعاته الماركسية ومبادئه السياسية ، ولكنني ما دمت أؤمن بالحرية والتفكير، فلابد ان ادافع عنه خصوصا وانه واحد من المبدعين الذين من الصعب ان نلقي مثلهم في أي زمان أو ان ينجبهم أي مكان! لقد مات كاتب ياسين ولم يشهد فصول مأساة الجزائر بعد الانقسامات التي حدثت فيها في التسعينيات، وكم قوافل من نخب المثقفين والمبدعين قد ودعتهم الحياة اثر قتلهم! ومدي القسوة والعنف الذي يجتاح القري والقصبات الجزائرية التي يقطنها الفلاحون الذين اراد كاتب ياسين ان يعلمهم ويزرع فيهم افكاره من خلال مسرحه المتجول ! لابد ان تكون صورة كاتب ياسين ومضامينه وفلسفته مثار اعتزاز وتقدير من قبل الاجماع الوطني.. لأنه سيبقي علامة فارقة في تاريخ الابداع العالمي .



( فصلة من كتاب نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية لمؤلفه سيّار الجميل ).
جريدة (الزمان) --- العدد 1865 --- التاريخ 2004 - 7 - 18

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى